أنغيلا ميركل: للسياسة وجه امرأة
كانت المستشارة الألمانية، التي غادرت منصبها أمس، في غاية الحنوّ أحياناً كما في قضية اللاجئين، وقاسيةً للغاية كما في ملف الديون اليونانية. وبين هذين الوجهين، نجحت في إدارة سنوات حُكمها بحنكة وتبصّر، وكأنها تقول: يمكن أن يكون للسياسة وجه امرأة أيضاً.
عنونَت صاحبةُ “نوبل للآداب” لعام 2015، سفيتلانا أليكسفيتش، أحدَ أشهر أعمالها بـ”ليس للحرب وجه امرأة”، وفيه منحت الكلمة لنساء كي يتحدّثن عن حروب شرق أوروبا، هن اللواتي لم يشاركن في القتال، لكنهن كنّ ضحاياها بفقدان الأحباب والأقارب أو حتى بالتلوّث وتدمير المكان. من خلال هذا الكتاب البوليفوني، كانت مقولة الكاتبة البيلاروسية راديكاليةً في نسويّتها: الرجال صنّاع الموت، أمّا النساء فهنّ صانعات الحياة.
ليست السياسة إلّا امتداداً للحرب؛ إذ يقول المنظّر الألماني كلاوزفيتز (1780 – 1831): “السياسة هي الحرب بوسائل أُخرى”. وحين نربط هذه الفرضية مع أطروحة أليكسفيتش، سنفهم سبب طغيان الذكور على عالم السياسة. وفي هذا العالم المذكّر، تبزغ من حين إلى آخر نساء يكسرن القاعدة، ومنهن بلا شك المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل (1954) الذي كان أمس الأربعاء آخرَ يوم لها في أعلى هرم السلطة في ألمانيا، بعد 16 عاماً من الحكم.
خلال هذه السنوات الطويلة، لننظُر من شاركها قيادة العالم. مِن حولها، كانت هناك شراسة بوتين، ووقاحة ترمب، وسوء طويّة ساركوزي، وانحلال برلوسكوني… تقريباً، ميركل هي الوحيدة من بين هؤلاء وغيرهم من السياسيّين مَن خرج من الحُكم في نفس مستوى الاحترام والشعبية، وطالما قيل إنّها لو ترشّحت لولاية جديدة فلن يجد الألمان أفضل منها، لكنها قرّرت ألّا تذهب إلى مثل هذه المتاهات التي عصفت بكثيرين، ومنهم الرجل الذي رافق خطواتها الأولى في عالم السياسة؛ المستشار السابق هيلموت كول.
صحيحٌ أنّ تلك الرعاية فرشت طريق ميركل بالورود في بدايات مشوارها السياسي الذي بدأ بعد سقوط جدار برلين، لكن كول لم يفعل ذلك إلّا بمنطق تأثيث فريق يضمن الاستمرار في الحكم بلا نهاية، وحين ضاق هذا الدور على ميركل عرفت كيف تنتصر عليه.
في حواراتها، كثيراً ما تحدّثت عن تاريخ مفصلي: 22 ديسمبر/ كانون الأوّل 1999. يومها، نشرَت رسالة مفتوحة عبر صحيفة “فرانكفورتر ألغيماينه تسايتونغ” اتّهمت فيها كول علانيةً بالفساد المالي. حين تعود بالذاكرة، تصف كيف تردّدت كثيراً قبل أن تضغط بإصبعها على الفاكس، كانت كمن يُنفّذ حكم الإعدام في أبيه، لكن هذا القرار كان ضرورياً، فقد أتى بعد أشهر من هزيمة كول في الانتخابات لصالح غيرهارت شرودر، ورغم ذلك كان مصراً على البقاء على رأس الحزب والترشُّح لولايات أُخرى.
لطالما قيل إنّ الألمان لن يجدوا أفضل منها لو ترشّحت مجدَّداً، لكنّها فضّلت ألّا تدخل إلى هذه المتاهة
في تلك الفترة، راهن كثيرون داخل “الحزب المسيحي الديمقراطي” على ميركل – نظراً لخصالها التوافُقية – كي تنهي الإرث الثقيل لكول. كان رهاناً ينطوي على استنقاص، فقد كان المرشّحون لخلافته يعتقدون أنّ تأمين فرصهم يمرّ من ترشيح شخصية ضعيفة في سنوات ترميم الحزب ثم استلامه على طبق لانتزاع السلطة. هكذا، وجدت ميركل نفسها على رأس حزب كان يعتقد قادته أنّ التي سلّموها المنصب ستؤمّنه بطريقة صورية؛ لأنّها مجرّد موظّفة تعمل على تأمين مرحلة انتقالية.
أخذت ميركل الفرصة بجدّية، وفهمت أن المزاج العام للألمان يبحث عن تجديد وجوه المشهد السياسي، فاستندت على ذلك لتنظيف الحزب من جيل هيلموت كول، أي بعبارة أُخرى مَن كل من يملك شرعية تتخطّاها. بدا كلُّ منافسيها مستسلمين، فقد اعتقدوا بأنهم يتركون رئيسة الحزب الجديد تسير في نفق مسدود بما أنّ الرهان الانتخابي المقبل سيكون مع شرودر بشعبيته المتصاعدة.
لكن ميركل ناورت مرّةً أُخرى، حين دفعت في استحقاق 2002 برئيس حزب حليف بدلاً منها، وفي المقابل أخذت موقع زعيمة المعارضة في “البوندستاغ”، ومن هناك بدأت تُخلخل الأرض من تحت أقدام شرودر الذي واجهها في انتخابات 2006 وهو مقتنع بفوزه، قبل أن تفاجئه أصوات الناخبين الألمان الذين وضعوا ثقتهم في شخصية أكثرَ رصانة وهدوءاً.
لُقبّت ميركل بـ “موتي”، أي الأُمّ في العامية الألمانية، وكأنَّ شعبها كان يُعوّضها عن انهماكها في مناصب الدولة على حساب حياتها الأُسرية. كانت هذه “الأُمّ” في غاية الحنوّ أحياناً كما في قضية اللاجئين، وقاسيةً للغاية كما هو الحال مع ملف الديون اليونانية. وبين هذين الوجهين، يظلّ الثابت هو نجاحها في إدارة سنوات حُكمها بكثير من الحنكة والتبصّر والاقتدار، وكأنها تقول بأنّ السياسة يمكن يكون لها أيضاً وجه امرأة.