أحمد بوقرّة الوافي: بعضٌ من الاعتراف ببطلٍ أولمبي منسيّ
ليس الفائزُ في سباقات الماراثون بالضرورة هو مَن يكون في طليعة المتبارِين طيلة السباق. أُسقط البطلُ الأولمبيُّ الجزائري الراحل مِن الذاكرة مرّتَين، لكنه يَقفز، بَعد قرابة قرن، إلى موقعٍ مُتقدِّم بفضل الأدب.

ساوَرَت الكاتبَ الفرنسيَّ فابريس كولان (1972) فكرةُ روايةٍ جديدة عندما قرأ، بالصُّدفة، ورقةً تذكارية قصيرة نشرَتها جريدةٌ رياضية فرنسية عن الجزائري أحمد بوقرّة الوافي، الفائزِ بميدالية ذهبية في أولمبياد أمستردام نهايةَ العشرينيات مِن القرن الماضي.
كان الأمرُ بمثابة مفاجأةٍ بالنسبة إلى كولان الذي لم يكُن قد سمع بهذا الاسم من قبل، خصوصاً حين عرف بأنَّ الفتى الجزائريَّ أنقذ مع جول لادوماغ (فضّية سباق 1500 متر) الوفدَ الرياضي الفرنسي مِن العودة إلى الديار خالي الوفاض؛ فقد كانت ميداليتاهُما الوحيدتَين في سجلّ الفرنسيّين خلال ماراثون دورة الألعاب الأولمبية التي احتضنَتها العاصمة الهولندية صيفَ 1928 بمشاركة 2882 رياضياً مِن ستّةٍ وأربعين بلداً.
فاجأَ فوزُ الوافي الجميع؛ إذْ لَم يكُن أحدٌ يُراهن عليه في إحراز نتيجةٍ إيجابية، فضلاً عن افتكاك الميدالية الذهبية. وقد كانت تلك الميداليةُ الأُولى في الأولمبياد لبطلٍ ينحدر من أصول أفريقية وعربية.
بعد فترةٍ مِن البحث في الأرشيف عن مسار البطل الأولمبيّ الجزائري، عَثر الكاتبُ الفرنسي على وثائقَ مُثيرةٍ للاهتمام ومليئةٍ بِالقصص التي لم تُرْوَ بعد، فاّتخذها مادّةً لروايته التي صدرت عن “منشورات أناموزا” في 2019 تحت عنوان “سراب الوافي”.

(غلاف الرواية)
زار كولان كُلّاً مِن الجزائر وهولندا في محالةٍ لاستكشاف سيرةِ ذلك الشاب النحيفِ الذي وُلد في الخامس عشر من أكتوبر/ تشرين الأوّل 1898 في أولاد جلّال بولاية بسكرة شمالَ شرقِ الجزائر، ثُمَّ هاجر إلى فرنسا؛ حيثُ عمل في شركةٍ لصناعة السيّارات برفقة عددٍ من أبناء بلده.
بعد أربع سنواتٍ مِن مشاركته في ماراثون فرنسا عام 1924 واحتلاله المرتبة السابعة في السباق، شارك أحمد بوقرّة الوافي في أولمبياد أمستردام مِن دون تحضيرٍ بدني أو متابعَةٍ أو تدريباتٍ خاصّة. وأكثرَ مِن ذلك، لم يكُن الفتى الجزائريُّ ملمّاً بالبروتوكولات المعتمَدة بعد الفوز؛ فمُباشرةً بعد انتهاء الماراثون توجّهَهَ إلى غرفة تبديل الملابس، بينما كان التشيلي مانويل بلازا، صاحبِ المرتبة الثانية، يقوم بجولةٍ حول الملعَب رافعاً علَم بلاده، فبدا أنه الفائز الأوَّل.
رغم هذه النتيجة التاريخية، لَم يحظ الوافي بأيّ تكريمٍ أو اهتمام يُذكَر وأكمل بقيّة حياتِه فقيراً. نستمع إليه، في الرواية، يَقول متحسّراً: “لم يكترث أحدٌ بي”، في حين “استُقبِل العدّاء التشيلي مِن رئيس بلده الذي أهداه سيّارةً نظير تتويجه بالمرتبة الثانية”.
تجاهَلته فرنسا لأنه جزائري، ولم تلتفت إليه الجزائرُ لأنه لعب تحتَ الراية الفرنسية
لاحقاً، اعتزَل الوافي الرياضةَ وافتَتح مقهىً صغيراً في ضاحية سان دونيه بباريس. وفي 18 أكتوبر/ تشرين الأول 1959، ماتَ مقتولاً في مقهاه في ظروفٍ لا يزال يلفُّها الغموض، ليدخُل اسمُه دهاليز النسيان؛ فلا فرنسا اهتمّت به لأنه جزائري، ولا الجزائرُ التفتت إليه لأنه لعب تحتَ الراية الفرنسية. لقد “أصبحَ رمزاً للرياضيّ الذي نسيه التاريخ”، كما يكتب فابريس كولان.
ومَن يعرف سباقات الماراثون يَعلم أنَّ الفائزَ في النهاية ليس بالضرورة هو الذي يكون في طليعة المتبارِين طيلة السباق. فإذا كان الوافي قد أُسقط من الذاكرَتَين الجزائرية والفرنسية لعقود، فإنّه يَقفز اليوم – بعد مسافة قرابة قرن – إلى موقعٍ مُتقدِّم.
اشتَغَل كولان على ملء فراغات التاريخ، وهو أمرٌ بديهيٌّ بما أنه اختيار الروايةَ نمطاً للكتابة، فاستكمل من مخيّلته الحلقات المفقودة مِن سيرة هذا البطل الرياضي، مع حرصه على توافُقها مع سيرورة الزمن والأحداث.

(فابريس كولان)
وليس كولانَ الوحيد الذي لفتته قصّةُ العدّاء الجزائري المنسيّ فأنجز كتاباً عنه. في 2016، أصدر الكاتب الفرنسيّ فليب لانجليو- فيلار روايةً حوله بعنوان “السباق إلى النسيان” (منشورات هلواز دورميسون). ولعلَّ مِن الطريف أن نعرفَ أنَّ الردود الإيجابية التي حظِيت بها الروايةُ كانت تصبّ في كيل المديح للكاتب لأنه اجتهد في استخراج مادّته من أرشيفات الصحافة الرياضية، مِن دون إيلاء كثيرٍ مِن الاهتمام بطل العمل.
غير أن أحمد بوقرّة الوافي وجدَ بعض الاحتفاء مِن المهاجرين الجزائريّين في فرنسا بدءاً من 1998؛ حين أطلقوا اسمه على أحد الشوارع الجديدة التي افتُتحت مع إنشاء “ملعب فرنسا” في ضاحية سان دوني التي تقطنها أغلبية من المهاجرين العرب. ولاحقاً، جرت تسمية قاعة رياضة في مدينة كورنوف، غير بعيدٍ عن باريس، باسمه، كما أطلقت شركة “رونو” اسمَه على بعض فضاءاتها المخصَّصة للأنشطة الرياضية.
هل يعني كل ذلك أنَّ البطلَ الأولمبيَّ الجزائري نالَ حظَّه مِن الاعتراف والتكريم، ولو في وقت متأخِّر؟

كاتبٌ ومترجم جزائري، صدرت له مجموعة قصصية بعنوان “صوب البحر”. مِن ترجماته إلى العربية: “ياسمينة وقصص أُخرى” لإيزابيل إيبرهاردت، و”تاريخ الجنوب الغربي الجزائري” لخليفة بن عمارة، و”ديسمبر 1960 بوهران” لمحمد فريحة، و”صديقتي القيثارة” لصافية كتّو.