
“أصحاب ولا أعز”: قواعد المشاهدة الأربعون
بدل أن ننظر إلى أعماق شخصية مريم في الفيلم الذي تعرضه منصّة "نتفليكس"، ننشغل بمطاردة الممثلة التي جسّدتها. لكن، مهلاً، ماذا لو كان ذلك هو الدور الحقيقي الذي دُعيت منى زكي لتأديته... أي أن تلعب دور ضحية جمهور لا يعرف قواعد لعبة المشاهدة؟
بدايةً، من خلعت كيلوتها هي مريم وليست منى زكي.
عدم التفرقة بين الشخصية ومؤدّيتها يوصلنا إلى المتاهة التي نحن فيها اليوم. وفي حال عرفنا بعض قواعد فن الأداء السينمائي، ستكون سجالات الأيام الأخيرة حول فيلم “أصحاب ولا أعز” مجرّد زوبعة في فنجان أنتجها سوء الفهم. سوء فهم تجاه الفن، وسوء فهم إزاء التخييل. لعلّه سوء فهم مقصود.
أنْ تُجسِّد شخصيةً يعني أن تستعير جهازها العصبي، ذاكرتها، ردود أفعالها، عُقدها النفسية، ثقافتها، ووجهات نظرها. لا يمكن أن تؤدّي منى زكي شخصية مريم وتبقى عند حدود معايير “السينما النظيفة”، بقواعد لعبتها المصرية التي تُبالغ في مراعاة ميولات الجمهور الواسع وقناعاته، فهذه الشريحة من الأفلام التي جسّدتها الممثّلة المصرية وجيلها، بدءاً من تسعينيات القرن الماضي، كانت تفترض أن المُشاهد يحمل طول الوقت جهاز تحكُّم عند بُعد، وسيتّجه إلى فيلم آخر في حال أحرجه مشهد ساخن أو كلمة خادشة.
تدور اللعبة، هذه المرّة، في منطقة جديدة؛ ففيلم “أصحاب ولا أعز” لا يُعرض في قاعات السينما، ولا عبر قنوات التلفزيون، بل عبر المنصّة الإلكترونية “نتفليكس”. وسيطٌ جديد يعني في النهاية قواعد مُشاهدة جديدة، ليس أقلّها أنّ الفيلم ليس عربياً تماماً، بل نسخة معرّبة من فيلم إيطالي بعنوان “غرباء بامتياز” (2016)، يجد صدى في كل ثقافة يصلها. الفيلم، من هذا المنظور، محاولة أُخرى لإدماج فضاء جديد (المنقطة العربية) في سوق الفرجة تحت الطلب.
تظلُّ مرجعية العمل الأصلي مهيمنة على الفيلم. كلُّ شيء فيه يبدو مفبركاً ويفتقد إلى الصدق
لكن، أن يكون للفيلم أصل أجنبيّ هو أمرٌ لا يمكنه بحال أن يثير اهتمام أحد. لا بدّ أن يخلق ضجّة تفرض الالتفات إليه. عقل الرأسمالية هو من يعمل هنا، وليس بالضرورة حسابات صنّاع السينما. “نتفليكس” ليست سوى مؤسّسة تجارية تهدف بشكل معلّن لجلب الانتباه إلى البضاعة التي تعرضها.
من المؤكّد أن هناك المئات من الأفلام العالمية الجميلة التي يمكن أن تُعاد صياغتها عربياً، ولكن الفيلم الإيطالي يقترح حكاية مثيرة تحمل كلّ المؤهلات لهزّ مسكوتات كثيرة في الثقافة العربية. كل شيء مهيّأ لمثل هذه الضجّات، وكما يكفي أن يضع الأصدقاء هواتفهم للفرجة المشتركة كي تتوتّر الأحداث، يكفي أن توضع بعض العناصر في فيلم حتى تتوتر الأجواء في ساحات النقاش العربية. وتلك هي حبكة حدّوتتنا.
ليس هناك أي شيء صادم في خلع مريم لكيلوتها. اللقطة تمرّ عابرة في بداية الفيلم، وأقصى ما تفعله أنها تخلق انتظاراً لدى المُشاهد، والذي سيجد لاحقاً بأن اللقطة التي أسالت الكثير من الحبر غير موظّفة درامياً. الفيلم مبتور الجرأة، لأنّ الوضعية الأكثر حدّةً درامية قد أُلغيت منه، وهي تثبُّت الزوج إن كانت مريم ترتدي كيلوتها أم لا حين تصلها رسالة من صديق افتراضي اتّفقت معه أوّل السهرة أن يخلع قطعة ملابسها الداخلية. من هذه الزاوية، فإن “أصحاب ولا أعز” فيلم محدود في طرحه الإشكالي، فيما يُقدَّم على أنه درجة قصوى من الجرأة. لعلّها حيلة أُخرى من حيل شدّ الانتباه.
يقدَّم الفيلم أيضاً باعتباره باقة من الثيمات الإشكالية المتنوّعة: المثلية، الخيانات الزوجية، الجنس في سن المراهقة… ولا تبدو أية واحدة منها مطروحة بشكل معمّق. فبنية الفيلم وخيارات التصوير تعملان على تقطيع كل حكاية، حيث تنتهي بشكل مفاجئ مع صعود حكاية جديدة يفرضها وصول رسالة إلى أحد هواتف الأصدقاء السبعة الذين يجلسون على طاولة واحدة.
قوّة الفيلم (الأصلي) تكمن في رعب فرضية رفع الغطاء عن العوالم السرية للهواتف. يمنع الضجيج حول الصغائر من التفكير مع الفيلم في الإشكالية الكبرى التي يطرحها. هل يغيب عنّا أنّ السينما العربية لم تعد تنتج حبكات بهذه الطرافة والعمق؟ وحتى حين تأتيها حبكة جاهزة كما في “أصحاب ولا أعز”، يذهب الضجيج بكل أمل في التفكير في الإشكاليات الكبرى التي يطرحها الموقف الناجم عن الحبكة.
أمّا إذا اقتصرنا على الفيلم دون سياقه السجالي، فسنجده مثل تمرين على إتقان مفردات السينما بحسب وصفة “نتفليكس”. لن نجد الكثير من الاجتهاد في توليد جوّ عربي داخل الحبكة، تظل مرجعية العمل الأصلي مهيمنة. كل شيء يبدو مفبركاً وقليل الصدق. لكن البعض يحب أن يفرح لأنّ مثل هذا الفيلم يُعلن أننا – كعرب – موجودون في العالم… لأننا موجودون في “نتلفليكس”.
وإذا عدنا إلى الضجة التي أثارها العمل، سنشعر وكأن الفرجة لم تكن في الشاشة وإنما هي تقع الآن في حياتنا. لعلّنا موضوع الفرجة، نحن الشعوب التي يُلقى بينها بشرارة حكاية فتندلع فيها الشجارات.
حين نرى علاقتنا كجماهير بالسينما، نفهم لماذا تبقى هذه الصناعة معطّلة عربياً
لا يهدّئنا حتى معرفة أنّ الفيلم يهدم كل الفرضيات التي يبنيها، حيث يأتي المشهد الختامي ليؤكّد أنّ كل الأطراف رفضت دخول اللعبة كشف أسرار هواتفها. تلك الشخصيات تعرف أنه لا ينبغي أن نأخذ على محمل الجد ما هو مطروح كاحتمال، وما الفيلم إلا طرح لفرضية يمكنها أن تحدث في الواقع، فإذا شاهدناها كعنصر خارجي، كنّا أكثر قدرة على تمثُّلها والتفكير فيها.
يحدث أن تهدر مجتمعاتنا كلَّ فرص التفكير تلك في غبار المعارك الكلامية. يُفترض أنّ الفيلم، أيُّ فيلم، هو فرصة لنقاش هادئ لكلّ ما يطرحه التخييل من وضعيات قصوى. دور الأفلام، والروايات والمسرحيات، هو إنتاج مثل هذه الوضعيات والدفع بها إلى منطقة التفكير الجمعي.
حين نرى علاقتنا كجماهير بالسينما نفهم لماذا تبقى هذه الصناعة معطّلة عربياً. لا تقدّم الإشباعات التخييلية والنفسية والمعرفية التي ينبغي أن تقدّمها. يُعطّلها منطق مشاهدةٍ مشتّت في المشكلات الوهمية، مسكون بالعُقد، وفقدان بوصلة المعنى. ها هي بعد ذلك تأتينا جاهزة فلا نعرف كيف نستعملها.
تروي إحدى النوادر القديمة أنّ الحكيم كان إذا أشار إلى القمر كان الحمقى من حوله ينظرون إلى إصبعه. وكذلك، بدل أن ننظر إلى أعماق شخصية مريم نظلّ نطارد الممثلة التي جسّدتها. لكن، مهلاً، ماذا لو كان ذلك هو الدور الحقيقي الذي دُعيت من أجله منى زكي… أن تلعب دور ضحية جمهور لا يعرف قواعد لعبة المشاهدة؟