“أن تصبح ثورياً”: في تهجّي طلاسم مجموعات الاحتجاج الجديدة
يأتي كتاب الباحث الفرنسي في علم الاجتماع كولين روبينو في سياق صناعة يقظة بحثية حول المفلت من رؤية الدولة والإعلام لظاهرة المجموعات الاحتجاجية الجديدة التي تثبت فاعلية على الأرض دون أن تتهيكل حول نظريات وزعامات.

تعيش فرنسا، منذ أسابيع، موجة احتجاجات على خلفية مشروع قانون التقاعُد الجديد الذي يرغب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تمريره. هناك أثرٌ للمفاجأة لدى الخبراء والإعلاميّين والمسؤولين من القدرة التنظيمية التي تُحرّك هذه التحرّكات. وإذا كانت النقابات والأحزاب المعارِضة مؤسّسات تاريخية تسهر على تنظيم مثل هذه الاحتجاجات، فالملاحَظ في السنوات الأخيرة أنّ هذه الأدوار قد تراجعت وظهرت أساليب إدارة جديدة للاحتجاج، أبطالُها مجموعات صغيرة وهامشية يخلق مجموعُها فسيفساء احتجاجية لا تنفع الخطط الأمنية لتطويقها.
هذه المفاجأة لم تبدأ اليوم، بل كانت لحظةُ خريف 2018 إرهاصَها الأوّل والأبرز مع حركة “السترات الصفراء” التي عصفت لأسابيع بفرنسا وقناعات دولتها بإحكام سيطرتها على الفضاء العام. منذ تلك اللحظة، بدأ يظهر اعتراف بعجز الأساليب التقليدية عن الوقوف في وجه الملامح الجديدة للاحتجاج، وبدا من الضروري خلق انتباه لدى الباحثين لفهم الظواهر الجديدة للثورية.
يأتي كتاب “أن تصبح ثورياً: علم اجتماع الالتزام المستقل” (لاديكوفارت، 2022) للباحث الفرنسي كولين روبينو في هذا السياق. إنه محاولة صناعة يقظة بحثية حول المفلت من رؤية الدولة والإعلام لظاهرة المجموعات الاحتجاجية الجديدة التي تثبت فاعلية على الأرض دون أن تتهيكل حول نظريات وزعامات كما كان الحال عند صعود حركات التمرّد الاجتماعي في أوروبا القرن التاسع عشر. مجموعات قليلة هي التي بلغت شهرة، أبرزها “بلاك بلوك”، أو “أنانيموس”، أمّا البقية فهي تتحرّك تحت ستار كثيف من عدم المرئية.
يعترف المؤلّف، منذ البداية، بإشكالية موضوع بحثه؛ فالمجموعات الثورية الجديدة ليست مفهوماً مستقرّاً بعد، بل إنّه ضمن الخطاب السياسي لا يزال مفهوماً غير معترف به أصلاً. لا تريد السلطة (ليست الفرنسية وحدها) أن تصدّق بوجود مئات التنظيمات – حتى وإن كانت مجهرية – تعمل ضدّ فكرة النظام، ناهيك عن الأطر الأوسع؛ مثل مناهضة الرأسمالية أو فكرة الدولة.
لكن الإشكالية بالنسبة إلى الباحث هي أبعد من ذلك، باعتبار أنّ القول بأنّ المجموعات الثورية الجديدة تناهض الرأسمالية لا يعني أنها يسارية بالمعنى الموروث من القرن العشرين، والقول بأنّها ضدّ فكرة الدولة لا يعني كونها فوضوية بحسب التصوّر الذي أرساه منظّرو هذا التيار في القرن التاسع عشر. هذه المجموعات هي من البداية ضدّ التصنيفات الأوّلية، وبذلك فهي تتعدّد بشكل غير قابل للضبط، وتعقّد بذلك مهمّة الباحث في شؤونها، ولعلّها طريقة دفاعية تحمي بها نفسها من التفكيك.
عجزت الدولة والإعلام والعلوم الاجتماعية عن فهم المجموعات الثورية الجديدة
كما يلاحظ روبينو أنّ كثيراً من هذه المجموعات لا تقدّم خطاباً إلّا عبر الفعل المباشر خلال لحظة الاحتجاجات، فهي لا تقدّم مشروعاً مهيكلاً في نص، أو مانفيستو، بل إنّ بعضاً من هذه التنظيمات الصغيرة لا تملك حتى صفحات تُعرّف بها في منصّات التواصل الاجتماعي، وهي كذلك وسيلة دفاعية تتيح عدم القدرة على تصويب خطابٍ مناهض ضدّها في وسائل الإعلام الجماهيرية، كما حدث لتفكيك مقولات حركات ثورية سابقة.
يرى المؤلّف أنّ على الباحث في موضوع كهذا أن يتحلّى بكثير من التواضع، فقد سبقت الظاهرةُ عالمَ الاجتماع بأشواط، ففيما هو ما يزال يعدّ أدواته المفاهيمية تكون هي قد انتقلت إلى استراتيجيات جديدة، وربما ظهرت في تشكّل جديد وتحت أسماء أُخرى. ولذلك يحدّد روبينو هدفه بمحاولة فهم كيف تتشكّل هذه المجموعات؛ فإذا أعدنا صياغة العنوان قلنا إنّ المؤلّف يحاول الإجابة عن سؤال “كيف يُصبح أحدهم ثورياً في أيامنا؟”.
عادةً ما تجري إعادة التيارات الثورية (كما هو الحال بالنسبة إلى ربيع الطلبة في 1968) إلى أطروحات مفكّرين مثل هربرت ماركوزه، وطونين نيغري، وكاستورياديس، لكنّ روبينو يشير إلى أنّ هؤلاء الذين يشكّلون موضوع بحثه قد يكونون غير قارئين لمثل هذا النوع من الأدب الفكري، وهذا لا ينفي التأثير الذي يمكن أن يمارسه هذا المفكّر أو ذاك. الأفكار الثورية هي خلفيات وليست توجيهات.
من هذا المنظور، يعتبر روبينو أنّ المسار الأنجع للوصول إلى أجوبة علمية هو العمل عبر النموذج الميكروسكوبي، أي تتبُّع مسارات ذرّات ضمن هذا الإطار الاجتماعي للمجموعات الثورية الجديدة، يسمّيه المؤلّف بـ”الوسط المستقلّ”، ومن ثمّ تأمّل التشابهات والثوابت التي تجمعها. وفي ذلك يعتمد المؤلّف على شهادات 18 من المنتسبين إلى الإطار النظري الذي اخترعه، معتبراً أنّ السرديات الصغيرة هي السبيل الوحيد للوصول إلى مقولة حول ظاهرة مفلتة مثل حركات الاحتجاج المستقلّة.
خلقت هذه المنهجية فارقاً بين الإشكاليات التي طرحها روبينو في البدء على القارئ، وبين الخلاصات التي يصل إليها، ففي النهاية يبدو كلُّ العمل – وهذا مصرّح به من المؤلّف – مثل نظر في مرآة عاكسة، إذ يقف روبينو عند خلفيات العمل الاحتجاجي؛ مثل العلاقات الأسرية، أو الانتماءات التنظيمية الأولى في المدرسة أو المعهد، أو أسباب النفور من التنظيمات التقليدية كالأحزاب والجمعيات. سيخرج القارئ بمشهد فسيفسائي عبر شهادات المستجوبين، وأن يلتقط من كلّ ذلك صورة ما، فهو أمر في غاية التعقيد، وفي نهاية العمل يقترح المؤلّف قراءة لـ”مستقبل العمل الثوري”.
هكذا ينتقل من الماضي إلى المستقبل، دون أن نعرف الكثير عن الحاضر، وكأنّ الأمر شهادة حول عجز العلوم الاجتماعية اليوم في سبيل متابعة الواقع وتغطيته. لكن لو فعلت ذلك، ما الفرق بينهما وبين الصحافة؟