أغاني وهران التصويرية
وقع إلياس، وكذا أنا، في غرام أغاني الشاب حسني، واكتشفنا أنّنا لا نريد أن نسمع سواه! وهنا بات يسألني عن كلمات الأغاني كما لو أنّي وهراني أباً عن جد! الأمر شاق يا إلياس! الأمر شاق يا قوم! ولا يتعدّى الأمر التقاطي لبعض العبارات. لكن صوت حسني كفيل بكل شيء.
صيفها/ خريفها
حديثها مقتضب.
جسدها مستفيض.
تقول العبارةَ مرّةً واحدة فقط ولا تُكرّرها، وحين لا أسمعها أو لا أفهم تلك العبارة، تمضي إلى أُخرى.
– تشبهين مدينتكِ!
قلتُ لها ارتجالاً، وهي بالكاد ابتسمت.
حديثها مقتضب وغامض.
جسدها مستفيض وواضح.
اليوم ضباب وبالأمس أيضاً وربما غداً.
صيف وهران مضبّب والقيظ رهيف، ولا شيء من هذا يستوقفها أو يعنيها.
– انتظِر الخريف!
قالت كما لو أنه على الأبواب، وما من شيء يستحق الانتظار سواه.
قلتُ لا بدّ أن أجد ضالّتي في الأشجار، في أوراقها وما يتساقط منها، أوَليس الخريف “ناعماً كوشاح امرأة” كما يخبرني السيّد مالك حدّاد. نعم هو كذلك ووهران في أوائل تمّوز، أُقسم على ذلك! والريح أحياناً تحبس أنفاسها فلا تُحرّك ساكناً في شجرةٍ وهي تُذكّرني: إنه الصيف.. إنه شهر تمّوز يا رجل. حسبي أشجار الزيتون على طريق المطار وهي “تومئ في الحقول كأطفال سعداء يلتهمون منحدراً”.
زعيم وهران
في “إيدن” سبح كالفراشة وشمّس أوشامه بخجل.
كنتُ سأحدّثه عن ندوب الحنين التي أحدثها المتوسّط في روحي، لكنه كان يريد أن يتكلّم لا أن يَسمع، وأنا أريد أن أسمع لا أن أتكلّم، وهكذا راح يُردّد كلّ شيء ثلاثاً.
أعزيتُ التكرار اللامتناهي في كلامه إلى شكوكه المشروعة بمدى فهمي للهجته الوهرانية! وبدا الأمر توكيداً لفظياً بائناً بالثلاثة، وهو كلّما مررنا بمكان ردّد اسمه ووصفه ثلاثاً، وإنْ مررنا في طريق العودة بالمكان ذاته عاد وردّد اسمه وما يكون ثلاثاً. وثمّة أمكنة مررنا بها لأربع أو خمس مرّات لم يتوان عن إعادة ما قاله في كلّ مرّةٍ، كما لو أنه نسخٌ ولصقٌ ممّا سبق وأورده.
ثمّة تفسيراتٌ كثيرة أُخرى راودتني في هذا الخصوص، إلّا أنني لم أحفل بها، لا بل نسيتها جرّاء خصلة هيمنَت عليه وعلى كلّ أفعاله، ألا وهي الطيبة، لا بل مطالبته كلَّ من تعاملتُ معهم الالتزام بها أيضاً، وهو يخوض حروباً استباقية تقطع دابر أيّ غش أو خداع أو فهلوية، موصياً الجميع بتوخّي أعلى درجات الطيبة وصولاً إلى الشهامة. وهنا بدا أنّ كلَّ من في وهران أصدقاؤه، فهو لا ينتهي من تحية أحدهم حتى يُباشر بتحية آخر.
قال إنه عمل لسنوات في روتردام، لكنّه ترك كلّ شيء هناك وعاد إلى وهران بعد أن أصبحت أمُّه وحيدة فيها وقد سافر إخوته واحداً تلو الآخر، واجداً في مجاورته أمَّه والعناية بها أنبل ما يمكن القيام به في هذه الدنيا الفانية، ومنبعَ التوفيق والصلاح والسداد.
حين ودّعتُه أراني على هاتفه صورة كبش العيد وقد خطّ عليه الحرفين الأوّلين من اسمَي ولديه.
قلت:
– إنه أضحية الطيبة… قربانُها.
لم يحفل!
كرّرتُها ثانيةً، وبدا أنه لم يسمع! فعاودتُ للمرّة الثالثة:
– إنه أضحية الطيبة …قربُانها.
كومبيطا
أدمنَ صديقي إلياس على “الكاوْكاوْ” الوهراني، وباتت البيرّةُ على ارتباطٍ مصيري به، لا يرشف رشفة منها إلّا ويتبعها بحبّة منه.
كما أُصيب بداء التكرار، جرّاء صحبة زعيم وهران، لكنّ إصابته اقتصرت على كلمة واحدة وهي “كومبيطا” (Gambetta)، بعد أن مررنا بهذا الحي في أكثر من مشوار وردَّد علينا الزعيم “كومبيطا” أكثر من 21 مرّة، وقال لنا لأكثر من خمس مرات إنه الحي الذي وُلد واغتيل فيه الشاب حسني. وهكذا راح إلياس يردّد اسمه كتميمة أو تعويذة، أو كنداء استغاثة، وربما كحفلة تحضير أرواح: كومبيطا… كومبيطا… كومبيطا.
وعلى صعيدٍ جمالي وروحي، وقع إلياس، وكذا أنا، في غرام أغاني الشاب حسني، واكتشفنا بأنّنا لا نريد أن نسمع سواه! وهنا بات إلياس يسألني عن كلمات الأغاني كما لو أنّي وهراني أباً عن جد!
الأمر شاق يا إلياس! الأمر شاق يا قوم! ولا يتعدّى الأمر التقاطي لبعض العبارات. لكن صوت الشاب حسني كفيل بكل شيء.
صوته هو كلّ الحكاية، إنه نوع من التحليق، يعلو ويحنو ويشف، ينادي ويناجي ويستكين، أسمع صوته غير آبه بمصاحبة “الأورغ” له، والذي دائماً ما يُشعرني بأنّ صوته واللحن في مكان، وتلك الآلة اللعينة في مكان آخر.
وهنا تحضرني هذه العبارة للشاب حسني: “سكران ناسي والقلب صاحي”، فأجدها صالحة لتكون نهجاً وشعاراً في الحياة إنْ تعاملت معها كعبارة مستقلّة وقائمة بذاتها، فما أجملها من حياة تكون فيها سكرانَ منتشياً تمارس النسيان بينما قلبك صاحٍ متوقّد ومُقْبل على اكتشاف الجديد… يا سلام.
عبد القادر الحناوي
سألني منذ أكثر من أربع سنوات نادلٌ في مطعم في بودابست: ?Where are you from
أجبت: !From the most fucked up country in the world
فتوصل مباشرة إلى البلد المقصود:
.Syria
نعم أنا من أكثر البلدان تهتّكاً ودماراً وفوضىً في العالم، هذا إن كان ما زال بلداً أو وطناً.
لا شيء تغيّر لدى الجزائريّين تجاه السوريّين. ما من ريبة ولا شك ولا خوف، ومجرّد كونك سورياً فهذا مدعاة للاحتفاء لا بل التهليل والتبجيل، وما عايشتُه في زيارتَيّ السابقتين لوهران (2010 و2011) على حاله في زيارتي الأخيرة هذه!
وعبد القادر، كما غنّى لي منذ أكثر من 11 عاماً أغاني ميادة الحناوي، عاود واستقبلني في زيارتي هذه بأغانيها. عبد القادر الموظّف في “متحف أحمد زبانة”، الولِه بميادة، وبْلودان جنّتُه. عبد القادر الذي حين يغنّي “أنا اللي بحلم كلّ ليلة بيك، كلّ ليلة كل ليلة، واحشني واحشني منك واحشني واحشني منك، كل حاجة كل حاجة فيك.. ” يُغنّي دمشق، يغنّي شوقه إليها.
نزهة ريفية – خطبة سياحية
بَسمل وحمد وصلّى على أكرم الأكرمين…
قلتُ هذا خطيبُ جامع ضلّ الطريق فأصبح مرشداً سياحياً، فتوكّلت وأسلمتُ أمري للدرب وما أمطرني به والصحب من وقائع وتواريخ وحقب توالت على وهران، فرافقْنا الفينيقيين والأمويّين والموريسكيين وصولاً إلى الإسبان والفرنسيّين، ورحتُ أردّد في سرّي مقاطع من أغنية مارسيل خليفة:
“قصّتنا نزهة ريفية ممنوعة ومش قانونية
من تركيا وحكم فرنسا … “.
وتداخلت التواريخ، وابتهلتُ إلى الله: “اللهم هوّن علينا سفرنا هذا” رفقة السفّاح خوسيه باليخو والكاردينال فرانشيسكو خيمتيث، وأطلَع علينا المرشد بخطبته العصماء ومعلوماته الخارقة شمس الباي محمد بن عثمان الكبير بجلالة قدره الوضاء وصولاته وجولاته محرّر وهران من نير الإسبان، وقد زرنا قصره وكان أطلالاً، وأثراً بعد عين، وكذا جامعه المقفر الحزين، إلى أن التقطتُ أنفاسي في حديقة ابن باديس ورحت أُكمل أغنية مارسيل:
“خلصنا من التركي وتتريكو إجت فرنسا سايكس بيكو
قسمونا بيكو وشريكو خلقوا الدولة الصهيونية… “.
المقاطع من نصّ مطوّل عن مدينة وهران الجزائرية، وهو نتاج إقامة أدبية فيها دُعي إليها الكاتب في الفترة من 25 يونيو/ حزيران إلى 6 يوليو/ تمّوز 2022.
كاتب ومُترجم سوري من مواليد 1975، مُقيم في الشارقة. أنشأ مجلّة “أوكسجين” عام 2005. من إصداراته في الشعر: “ملائكة الطرقات السريعة” (2006)، وفي الرواية: “برّ دبي” (2008) و”كلاب المناطق المحرّرة” (2017)، وفي القصّة القصيرة: “سورية يا حبيبتي” (2022).