
أحمد فؤاد نجم.. حين سكت شاعر تكدير الأمن العام
عشر سنوات مرّت منذ أن غادرنا الشاعر المصري الذي اتخذ قواعد جديدة في صياغة نصه، وهو الذي تعرّف على اللغة بالتلمس والتجريب. بسهولة قفز فوق التقليد الغنائي الذي جعل كل الأغاني عاطفية أو وطنية، رافضا ذلك الركود الأشبه بقضاء إجازة في لغة الشعر الغنائي.
كان أحمد فؤاد نجم يهتف من زنزانته ببيت شعري قد صاغه للتوّ، وفي زنزانة مجاورة يلتقطه الشيخ إمام ويقوم بتلحينه. تتواصل العملية حتى تتحوّل الأبيات إلى أغنية سيُرددها الثائرون والباحثون عن فسحة حرّية في أوطان يسكنها الطغيان والقمع.
انتمى الرجُلان إلى جيل قدّر له أن يكون شاهدا على هزائم الأمة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. جيل رفعته الأحلام التي أطلقها الزعماء إلى عنان السماء، ثم أسقطته الخيانات التي حفل بها العصر على الأرصفة الصلبة. كان جيلا حقنته في الآن نفسه الهزيمة والثورة.
بموهبة الشعر وكذلك موهبة الحياة، اصطفى أحمد فؤاد نجم معجماً يرصد من خلاله ما حصل على ركح الشعور الشعبي، من أفراح وأوهام وغضب. كانت نصوصه تؤرّخ للناس همومهم. وإن تحوّلات هذا النص “الفاجومي” يؤرّخ أيضاً لتحوّلات الضمير المصري، فالشاعر الشعبي تحوّل إلى ناطق رسمي باسم الشعب في لحظة لقاء بصوته الذي تجسّد في الشيخ إمام، كان لقائهما شبيها بالتقاء صدر وعجز بحيث أكمل كل واحد منهما الآخر. ولكن هذا الطابع في نص نجم لم يكن أبدياً، لقد ظهر بين قوسين؛ رغبته الأولى في كتابة الأغنية السائدة كالتي نعرفها في أغاني عبد الحليم حافظ ومحمد رشدي ومحمد قنديل، وبعد الانفصال عن الشيخ إمام سيحضر نجم في كلمات أغاني جنريكات المسلسلات المصرية بشكل لافت.
منذ اللقاء العفوي بين الشاعر والملحن، نسي أحمد فؤاد نجم أحلامه الساذجة، وانكب في عالم “حوش قدم” يصرف شئون الحياة شعرا. لقد فطن وهو بين الناس للمواد المتفجرة التي بحوزته، فقطع مع حلم الكتابة للأغنية الإذاعية وكأنه يقطع حبل السرة.
جيل قدّر له أن يكون شاهدا على هزائم الأمة العربية في القرن العشرين
عرف أن للشعر القدرة أن يورق في البرد وفي الفقر وفي الظلم، فقلده هموم الجيل ودفع به في المعارك السياسية والطبقية بلا خجل. وحين فعل ذلك أصبح للشعر أسلحة وعضلات. بقي أن يصل إلى الناس.
لم يكن ذلك صعبا في نهاية الستينات، فبعد نكسة 1967 التي خلفت دهشة مركبة في قالب صلب من الحزن، كان الناس قد فطنوا للتزييف الذي نخر الفن كالسرطانات في وسائل الإعلام الجماهيرية، وحتى شعراء العامية الكبار مثل صلاح جاهين وحسين السيد وكامل الشناوي كانت الدعاية السياسة قد استهلكتهم وأنهكتهم. إذن فالثغرة قد تهيأت لانفلات صوت جديد.
في خضم موجة المحاسبة المرة وجلد الذات، سيسمع الناس: “حكيم عليم مخلص جسور، طاير على جناح العصور… الشعب هو الباقي حي، هو اللي كان هو اللي جاي، طوفان شديد، لكن رشيد، يقدر يعيد صنع الحياة” وسيدركون أن الأرض قد تمخضت عما حبلت به أفئدتهم.
اتخذ نجم قواعد جديدة في صياغة شعره، وهو الذي تعرّف على اللغة بالتلمس والتجريب. بسهولة قفز فوق التقليد الغنائي الذي جعل كل الأغاني عاطفية أو وطنية، رافضا ذلك الركود الأشبه بقضاء إجازة في لغة الشعر الغنائي. لقد أتى للعامية المصرية برحيق الوعي السياسي ثم غطسه في مخزون شعري ينهل من جيل الشعراء الذين سبقوه وخاصة فؤاد حداد، صلاح جاهين، بيرم التونسي. رصيد كان قد نماه بالسماع وخصوصا بملكة الاندهاش أمام صورة شعرية ساحرة..
اصطفى معجماً يرصد من خلاله ما حصل على ركح الشعور الشعبي
منذ البداية، أحسّ خطر المثقف على الناس، ذلك المثقف الذي نخرته النخبوية والانتهازية. كتب ساخرا: “يعيش المثقف على مقهى ريش، محفلط مزفلط كثير الكلام، عديم الممارسة عدو الزحام، بكام كلمة فاضية وكام اصطلاح، يفبرك حلول المشاكل أوام” وسيعود لهذا الموضوع الأثير لديه في قصيدة “حلاويلا يا حلاويلا”: “يتمركس بعض الأيام، يتمسلم بعض الأيام، ويصاحب كل الحكام، وبتسعطاشر ملة“..
جلب له اهتمام الناس وإنصاتهم إليه عيون السلطة والتي لم تستسغ مضامين شعره. بالنسبة له ولزمرة المثقفين من حوله كان الإنجاز الذي أمامهم جبارا، فقد هضمت الأغنية الشعبيةُ الماركسيةَ حتى أنها بدت تمرينا يوميا مبسطا نزعت عنها قشور الغرب والسفسطة والرطانة النخبوية.
هذا الجيل الذي اختلطت عليه الثورات والانقلابات، صعّد من لهجته حين تأخر موعد الثأر لهزيمة 1967. جاء نجم بسلاح جديد هو السخرية، وعندما لم تعد السلطات تحتمل أصبح الرجل ورفيقه الأعمى هدفا للاعتقالات المتكررة.
استفاد نجم كثيرا من السجن، فقد طوّر فيه علاقاته ووعيه بالناس، كما طوّر السجن لديه إرادة ترك القراءات الضحلة التي صنعت مثقفين من ورق، وفرض عليه الظلم الذي سلط عليه منذ طفولته أن لا يكون أحد الأدعياء في المشهد الشعري أو الثقافي عموما. وفي نصوصه لم يترك الرفض ينزوي به في زاوية الاحتجاج، بل جعل منه نافذة على مخيال رحب.
وفي ضيق الزنزانات، كما في الزحمة والاكتظاظ لم يفقد حسّ اصطفاء الكلمة. كتب: “الجدع جدع والجبان جبان، بينا يا جدع ننزل الميدان .. بالنار والسلاح، نرفع الكفاح، فوق كل العواصف وهبوب الرياح، يسبق الليالي ويجيب الصباح، يهزم الهزيمة ويداوي الجراح” أو “مرّ الكلام، زي الحسام، يقطع مكان ما يمرّ، أما المديح، سهل ومريح، يخدح صحيح ويغر، والكلمة دين، من غير ايدين، بس الوفا ع الحرّ“.
طوّر السجن لديه إرادة ترك القراءات الضحلة التي صنعت مثقفين من ورق
رغم التضييق ظلت الأغاني تندفع للحياة، وبدأت شعبية الرجلين تبلغ الفضاء العربي بحيث استعصى كتم صوتهما. تهاطلت الدعوات من كل مكان، وحين منع من السفر أشهر قصيدته “ممنوع من السفر” فكسر بها الإجراءات. سنة 1977 كان شعر أحمد فؤاد نجم قائدا في المظاهرات التي غزت ميادين القاهرة. وفي الثمانينات ضغطت فرنسا على الحكومة المصرية لاستقبال الثنائي، وهناك تنفسا ملأ رئتيهما من الحرية، وتم إنقاذ المادة الفنية التي تجمعها في تسجيلات. ولكن دبيب الخلافات بدأ يشطر الثنائي..
بعد أن انفصل عن إمام، لم يعد أحمد فؤاد نجم جزءا من مشروعه الطبيعي، أصبح شاعرا وكفى. كتب للدراما المصرية وللشباب الصاعدين على سلالم الشهرة. صادف ذلك انشطار المدرسة اليسارية بشكل عام، فنحن في تسعينات القرن العشرين، وقت أن كان على يساريّي العالم أجمع أن يقفوا لحظة تأمل بعد سقوط القطب السوفياتي.
“معجزُ أحمد” هو أن الايديولوجيا لم تعقم أشعاره، وحتى حين فطن مثله مثل أبناء مرحلته من اليساريين أنه خاض حربا خاسرة، وجد في تراثه الشعري ما ينقذه من لعب دور الضحية باقتناع، وهو الدور الذي سيسخر منه وهو يرى العديد من المثقفين يلعبونه بإتقان.
لقد ظل نجم ركيزة في المشهد الشعري بفضل تفرده في الجمع بين الصورة الشعرية والنكتة. تلك الروح المرحة التي جعلها أداة للاحتجاج الاجتماعي، فانتقد يسارا مفككا وأحيانا انتهازيا، سخر من بورجوازية تافهة، صرخ في وجه أنظمة تغرق في تبرير الفشل، كما فضح الثوريين الذين يعيشون على تبييض الخيانة والعهر.
هذا على المستوى الشعري، أما هو فقد راح يغرق في الطبق الرأسمالي الجديد، والذي ظهر في مصر مع بداية الألفية في شكل انفتاح إعلامي ضخم، فانفتحت له الأستوديوهات وباتت له برامج يدعو لها من يحبّ، ورأسماله هو ذلك التراث الإبداعي والنضالي.
بينه وبين نفسه، كان عليه أن يعترف أنه حين غابت شمس الشيخ إمام لم تكن المصابيح الكهربائية من حوله كافية لإضاءة المخزون الشعري الكامن في صدره. بدا أثر النضوب على موهبته، لكنه ظل مثالا للسعادة الشعبية، وربما هي تلك الصورة التي جدّدته في أذهان الناس.
في ميدان التحرير، هبت عليه نسائم الفرح واللذة وهو يستمع لشبان يغنون “شيد قصورك“. أصبح منذ ذلك الوقت واحدا منهم، أما هم فقد التفوا حول قامته. لقد ظن من قبل – كما يظن أبناء جيله – أن شباب القرن الوحد والعشرين لا تربطهم صلة بالثنائي الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، لكنه عجب أنهم يعرفون أغانيه بينما نسيها بعض مجايليه.
كانت الانترنت صنعت حياة ثانية لأغاني مثل “هم مين واحنا مين“، “الممنوعات“، “البتاع“.. شكر الشباب الذي ساعدوه على القبض على الحلم الذي راوده طويلا. عُرض عليه منصب حزبي، فقبله ببساطة من يدخل في الحسابات الضيقة لرجل خطاء. سرعان ما وجد التحزب غرقا في مستنقع بيروقراطي، وأنه سيكون أراجوزا في يد الإقطاع الحزبي فانسحب لكي لا تخسر مصر شاعرا دون أن تربح رجل سياسة.
كانت سنوات شيخوخته سنوات نشاط وفرح، تحدث في كل شيء؛ في السياسة والفن وكرة القدم، ووقف متفرجا على قامات الزعماء العرب المتغطرسين لعقود وهي تتهاوى، ثم رصد بتعليقات خفيفة ذلك التيار التحتي الذي يغذي مشهد الثورة في مصر. لكنه لم يقل شعراً.
زرع الرجل في الأرض أغانٍ أورقت حين ظن البعض أنها زمنها قد ولّى تماما. لقد كانت بذرة من بذور صعود هذ الربيع الذي سرعان ما غيرت وجهته تيارات هواء من كل اتجاه. هذا الربيع الذي جاءنا بثوريين مثل الطبول الخاوية، وثوريين مثل الأعلام المنكسة، لا بوصلة له إلا القليل الصادق والنابت في تربة الناس، ومن غير هؤلاء كيف ستفعل الثورة بالزوايا الحادة الكثيرة التي وضعت في خاصرة الشعوب.
هذا الضياع ما بعد الثوري أسكت الشاعر في شيخوخته، كما أسكته – بشكل آخر – استنبات شعره في مزهيات لم تكن منسجمة مع المعجم الشعبي.. يسكت الشاعر أيضاً حين لا يجد من يستعيد أشعاره ويضعها في سياقات وأتربة جديدة..