إلين مختفي: ما زلتُ في الجزائر
في هذا الحوار، تتحدّث الكاتبةُ الأميركية عن محطّاتٍ كثيرة مِن حياتها؛ بدءاً مِن نيويورك ووصولاً إلى الجزائر التي كانت شاهدةً على لحظتَين أساسيّتَين مِن تاريخها المُعاصر: لحظة الكفاح التحرُّري، ولحظة الاستقلال التي عايشت خلالها ميلادَ الدولة المستقلّة.
عندما أصدرَت الكاتبةُ والمترجِمةُ الأميركية، إلين مُختفي، كتابَ مُذكّراتها “الجزائر عاصمة العالم الثالث“ (نُشر بالإنكليزية عن دار فيرثو في الولايات المتّحدة) عام 2018، انتبَه كثيرونَ إلى امرأةٍ غيّبَتها الذاكرةُ الجزائرية طويلاً، وهي التي التزَمت الصمتَ منذ ترحيلها مِن البلاد عام 1974.
كانَ لا بُدَّ للكتابِ أنْ يتضمَّن حكاياتٍ وتفاصيل مثيرةً قلّما يهتمُّ بها التاريخُ الرسمي؛ فمُؤلِّفتُه كانت شاهدةً على لحظتَين أساسيّتَين مِن تاريخ الجزائر المُعاصر: لحظة الكفاح التحرُّري الذي آمنت به وانخرطت فيه مُترجمةً في مكتب “جبهة التحرير الوطني“ في نيويورك، ولحظة الاستقلال التي عايشت خلالها ميلادَ الدولة الجزائرية المستقلّة، وعرفت فيها عدداً غير قليل من صُنّاع القرار الجزائريّين عَن قُرب.
وكان على مُختفي أنْ تنتظر خمسةً وأربعين عاماً لتعود إلى الجزائر مُجدّداً. سيتحقَّق ذلك في 2019؛ حين جرت دعوتُها إلى “معرض الجزائر الدولي للكتاب“؛ حيثُ قدّمَت كتابَها الذي كان قد صدر في السنة نفسها في نسخةٍ بالفرنسية حملت عنوان “الجزائر عاصمة الثورة“، في استعادةٍ للدور الذي لعبته البلادُ خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بوصفها “قِبلةً للثوّار“، وأيضاً تيمُّناً بالحَراك الشعبي، كما تقول.
وربّما قليلون، فقط، يعرفون أنَّ إلين كلاين (اسمُها الأصليّ) فنّانةٌ تشكيلية أيضاً. في أعمالها، ثمّةَ توجُّهٌ إلى رسم المشاهد الطبيعية والأجساد البشرية والبورتريهات؛ مِن بينها بورتريه ذاتي وآخر لزوجِها الراحل مُختار مختفي.
وقد درست مُختفي الفنّ التشكيلي في “مدرسة الفنون الجميلة” بباريس التي عاشت فيها خلال مراحل متقطّعة، وأصدرت حولها كتاباً بعنوان “باريس: تاريخٌ مصوّر” (2002).
حينَ راسلتُها عارضاً عليها إجراء حوارٍ لموقعٍ إلكتروني لم يكُن قد انطلق بعد، رحّبَت الكاتبةُ والفنّانةُ الأميركية بحفاوةٍ بالغة. وحين أرسلتُ لها الأسئلةَ، أجابتني بأنّها ستضطرُّ لعدم الإجابة عن عددٍ مِن الأسئلة الكثيرة التي قالت إنها تكفي لتُشكّل كتاباً بأكمله. ربما أنساني حماسي أنّها في الثانية والتسعين مِن العُمر.
في هذا الحوار، تتحدّث مُختفي عن محطّاتٍ كثيرة؛ بدءاً مِن نشأتِها في نيويورك، مروراً بباريس التي تعرَّفت فيها إلى القضية الجزائرية وانخرطت فيها، ووصولاً إلى الفترة التي قضتها في الجزائر.
يتضمّن الحوارُ، أيضاً، صورةٌ لها مع زوجها لم تُنشَر من قبل، وقد التُقطت في الجزائر العاصمة عام 1972. وكانت واحدةً من الأشياء القليلة التي تمكّنت مِن أخذها معها.
بحسرةٍ، أجابتني وأنا أطلبُ منها صُوراً أخرى: “كانت الصُّوَر آخر ما فكّرَتُ في أخذه معي مِن الجزائر التي آمل آن تُفتَح الأجواء قريباً وأتمكَن من العودة إليها مرّةً أُخرى“.
♦ ♦ ♦
♦ وُلدتِ في نيويورك عام 1928 لعائلةٍ تنتمي إلى الطبقات الشعبية. أودُّ أن تُحدّثيني – في البداية – عن طفولتكِ وسنوات صباكِ الأولى هناك…
نشأتُ في فترة الكساد الكبير، أو ما يُعرَف بانهيار بورصة وول ستريت (1929). كانت أوقاتاً عصيبةً جدّأً؛ حيث وَجد والدايَ نفسَيهما مِن دون مورد رزق. أعتقد أنّ آثار الكساد ساهمت في تكويننا ورافقتنا طوال الحياة.
أتذكَّرُ مِن طفولتي الباعة المتجوّلين، وفتيان توصيل الحليب، وبائعي الثلج، والعربات التي تجرُّها الأحصنة، وباعةَ الملابس المستعمَلة، والبواخر وهي تدخل مرفأ نيويورك. بدأتُ ارتياد المدرسة في المدينة قبل بلوغي سنَّ السادسة. لكنّنا انتقلنا بعدها للعيش في قُرىً مختلفةٍ تقع أبعد شمالاً، ولم أعد للعيش في مدينة نيويورك إلّا سنة 1946، عندما صرتُ طالبةً جامعيّة… وقد شعرتُ حينها أنّها تغيّرَت كثيراً عمّا كانت عليه في ذاكرتي.
♦ في نيويورك، رأيتِ عن قُرب أشكالاً متعدّدة مِن الاضطهاد والتمييز العُنصري. كيف أسهم ذلك في تشكيل وعيك، ثمّ التزامكِ لاحقاً بقضايا التحرُّر والمساواة؟
بدأ إدراكي لمعاداة السامية في القُرى التي عشنا فيها؛ إذ كُنّا دوماً العائلةَ اليهودية الوحيدة في القرية. ولقد ارتبطتُ في سنٍّ مبكرة بالأشخاص الذين عانوا من التمييز، خصوصاً السود منهم. كنتُ أشعر أنّني قريبةٌ مِنهم بسبب ما عشتُه في طفولتي، فقد عرفتُ العنصرية عن قرب.
♦ ستُغادرين إلى باريس في العام 1951، وكنتِ حينها في الثانية والعشرين. لماذا اخترتِ العاصمة الفرنسية تحديداً؟ وهل كنتِ تُخطّطين للإقامة فيها بشكل نهائي؟
غادرتُ الولايات المتّحدةَ بغية الاكتشاف… لأرى العالمَ. واخترتُ باريس لأنّها كانت مدينةَ أعظم الرسّامين والكُتّاب، كما أنّ كبار الكتّاب الأميركيّين استقرّوا فيها خلال تلك الفترة، وحتّى قبل الحرب العالمية الثانية، مِن بينهم إرنست همينغوي، وسكوت فيتزجيرالد، وجيمس بالدوين، وريتشارد رايت… أَضِف إلى ذلك أنّني كنتُ أعتقدُ، حينها، أنّ فرنسا هي بلدُ حقوق الإنسان، وحقوق المرأة بشكلٍ خاص.
■ حينها، لم تكن الثورةُ الجزائرية قد بدأَت بعدُ. لكن، هل كنتِ تعرفين شيئاً عن نضال الجزائريّين، طيلة أكثر من قرن، ضدّ الاستعمار الفرنسي؟ أقصد قبل هجرتك إلى فرنسا.
بعد الحرب العالميّة الثانية، صرتُ على معرفةٍ بنضال الدول الآسيوية للحصول على استقلالها. كنتُ قد تابعت، وأنا في نيويورك، التطوُّرات السياسية التي طرأت في الهند، وكفاح غاندي، وحرب الهند الصينيّة –الحرب الاستعمارية التي قادتها فرنسا في فيتنام. لقد ساهَمَت تلك الأحداث في تبلوُر وعي الجيل الذي أنتمي إليه.
■ في باريس، ستكونين شاهدةً على القمع الذي تعرّض له العُمّال الجزائريّون. بالنسبة إلى شابّةٍ مأخوذةٍ بشعارات الثورة الفرنسية وكانت تعتقد أنها تركت ممارسات الاضطهاد وراء المحيط الأطلسي، إلى أيّ حدٍّ كان صادماً اكتشافُ هذا “العالَم الخلفي“؟
فعلاً، وقد حدَثَ ذلك في 1952؛ حين مَنَعَت السُّلطات الفرنسية العمّال الجزائريّين من الانضمام إلى موكب الاحتفال بمناسبة الأول مايو/ أيّار، بالرغم من تفانيهم في العمل. أعتقدُ أنّها كانت المرّةَ الأُولى التي أدركتُ فيها بوضوح مدى عنصرية فرنسا، وهو أمر ما انفكّ يتأكَّد مع مرور الوقت.
حظيَ فرانز فانون ومحمد سحنون بإعجابٍ واحترام كبيرَين، وكنتُ تلميذتهما على نحو ما
■ خلال هذه الفترة، تعرّفتِ إلى فرانز فانون. أعتقدُ أنه لعبا دوراً أساسياً في التزامك بالثورة الجزائرية، إلى جانب محمد سحنون الذي تعرّفتِ إليه حين كانَ طالباً في نيويورك؟
كان فانون وسحنون محطّ إعجابٍ واحترام كبيرَين لما كانا يتميّزان به من ذكاء متّقد وحنكة عالية ونضال لا تشوبه شائبة. لقد كنتُ، على نحو ما، تلميذتهما.
■ ستعودين إلى نيويورك، لكن هذه المرّة للعمل مُترجِمةً في مكتب “جبهة التحرير الوطني” إلى جانب عددٍ من المناضلين الجزائريّين. حدّثينا عن تلك التجربة، وما الذي بقي عالقاً من مِواقف وأشخاصٍ في ذاكرتك اليوم؟
يُمكنني القول إنَّ عملي مترجمةً في مكتب “جبهة التحرير الوطني” كان التكوينَ الذي منحني معرفةً واسعة ودرايةً معمَّقةً بمدرسة العالم الثالث. جعلني عملي هناك أُدركُ، بما لا يدع مجالاً للشك، ضرورة التضامُن مع القضايا العادلة ومساندتِها إلى النهاية، ومهما حدث.
■ نَعرف أنَّ جون كينيدي كان أحدَ أبرز المطالِبين باستقلال الجزائر. أودُّ، هنا، أنْ أعرف المزيد عمّا كان الأميركيون يعرفونه عن الثورة الجزائرية، وعن المواقف السياسية والمدنية في الولايات المُتّحدة إزاءها في تلك الفترة...
فعلاً، في سنة 1957، صرّح النائبُ، حينها، جون كينيدي، في خطاب تاريخي أمام مجلس الشيوخ الأميركي بمساندته للقضية الجزائرية، مُنتقِداً الحكومة الفرنسية بشكلٍ لاذع. ولاحقاً، قال إنّه لم يتلقَّ في حياته رسائل سلبيّةً كتلك التي وصلته بعد مداخلته في مجلس الشيوخ، إلى حدّ جعله يتفادى الحديث عن الجزائر خلال حملته الرئاسية عام 1960.
مؤخَّراً، شاهدتُ فيلماً على شبكة الإنترنت تناولَ زيارة أحمد بن بلّة إلى واشنطن سنة 1962، وظهر فيه الرئيس كيندي وعلاماتُ الحبور والسعادة باديةٌ عليه، وكذلك على حَرَمِه التي ظَهَرَت في الخلفية وهي تحمل طفلهما بين ذراعَيها.
■ جمعَتْكِ صداقةٌ قوية بفرانز فانون، وكنتِ تزورينه في أحد مستشفيات واشنطُن؛ حيثُ كان يتلقّى علاجاً مِن سرطان الدم عام 1961. أودُّ أن تُحدّثيني أكثرَ عنه وعن أيامه الأخيرة، وعمّ كانت تعني له الجزائر؟
كانت الجزائرُ بالنسبة إلى فرانز فانون وطنه، وكفاح حياته، وكان زملاؤه “إخوةً” له (خاوة). كان يشعر فعلاً أنّه جزائري، وهو ما كان يقولُه جهاراً ومِن دون تردُّد. أمّا عن أيامه الأخيرة، فلا ننسى أنّه كان طبيباً، وكان إذن يعلم أنّ المرض سيفتك به قريباً.
■ ستنتقلين للعيش في الجزائر بعد استقلالها عام 1962. ما الذي كُنتِ تُفكّرين فيه في اللحظة التي قلتِ: “حسناً! سأذهب إلى الجزائر وسأستقرُّ هناك“؟
كان استقراري في الجزائر، غداةَ استقلالها، سبيلاً للمشاركة في الجهود التي كانت تبذلها لمُساعدة البلدان المستعمَرة الأُخرى في نيل حريّتها. كانَ ذلك مواصلةً لكفاحي في مساندة القضايا العادلة. كما شعرتُ بأنّني أُساهم في بناء الدولة الفتيّة، ولم يكن من حقّي التخلّي عن مهمّتي.
انعدام الديمقراطية كان من صنيع أشخاص مهووسين بالسلطة ولم يَعنِهم إرساءُ قيَم العدالة
■ ما هو الانطباع الأوّل الذي ترسَّخَ لديك عن الجزائر المستقلّة؟
قلتُ في نفسي “يا له من بلد جميل يا لها من مدينة جميلة (الجزائر العاصمة). كان الناسُ فقراءَ لكنّهم أسخياء، يجودون بكلّ ما يملكون. لقد استقبَلونا بعفويّة، ودفء وصداقة، حتّى الفرنسيّين منّا.
■ كُنتِ واحدةً من بين آلافٍ وصلوا إلى الجزائر، خلال الأشهر الأُولى من الاستقلال، من بُلدان مختلفة، وهؤلاء كانوا – كما تصفينهُم في أحد حواراتك – “يحلمون ببناء عالَم أكثر كمالاً“. بعد كُلّ هذه السنوات، كيف تنظُرين إلى تلك “الأحلام الكبيرة“؟ أقصد: هل تَحقَّق شيءٌ منها؟
صحيح أنّ الجزائرَ كانت قد حازت استقلالها، وتلَتْها بلدانٌ أُخرى في ذلك. لكن، كان هناك نقصٌ فادح في الأشخاص المتعلّمين والمكوّنين، فلقد ترك الاستعمار خلفه آثاراً مُدمِّرة كان يلزم لتجاوزِها والتخلُّص منها سنواتٍ طوالاً وأجيالاً عديدة. وأمّا انعدام الحريّات والديمقراطية، فكان من صنيع أشخاص مهووسين بالسلطة أيّاً كان الثمن، ولم يكُن يعنيهم إرساءُ قيَم العدالة.
■ ثمّةَ اعتقادٌ بين قطاعٍ واسعٍ من الجزائريّين بأن السلطةَ آلت بعد الاستقلال إلى أشخاصٍ مُوالين للاستعمار السابِق، بمعنىً آخر، بأنَّ فرنسا واصلت استعمار الجزائر بطريقةٍ غير مباشرة. وذلك ما يُفسّر – بحسب هؤلاء – المآلات الفظيعةَ التي عرفتها البلادُ لاحقاً. إلى أيّ مدىً تجدين ذلك صحيحاً؟
مِنَ البديهيّ أنّ فرنسا سعت إلى الحفاظ على مصالحها وعملت على أن تتّبع الجزائرُ سياسةً تسمح لها بمواصلة استغلال موارد هذه الأخيرة. الغربُ عموماً كان يسعى إلى تحقيق مصالحه. لكنّ ذلك لا يعني أن مسؤولية الكارثة السياسية تقع بالكامل على كاهل الاستعمار والآخرين؛ إذ كان أمام قيادات الجزائر المستقلّة خياراتٌ وفرصٌ عديدة.
هذه القيادات لم تسعَ حتى خلال حرب التحرير إلى وضع سياسةٍ قائمةٍ على التضامُن والتكافُل، بل أنّها اعتمدت جوانبَ من سياسة المستعمِر نفسه؛ مثل نقص التعليم، والحس السياسي، والديمقراطية في صفوف جيش التحرير الوطني، والتقاعُس في محاولة الوصول إلى التفاهُم بدل الصراع بينهم، واعتمادُ حلولٍ جذريّة بدل تعزيز الحوار… أمّا الشعب، فكان مُنهَكاً من حرب لا تنتهي، ويُعاني من الفقر والحاجة، ومِن الأمراض، وكان يلزمه قادةٌ محنّكون، يملكون حسّ العطاء والانفتاح، ويُعزّزون التضامُن بين الجميع، قادة لا يسعون إلى السيطرة على الشعب بهدف تحقيق مصالحهم الشخصية في المقام الأول. والجزائر كانت تزخر بشخصيّات وزعماء من هذا العيار.
■ في الجزائر، عملتِ في مواقعَ مختلفة وتعرّفتِ عن قُربٍ إلى كثير من الشخصيات الجزائرية الفاعلة في تلك الحقبة، وقد تطرّقتِ إلى كلّ ذلك بالتفصيل في كتاب مذكّراتك. سأسألُك، أوّلاً، عن الرئيس الراحل أحمد بن بلّة. ماذا تُخبرينني عنه؟
يُذكّرني ترامب ببن بلّة؛ فكلاهما شخصٌ مغرور، يرغب في السيطرة على الآخرين، ويتجاهل الأشكال الديمقراطيّة للحكم، واهماً أنه المنقِذ الذي لديه كلّ الحقوق. مِن غير المعقول أن يضع بن بلّة فرحات عبّاس ومحمد بوضياف تحت الإقامة الجبرية في الصحراء، أليس كذلك؟
■ هل كان انقلابُ بومدين متوقَّعاً؟ وكيف جرى استقبالُه في الجزائر وفي العواصم الغربية؟
أعتقد أنّ الانقلاب كان متوقَّعاً… بن بلّة نفسُه كان يعرف أنّه كان ممكناً ومحتمَلاً. على حدّ علمي، رغم أنّ الانقلاب قوبل بالاستهجان، إلّا أنّ لا أحد تحسّر على رحيل بن بلّة.
يُذكّرني ترامب بأحمد بن بلّة؛ فكلاهما مغرور ويرغب في السيطرة، ويتجاهل الديمقراطيّة
■ في السجن، سيتزوّجُ بن بلّة مِن زهرة سلّامي؛ صديقتك المقرّبة. أودُّ أن تُحدّثيني قليلاً عن هذه المرأة التي لا نعرف عنها الكثيرَ في الجزائر...
كما ذكرتُ في كتابي، كانت زهرة شابّة ذكيّة، لطيفة، جميلة، وشجاعة جدّاً. لقد وافَقَت على الارتباط بسجين. مهنيّاً، كانت صحافيّة بارعةً وتُحبّ عملها.
■ عرفتِ الكثير مِن الشخصيات الجزائرية خلال إقامتك في الجزائر. لكنّني سأسألك، هنا، عن أحمد طالب الإبراهيمي الذي ذكرتِ في مذكّراتك أنّه كان المسؤول الجزائريَّ الوحيدَ الذي عاملك بطريقةٍ سيّئة حين أقصاك من مجلّة “الجنوب” بعد تولّيه وزارةَ الإعلام.
فَصَلَني أحمد طالب الإبراهيمي من عملي في وزارته، لكنّني لم أكُن ضحيّتَه الوحيدة. بصفته وزير الاتصال والثقافة، قرَّر بين ليلةٍ وضُحاها إقالة المسرحيّ عبد القادر علّولة من منصبه على رأس المسرح الوطني الجزائري. كما منع جان سيناك وكاتب ياسين من الظهور على وسائل الإعلام الرسمية (الإذاعة والتلفزيون الجزائري). كان كاتب ياسين يسمّيه ساخراً: “Mon Gomina”.
■ تعرّفتِ إلى زوجِك مختار مختفي عام 1972، خلال عملك في وزارة الاتصال، وأكملتُما مشواركما معاً حتى رحيله عام 2015. ماذا تُخبرينني عن هذا الرجُل؟
كان رجُلاً متفرّداً، يحبّ وطنه بشغف، ويعمل من أجل العدالة والديمقراطيّة. أعتقد أنّ زملائه احترموا وقدّروا ذكاءه، وتفانيه، وشجاعته، سواء أولئك الذين عرفوه في جيش التحرير الوطني، أو في الحركة الطلّابية، أو في الحكومة الجزائرية.
■ خصّصتِ جانباً كبيراً مِن الكتاب للحديث عن حركةِ “الفهود السود“ التي بدأ عددٌ من رموزها بالوصول إلى الجزائر بدءاً من العام 1969. برأيك، هل الجانبُ الأيديولوجي كان السببَ الوحيدَ لاستقبال الجزائر الحركة ودعمها، أم أنَّها استُخدمت كورقة ضغطٍ ضدّ الأميركيّين.
في رأيي، اعتبرَت السلطات الجزائرية “الفهود السّود” ضحايا للتمييز العنصري، واستقبَلَتهم دون أيّة دوافع خفيّة. أعتقد أنّ الاستقبال الذي خصّت به الحركات التحرّريّة الأفريقية وغيرها نابعٌ من تاريخها وتجربتها، حزباً وجيشاً للتحرير الوطني. لقد كانت تعي أهمّية التضامُن مع الشعوب المضطهَدة لمعرفتها بإمكانيّاتها الضئيلة في وجه القوى العظمى… كانت تُدرِك حاجةَ تلك الحركات إلى المساعدة. ولم يتّجه هذا الوعيُ والتضامن إلى الحركات الأفريقيّة فحسب، وإنّما تجاوَزَه إلى الحركات في أميركا الشمالية واللاتينيّة، وفي أوروبا (على سبيل المثال، الحركات المناهضة لأنطونيو سالازار، ولفرانثيسكو فرانكو).
■ تذكُرين حادثةً صادمةً تتمثّلُ في قتل إلدريدج كليفر صديقَه رحيم (كلينتون سميث) في الجزائر، وهو ما اعترف به لكِ شخصياً. كيف استقبلتِ ما حدث؟ وكيف تعاملت السلطات الجزائرية معه؟
استمعتُ إلى هذا الاعتراف بحزن وصمت.
لم أكُن وحدي ضحية أحمد طالب الإبراهيمي؛ فقد فصل مثقّفين ومنع آخرين من الإعلام
■ كانَ “المهرجانُ الثقافي الأفريقي” الذي شاركتِ في تنظيمه عام 1969، حدثاً لافتاً في تلك الفترة. ماذا تذكُرين منه؟
كان حدثاً فريداً ورائعاً، تجاوَز نجاحُه كلّ التوقّعات. أعتقد أنّه كان تظاهرةً لا يمكن تكرارها، وإن كُرّرت، فلن يكون لها الأثر نفسُه لأن العالم قد تغيّر. المهرجان الثقافي الأفريقي الأوّلُ جزءٌ مِن التاريخ ومِن ذاكرتنا.
■ في 2009، أي بعد خمسين عاماً من الدورة الأولى، نظّمت الجزائرُ دورةً ثانية من المهرجان في ظروفٍ وسياقاتٍ مختلفة تماماً. هل تلقّيتِ دعوةً للمشاركة في المهرجان؟ وهل لديك فكرةٌ عنه؟
لم أُدعَ إليها. لكن، حسب علمي، لم يكن للدورة الثانية نفْسُ وقْع الدورة الأولى، ولم تتحدّث عنها الصحافة الدوليّة.
■ شهدَت “الفهود السود” انقساماتٍ انتهت بخروجها من الجزائر عام 1973. هل تخلّى بومدين عن الحركة مُفضّلاً التقرُّب من الإدارة الأميركية؟ أم أنَّ ما حدث كان نتيجةً طبيعية لمسار الحركة نفسها؟
في رأيي، يرجع انقسام “الفهود السود” في الجزائر وخروجهم منها أساساً إلى المشاكل التي كانت تعاني منها الحركةُ في الولايات المتّحدة الأميريكة، وتدميرِ مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية لها، وتفكيكِها إلى مجموعات متفرّقة. كان بإمكان أفراد “الفهود السود“ البقاء في الجزائر؛ فالسُّلُطات الجزائرية لم تطردهم، لكنّهم أدركوا أنّ مُنظَّمَتَهم كانت تحتضر، وقاتهم كانوا مطارَدين، ولم يبق لهم خيار إلّا التفكير في حياتهم الشخصيّة، في عائلاتهم وأطفالهم. كان عليهم تنظيم حياتهم المستقبلية على نحو مختلِف.
■ أيّ إرثٍ بقي من “الفهود السود” اليوم؟ خلال إعدادي لهذا الحوار، قرأتُ أنَّ عشرين مِن مناضلي الحركة لا زالوا في السجون الأميركية إلى الآن.
كانت الحركةُ منارةً ومرجعاً لجيل بأكمله، البيض والسود منهم على حدّ سواء، وهي باقية في ذاكرتنا. كما أنّها كانت مصدر إلهام لحركة “حياة السود مهمّة“.
■ هذا يُحيلُني إلى الحديث عن العنصرية في الولايات المتّحدة الأميركية اليوم. كيف تنظرينَ إلى هذا الموضوع على ضوء ما شهدته البلاد في 2020 من مظاهرات مناوئة للتمييز العُنصري ضدّ السود، وظهور حركة “حياة السود مهمّة“، على خلفية مقتل جورج فلويد على يد الشرطة؟
العالم يتغير. ورغم أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة ما تزال بلداً يُعاني من العنصرية، إلّا أنّه ليس بمنأى عن رياح التغيير. نرى ذلك في التغيُّرات التي طرأت على تفكير الشباب، وفي مجال الصحافة، وعالم الثقافة، والتعليم، وكذلك في مجال السياسة، حيث شهدنا انتخاب نُوّابٍ في مجلس النوّاب وأعضاءَ في مجلس الشيوخ من الأميركيّين الأفارقة.
■ جرى ترحيلك من الجزائر عام 1974 وُمنعتِ مِن العودة إليها مُجدّداً. ماذا الذي حدث بالضبط؟
لقد رفضتُ العمل لصالح المخابرات وتزويدهم بمعلومات عن صديقتي زهرة سلامي.
■ قبل ذلك، رُفض طلبك الحصول على الجنسية الجزائرية. هل أعطوك أسباباً لهذا الرفض؟
لا، لم يعطوني أيّ سبب.
كان مختار مختفي ليتحدَّث عن خيباته بعد الاستقلال لو كتب جزءاً ثانياً من مذكّراته
■ أصدر مختار مُختفي كتاب مذكّرات بعنوان “ كنتُ فرنسياً مسلماً: مسار جندي في جيش التحرير الوطني“، لكنه توقّف عند العام 1962. لو قُدّرَ له أنْ يكتب جزءاً ثانياً منها، برأيك ماذا كان سيقول فيها؟
ربّما كان سيتطرّق إلى انعدام الحريّات والديمقراطية، وكان ليُدين التدابير الرقابيّة، والتعسّف، وسلطة المخابرات، وكان ليتحدَّث عن خيبات أمله بعد الاستقلال.
■ في الحوارات التي أجريتِها بمناسبة صدور النَسخة الفرنسية من مذكّراتك في 2019، والذي تزامَن مع بدأ الحَراك الشعبي في الجزائر، عبّرتٍ عن إعجابك بالحراك وأبديتِ تفاؤلاً كبيراً به. كيف تنظُرين إلى الوضع في الجزائر اليوم بعد قرابة سنتَين من ذلك؟
آمل أنّ الحراك لم يخبُ تماماً، وأنّ حركةً قويّةً ومتّحدةً ستُولَد مِن جمراته.
■ أودُّ، هنا، أن أعرف عن ردود الفعل التي أثارتها مذكّراتُك، سواء في الجزائر أو في الولايات المتّحدة الأميركية.
رائعة لقد تفاجأتُ من الحفاوة التي لقيها الكتاب في الجزائر، وأنا ممتنّة لذلك. كان رأيُ الجزائريّين ما يهمّني في المقام الأول.
■ ما الذي تُريدين قولَه في نهاية هذا الحوار… ربما تُجيبينني عن سؤالٍ غفلتُ عن طرحه، أو تُخبرينني بقصّة ترغبين في مشاركتها معنا؟
أشعر بسعادة غامرة لحفاوة الاستقبال الذي حظيتُ به عند زياراتي إلى الجزائر. الجزائر بلدي كذلك، شاء من شاء وكره من كره. فلتحيَ في سعادة!
كاتب وصحافي جزائري ومؤسّس موقع “رحبة”. من مواليد 1983. بدأ الكتابة الصحافية مدوّناً في 2005، قبل أن يعمل في عددٍ من المؤسّسات الصحافية الجزائرية والعربية، بين الصحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون. صدرت له مجموعة قصصية في 2008، ورواية في 2013.
-
رشيد2425 إبريل 2022 | 02:38
سلام صحا فطوركم والله اقالتها من طرف السيد احمد طالب الابراهيمي هي عين الصواب هو مسؤول وزير وله الحلق في التغييرات في تشكي وزاراته والقطاعات التابعة له ما لعجب في ذلك ؟؟؟؟