أفلام جزائرية في إيطاليا: نسويةٌ واستشراقٌ وعشريةٌ سوداء
شكّلت المقارباتُ الأيديولوجية المعتدلة سمة عامّة في الأفلام الجزائرية التي عُرضت في "المهرجان الإيطالي للفيلم المتوسّطي" مؤخّراً، لكنَّ أعمالاً أُخرى لم تخلُ من بعض السطحية والركاكة والرمزيات الاستشراقية.
كيف كانت قصصُ الحُب في الجزائر خلال العشرية السوداء؟
في فيلمه “قبل الأيام” (2013)، يعود بنا المُخرج الجزائري كريم موساوي إلى العام 1994، ليروي قصّةَ حُبٍّ متخيَّلةٍ تجمع بين تلميذَي ثانويةٍ بسيدي موسى، إحدى ضواحي الجزائر العاصمة، مُصوِّراً مِن زاوية فنّية مثيرة للاهتمام حياة المراهقِين الجزائريّين في أوج الأزمة الأمنية التي عاشتها البلاد، من دون السقوط في فخّ إعادة تدوير الكليشيهات التي طغت على المقاربات السينمائية لهذه الفترة الحسّاسة من عُمْر جزائر ما بعد الاستقلال، وعُمْر شباب كانوا يختبرون فيها مشاعر الحب الأولى.
افتَتح الفيلمُ عروضَ الدورة السادسة والعشرين من “المهرجان الإيطالي للفيلم المتوسّطي” (MedFilm Festival) التي أُقيمت نهاية السنة الماضية، وشهدت مشارَكة جزائرية لافتة؛ بمجموع ثمانية أفلام من أصل سبعين فيلماً عُرضت جميعُها على المنصّة الرقمية ” My movies” بتقنية “الستريمنغ” المدفوع.
وكانت المشارَكة الجزائرية الأكبرَ مِن بين المشارَكات العربية التي بلغ عددُها مجتمعة عشرة أفلام بين الطويل والمتوسّط والقصير، مِن فلسطين وتونس ومصر والمغرب ولبنان.
تبنّى موساوي (1976) في فيلمه الروائي المتوسّط (47 دقيقة) مقاربة مكّنته من شدّ المشاهد إلى سيناريو قصّة الحب الناشئة بين المراهقَين، على حساب سيناريو الدم الذي يسيل في الخلفية، من دون التقليل مِن زخم اللحظة التاريخية التي حدّدت في النهاية مصير قصّة يمينة وجابر.
ولعلَّ اللقطةَ المفصلية في العمل كانت أنغام أغنية “لزرق سعاني” الخافتة التي صدحت من إحدى السيّارات ولم تدُم لأكثر من خمس عشرة ثانية، قبل أن يُخمدها طلق ناري واحد، في مشهد يُلخّص قصّة الفيلم.
على عكس كثير من الأعمال السينمائية التي تناولت موضوع العشرية السوداء، اعتمد موساوي في باكورته السينمائية زاويةَ نظر مجرّدة من أيّ خطابات أيديولوجية، من خلال الحوار الشبابي البريء الذي، وإن طغت عليه مفردات عاصمية راهنة إلى درجة “الأناكرونيزم”، رسمَ للشخصيات إطاراً فكريّاً بريئاً وحيويّاً عبر تلك المفردات نفسها.
أدّى الممثّلان مهدي رمضاني وسهيلة مْعلّم الدورَين الأساسيَّين في الفيلم، وبرز فيه على نحوٍ خاصّ الممثّل محمد غولي الذي أدّى دوراً ثانياً أسهم في بثّ روح الدعابة في العمل وإنقاذه من الخطابات التراجيدية المبتذَلة التي عادة ما تطغى على أفلام الحرب.
في الجزائر العاصمة أيضاً، تدور أحداث فيلم “برخاوة، صباح يوم السبت” (2011، 30 دقيقة) لصوفيا جاما (1979)، والذي أدّت دورَ البطولة فيه الممثّلةُ الفرنسية اللبنانية ليتيسيا عيدو، في ثاني مشاركةٍ لها في عملٍ سينمائي جزائري بعد “فاطمة نسومر” (2014) لمصطفى حجّاج، والذي أدّت فيه دورَ فاطمة نسومر (1830 – 1863)؛ إحدى أبرز بطلات المقاومة الشعبية الجزائرية ضدّ الاحتلال الفرنسي في القرن التاسع عشر.
ببراعة لناحية الأداء الانفعالي، تقمّصت عيدو دور الشخصية الجزائرية، إلّا أنّ اللكنة كثيراً ما كانت تخونها بعد نطقها أكثرَ من جملتَين من الحوار.
هذه العثرة على مستوى الأداء، يُقابلها تفرُّد على مستوى الخطاب؛ إذ تُقارِب المخرجةُ حادثةَ اعتداء تتعرّض لها البطلةُ ميساء مِن زاوية بعد-نسوية جريئة، بعيداً عن سيناريو الضحية المستهلَك؛ حيث ظهرت المرأة الجزائرية، من خلال هذه المقاربة، مُتجاوزة خطابات التحرُّر الصدامية مع السلطة البطريركية، لتصل إلى مرحلة التعاطُف الاستفزازي مع الرجل الذي تعيش معه على مركبٍ واحد كان قد أوشك أن يغرق بالجميع في جزائر ما قبل الحِراك الشعبي.
مقاربةٌ بعد-نسوية مرهفة أُخرى تبنّتها مريم مصراوة في فيلمها القصير “رايها” (2020)، الذي يسرد يوميات أمّ مطلّقة مع ابنتها التي تعيش فترة ما قبل المراهقة وتعاني من عادة قضم أضافرها.
يُقدّمُ العملُ (15 دقيقة) أمّاً جزائرية معاصرة قوية وجدانياً، مستقلّة وقادرة على إيجاد حلولٍ تُوازنُ فيها بين متطلّبات المجتمع ومتطلّبات ابنتها الفردية. في مشهد ذكي واحد، يختصرُ الفيلم معضلةَ الفتاة برمّتها، غير أنّ إيقاعه البطيء سيقوّض رسالته الهادئة.
من جهته، يُقدّم داميان أونوري (1982) في فيلمه الروائي المتوسّط “قنديل البحر” (2016، 41 دقيقة) قصّةَ اعتداء أُخرى على امرأةٍ في المجتمع الجزائري، من خلال زاوية غير نمطية، وازن فيها بين صُوَر جذّابة وتحكُّم عالٍ في التقنيات الخاصة، مع الحفاظ على عنصر التشويق لتمرير رسالة عميقة وقوية تُندّد بالعنف الممارس ضد المرأة، بعيداً عن الشعارات والخطابات المباشرة.
المقاربات الأيديولوجية المعتدلة التي شكّلت سمة عامّة في الأفلام الجزائرية المشاركة في المهرجان لم تَحضر في أعمال عربية وجزائرية أُخرى تراوحت هَنَاتها بين السيناريوهات السطحية والحوارات الركيكة والأداء المفتعل، إضافة إلى الرمزيات غير المشتغَل عليها بعُمق، أو تلك المنزاحةِ إلى منظور استشراقي مستهلَك.
في فيلمه القصير “حنّة ورد” (2019، 24 دقيقة)، الذي يروي قصّة طفلةٍ في السابعة من عمرها تُرافق أمّها السودانية المقيمة في مصر، إلى بيوت شعبية لترسم الحنّاء للعرائس، يعمدُ المخرج المصري مراد مصطفى (1988)، بنوع من المبالغة، إلى تصوير الرجل العربي كرجل همجي وعنيف وشره وعنصري على نحوٍ يكاد يكون غير مبرّر، بينما يُصوّر الفيلمُ الأميركي اللبناني القصير “سكون” (2019، 14 دقيقة) لفرح شاعر طائفة لبنانية بعينها وكأنّها هي من يمارس كلّ النفاق المجتمعي، الذي تضعه المخرجة ببساطةٍ على عاتق المرأة المحجَّبة على وجه التحديد.
ولعلَّ من المهمّ، هنا، التوقُّف عند جهات الإنتاج التي تُحدِّد عادة المساراتِ الفجّةَ التي تأخذها خطاباتُ كراهية الذات في الكثير من الأفلام السينمائية العربية، ورسائلُها النيوكولونيالية المضمرة.
في هذا السياق، يُمكن أن نُدرج الفيلم الجزائري/ الفرنسي القصير “الصغيرة” (2019) للمخرجة الجزائرية أميرة جيهان خلف الله؛ وهو العملُ الحائز “جائزةَ لجنة التحكيم للأفلام القصيرة” في المهرجان، إلى جانب الجائزة التي تمنحها “لجنة التحكيم الجامعية” (UniMed)، بوصفه “أفضلَ فيلم قصير يُعزّز الحوار بين الثقافات”.
يروي العملُ (12 دقيقة)، كما نقرأ على ملخّصه الرسمي قصّة “طفلة وحيدة في بلدتها بالصحراء، تكتشف في أحد الأيام واحة لا يسكنها سوى المكفوفين… آخر الناجين من اختبار اليربوع الأزرق”.
و”اليُربوع الأزرق” هو اسم “تجربة” نوورية قامت بها فرنسا في رقّان جنوب الجزائر عام 1960، وبلغت طاقتُها ستّين كيلوطن، وهو ما يتجاوز قنبلة هيروشيما بسبعين مرّة. وقد تلتها “تجارب” أُخرى في الصحراء الجزائرية استمرّت حتى العام 1966.
في الفيلم، تظهرُ الطفلة جميلة وسعيدة ومُقبلة على الحياة. وفي أوّل احتكاك لها مع شخص مكفوف دخلت واحة نخيله، انتهت مطرودة منها؛ لأنها أزعجته بتطبيلها وغنائها، لتخرُج بعدها ضاحكة ساخرة منِ الرجل ذي الثياب القذرة الذي كان يلوّح بعصاه في وجهها وهو يلاحقها ليضربها.
تُواصل الفتاة استفزازها لمجتمع المكفوفين؛ حيث تسرق حبل فول سوداني من بائع مكفوف يحوم الذباب حول وجهه، ثُمّ يأتي الدور على والدتها التي سيكتشف المُشاهد أنها كفيفةٌ هي الأخرى، وقد دخلت معها في سجالٍ حين عادت إلى المنزل وشغّلت التلفاز، ثم راحت تُشاهد فيلماً صامتاً لتشارلي تشابلن.
تبدو الأمُّ الكفيفة معادِلاً موضوعياً للسلطة التي تقمع الحريات؛ فهي ستمنع ابنتها من مشاهدة التلفاز، وتُهدّدها بأنّ الله سيأخذُها إلى جهنّم إن استمرت في ذلك، لتردّ الفتاة بأنّ “الكبار كاذبون؛ فالله لا يأخذ الأطفال إلى جهنم”، ثم تُضيف: “إن كنتُ سأذهب إلى جنهم، فسأكون سعيدة بوجود أطفال غيري لألعب معهم، على خلاف هذه البلدة!”.
تتّجه الصغيرة، بعدها، إلى محل خردوات، حيث ستحاول إيهام صاحبه، الكفيف هو الآخر، بأنّها تريد بيع قطعة ذهب عثرَت عليها، لتتمكّن من إصلاح صوت جهاز التلفاز المعطَّل، ليتبيّن، لاحقاً، أنّ حلمها هو سماع صوت تشارلي تشابلن. غير أنَّ صاحب المحلّ، الذي سيتبيّن في نهاية الفيلم أنّه ناجٍ من انفجار رقّان، يُخبرها بأن “تشابلن فهم كل شيء ولم ينطق بكلمة يوماً… أمّا الآخرون في التلفاز، فلا يتفوّهون سوى بالأكاذيب”، تماماً مثل والدتها.
يَختصر الفيلم أحلام الفتاة الصغيرة في سماع صوت الغرب الذي يُمثّل مفهومَي الجمال والفن من دون ضرورة للهذر، في مقابل سلطة البروباغندا القمعية والكذب في المجتمعات الشرقية التي لا تملك سوى ما وهبته لها الطبيعةُ التي داعبت المخرجة بجمال كثبانها الرملية مخيّلةَ المشاهد الغربي.
لم تكن رقّان لتُقدّم الصورةَ المنشودة في المخيّلة الاستشراقية عن الصحاري العربية
ولعلّ أحدَ أسوأ مشاهد الفيلم هو ذلك الذي يسقط في فخّ التصوير الذكوري للأحلام الأنثوية؛ حين تَظهر الصغيرةُ وهي تقلّد طفل تشابلن مباشرة بعد أن شاهدت فيلم “الطفل الشقي”، حيث تشرع في جمع الحصى وكسر الزجاج، في تصويرٍ لتحدّي سلطة الكبار.
أمّا عيبُه الأكبر، فهو السيناريو الذي من شأنه أن يوهِم المشاهد بأنّ تبِعات تجربة “اليربوع الأزرق”، التي اعترفت بها فرنسا، قد تنتهي برحيل من عاشوها، وهُم هنا مجتمع المكفوفين.
ولئن جرى تصويرُ مشاهد “الصغيرة” في منطقة تيميمون السياحية (ولاية أدرار)، فذلك لأنّ رقّان المنكوبةَ وغيرَها من مناطق الصحراء التي شهدت انفجارات أُخرى لم تعترف بها فرنسا حتى الآن، لم تكُن لتُقدّم الصورةَ المنشودة في المخيّلة الاستشراقية عن الواحات الغنّاء في الصحاري العربية.
المؤكَّد أنّ الانفجارات النووية لا تأخذ أبصار من شهدها فحسب، بل تُدمّر الحياةَ الإيكولوجية في المنطقة على مدى قرون، إضافة إلى أطفالٍ لا يزالون، حتى اليوم، يولَدون بعمى وسرطانات وتشوُّهات في الجمجمة، سببُها ليست حتماً أكاذيب التلفاز وثرثرة الكبار السلطوية، وإنما جرائم استعمار حقيقية.
كلُّ ذلك يجعل من “الصغيرة” مجرّد ابتسامة سينمائية، لا ترتسم في الواقع على وجوه الكثير من أطفال مناطق الاختبارات النووية المنسية في الصحراء الجزائرية، والذين لم يحصلوا إلى الآن على أيّ تعويضات عن جرائم الاستعمار الفرنسي ضد الإنسانية وضدّ البيئة، والتي لا تزال آثارهُا قائمة إلى اليوم.
كاتبةٌ ومترجِمة جزائرية من مواليد دمشق عام 1984. لها مساهمات نقدية عديدة في الصحافة الجزائرية والعربية. صدرت لها أعمال روائية وقصصية بالعربية والإيطالية، إلى جانب ترجماتٍ لأكثرَ من عشرين شاعراً وكاتباً إيطاليّاً. تُقيم في تورينو منذ 2014.