أقدامُ صباح
على الأرجح أنّ فتحي الأخرس يُضاجع صباح الهبلة عند الساقية. وليخفي الأمر، لجأ لجماعة الشائعات فاخترعوا شائعة أنّ روحًا تحوم حول الساقية لشاب قُتل أو انتحر عندها، وأنّ صباح تشتهي الكلاب وقد أنجبت من أحدها كائنًا مَخفيًّا في سرايا مهجورة على طرف القرية.
وكانت تتساءل: متى صار للخيال أقدامٌ؟ لكنَّ أحدًا لم يفهم، وعادةً ما كُنَّا نتجاهلها؛ لأنها – ببساطة – “صباح الهبلة”.
هل أرادت، مثلًا، أن تُذكِّرنا بأنَّها صباح الحاصلة على الدكتوراه من فرنسا؟ لكنّها نسيت أنَّ أحدًا لا يعرف هذه الحكاية.
ما يعرفه الجميع عن صباح أنها بريالة، وأن أخاها يستغلُّها لتصرف عليه وعلى زوجته بالتسوُّل، وأمور أخرى هامشية، مثل نومها عند الساقية التي مات عندها شابٌّ من القرية، قالوا إنه قُتل، وقالوا انتحر، ولا يعلم أحدٌ مَن هو تحديدًا، لكنها كأسطورةٍ متوارَثَة… وأنها تضاجع الكلاب.
يقول صديقي إنه بعد زمن سيُشاع أنها أنجَبَت طفلًا بوجه وذيل كلب وجسم إنسان، هكذا تبدأ الشائعات في قريتنا، وتنتهي إلى ما لا يمكن حَزْرُه.
لم يُدرك صديقي الشائعةَ وقد انتشرت في القرية؛ مات بعد أقلّ من شهر.
لا بُدَّ أنَّ جماعةً ما تعمل على اختراع الشائعات، وحتى يثبت العكس، فصباح بالفعل تُضاجع الكلاب، وقد أنجَبَت من أحدها كائنًا تُخبِّئه في سرايا عديلة المهجورة منذ زمن.
لا بُدَّ وأنَّ ثمَّة علاقة بين صباح الهبلة وفتحي ابن جمعة الأخرس وبين الساقية التي مات عندها شابٌّ لا نعلم شيئًا عنه، وبين كلّ هؤلاء والدار الواقعة خلف النخلتين بوسط القرية تمامًا.
على الأرجح أنّ أعضاء جماعة الشائعات يجتمعون في تلك الدار، وأنّ فتحي الأخرس يُضاجع صباح “الهبلة” عند الساقية التي لم يَمُت عندها أيّ أحد. ولِيُخفي الأمر؛ لجأ لجماعة الشائعات، فاخترعوا شائعة أنّ روحًا تحوم حول الساقية لشابٍّ قُتِلَ أو انتحر عندها، وأنّ صباح “الهبلة” تشتهي الكلاب وقد أنجبت من أحدها كائنًا مَخفيًّا في سرايا مهجورة على طرف القرية.
لو لم يكن ذلك صحيحًا، فما الذي جعل من أستاذة الجامعة صباحَ الهبلة، وما الذي جعل من الأسطى صاحب الثروة التي يخفيها في جوال خيش بالتُّرب فتحي الأخرس؟ ومَن مات عند الساقية؟
على كُلٍّ، لم أُخبر أحدًا باستنتاجاتي؛ لاعتقادي أيضًا أنّ جماعة الشائعات ليسوا سوى كبارات البلد. كما أنَّ أحدًا لا يعلم عن حقيقة صباح.
أمَّا أنا فلا أتذكَّر تحديدًا كيف عرفتُ حقيقتها، وأظنّ غالب الأوقات أنّني ربما رأيت ذلك في حلم، وهو أمرٌ كافٍ لأجزم بالأمر، ففي مرَّةٍ رأيتُ حلمًا بموت صديقي، وبالفعل مات بعد شهر أو أقلّ، تمامًا كما رأيته يموت في الحلم: عند ساقيةٍ ومزرعة دواجن. لكنني لم أُخبر أحدًا بذلك.
في ليلةٍ مُقمِرة، كنتُ أمشي مع أمي بمحاذاة التُّرَب، قُربَ السرايا. قابلنا صباح، تمشي هاذِيةً بما لا نفهم. ولأنّ أمي اعتقدت أّنني كبقيَّة الصِّبية أخاف صباح؛ أبعدتني إلى الجانب الآخر من الطريق، لكنّني تمنّعتُ، وتَحسَّرتُ، وتَمتَمتُ. نظَرَت لي أمي باستغراب، أو أنّني اعتقدت ذلك، ففكَّرتُ حينها في ضرورة أن أكون أكثر حرصًا للحفاظ على السر. الطريقة الوحيدة لذلك أن أُقلِّل أحاديثي مع الناس، واختلاطي بهم.
فكَّرتُ أيضًا في أن سببًا ما جعل السماء تختارني من بين كل أهالي القرية لتهبني حقائق الأسرار. عليَّ إذًا أن أحافظ عليها. عليَّ أيضًا أن أفهم لِمَ أنا! هل ينبغي عليَّ إظهار الحقيقة وفضح أمر جماعة الشائعات؟ لا أعلم. سأحتفظ بما لديَّ لنفسي حتى يوحَى إليَّ.
كانت الساعة الثالثة فجرًا حين فَزِعَت أمّي لطَرْقٍ شديد على باب شقّتنا بالدور العلوي للدار. كانت صباح تطلب مالًا!
كيف استطاعت صباح الوصول للشقّة في هذا الوقت رغم أن باب الدار مُغلَق؟ كلُّ مَن في البيت تجاهلوا الأمر، إلّا أنا. كيف أتجاهل إشارة سماوية! إذ ليس بإمكان صباح أو غيرها الصعود لشقّتنا في هذا الوقت إلّا بالطيران لسطح الدار والنزول إلى الشقّة، أو بالطيران لسطح ساحة الدار ثم الولوج منه إلى الممرِّ المؤدِّي لباب شقّتنا، وفي كل الأحوال لا يطير الإنسان في العادة.
لم يُراوِدني شَكٌّ في أنَّه سيُوحَى إليَّ قريبًا بالخطوة القادمة، وما حدث لم يكن إلّا إشارة واضحة على ذلك. لكنَّ قَلَقًا انتابني لتأخُّر الوحي.
لَحظَت أمي شحوبي وعُزلَتي، وفي ليلةٍ تَفاجَأَت بنورٍ مضاء في غرفة الجلوس المغلقة، لتجدني جالسًا وحدي مُحدقًا في الفراغ، أُكلِّم نفسي. في الواقع تفاجَأتُ أنا أيضًا حين أخبرتني في الصباح؛ لستُ معتادًا على الحركة أثناء النوم، رغم أن جَدِّي كان كذلك.
زاد قَلقُها عليَّ، وأشفقتُ أنا عليها؛ لا تعلم أنّ ما حدث ليس سوى إشارة أُخرى من السماء، رغم أن الوحي تأخَّر.
حينئذ قرَّرتُ أنه عليَّ القيام بما يَحثُّ الوحي على الإسراع: تسلَّلتُ ليلًا لكومة القَشِّ التي تغطِّي سطح ساحة الدار، ونِمتُ هناك. فعلتُ ذلك عدَّةَ مرَّات بلا فائدة، فقرَّرتُ النوم على سطح الدار. لم ينجح الأمر أيضًا. ربما لو قابَلتُ صباح، سيحدث أمرٌ ما كإشارةٍ لِما عليَّ القيام به لاستدعاء الوحي؟
سِرتُ في شوارع القرية ليلًا، وتمشَّيتُ عند التُّرب بالقرب من السرايا. لكنّني لم أقابل صباح ولا مرَّة!
إنَّ أمرًا ما يحدث ولا أفهمه؛ لم تَعُد صباح موجودة، ولا فتحي الأخرس. ورغم كثرة الإشارات، انقطع الوحي تمامًا. مثلًا، في مرَّةٍ استيقَظَت أمِّي فجرًا فلم تجدني في البيت، قالت لعلَّه يصلّي الفجر في الجامع. انتظرتني فلم أعُد. مرَّ يومٌ بليلته وأنا غائب عن البيت، حتى وجدوني مستلقيًا إلى جوار المزرعة.
قد يبدو غريبًا أن أستلقي يومًا كاملًا، وهناك، في الخلاء بين الغيطان بجوار المزرعة. لكنّها لم تكن سوى إشارة أُخرى، فالمزرعة تقابل الساقية على الطرف الآخر من الطريق.
لكن، لِمَ يتجاهل الناسُ اختفاء صباح وفتحي الأخرس؟ لم يكن من مفرٍّ أن أسأل عنهما وما حلَّ بهما، غير أنَّ أحدًا لم يجبني، وكأنهم يتجاهلونني أنا أيضًا.
من المؤكَّد أن جماعة الشائعات وراء كل ما يحدث؛ إمَّا أنها قَتلت صباح وفتحي، أو أخفتهما للأبد، وأشاعت أنهما ليسا إلَّا وهمًا من الأساس، أو خيالات جِنٍّ. لم تَصِلني الشائعة. بالطبع. صِرتُ مُحصَّنًا من ألاعيبهم. لا بُدَّ أن أفضح أمر هذه الجماعة والدار خلف النخلتين بوسط القرية تمامًا.
للأسف، سأضطرُّ لتأجيل الأمر بعض الوقت. تخرج الأمور أحيانًا عن إرادتنا حتى لو وقَفَت السماءُ معنا؛ إذ أصرَّت أمّي على الانتقال للعيش في مكان آخر لا أراها فيه كثيرًا، وبدلًا من ذلك جاءت لي بامرأة ترعاني في أكلي وشُربي وغسل ثيابي. كم تُذكِّرني هذه المرأة بصباح.
لا أتذكَّر تحديدًا متى قرَّرَت أمي أن ننتقل لمكان آخر. لا يهمُّ، فهناك أمرٌ آخر يُقلِقني على أمّي، وهو أنها تبكي كلّ مرَّة أُردِّد فيها: متى صار للخيال أقدام؟
من المجموعة القصصية “قلق لا يُمكن تفويته”، الصادرة حديثًا عن “دار المحروسة”
كاتب ومحرّر من مصر، عمل في صحف ومواقع إلكترونية مصرية وعربية. صدرت له مجموعة قصصية في 2022 بعنوان “قلقٌ لا يمكن تفويته”.