ابتذالُ الصحافة… الشيخ شمسو مُحقِّقاً ومنانوك واعظاً
لا تشفعُ لشمس الدين صفةُ رجل الدين المتسامِح ليُقدِّم برنامجاً تلفزيونياً يُحقِّق في أحوال المجتمَع، ولا تشفعُ لمحمد بارتي "طرافتُه" ليُقدِّم برنامجاً يُثير قضايا تتطلّب مختصِّين ولا ينفع فيها التهريج.

لا يعرف شمس الدين بوروبي تقنيّاتِ الصحافةِ ولا أخلاقيّاتها؛ فهو لم يدرسها كتخصُّصٍ في الجامعة ولم يُمارسها كمهنة. لذلك، يعرِض على شاشة التلفزيون أطفالاً يقول إنّهم فقراء بطريقة يُعاقِب عليها القانون، حين ينتقل مِن الإفتاء إلى التحقيق في أحوال الناس، في زمنِ اختلاطِ الأشياء والأنواع الذي يدفعُ أيضاً “منانوك”، اليوتوبر المعروفَ ببذاءته، إلى التلفزيون، ليتولَّى إرشاد المشاهدِين إلى السبُل المُثلى لإدارة حياتهم.
والذنْبُ، هنا، ليس ذنبَ “المفتي” العصاميّ، ولا “الفنّانِ” البوهيميِّ القادم مِن حياةٍ صاخبة.
يَظهرُ “الشيخ شمس الدين”، في برنامجه، مُحاطاً بالأطفال في حيٍّ قصديريٍّ بالجزائر العاصمة، قبل أن يدخل كوخاً سترصد الكاميرا زواياه، ثم تتحوَّل إلى وجوه سكانه: سيّدة وأطفالها. تقول السيّدة إنّها تُقيم هنا منذ عشرين عاماً، وإنّ أبناءَها لم يقتاتوا منذ أربعة أيام.
وبالطّبع، فإنَّ “المحقِّق” لا يمتلكُ أدوات التحقُّق من صدق تصريحها، ولا يستطيع تقدير الوضعية البيولوجية التي يكون عليها طفلٌ لم يأكل منذ أربعة أيام. لكنّه يسوق ملاحظةً بدت له هامّة، وهي أنّ وجودها في المكان سبق ارتفاع العمارات التي نبتت خلف الكوخ، في محاولةٍ للبرهان على أنَّ للسيّدة حقٌّ في الإقامة في شقّة مِن شققها.
بعد قليل ستركّز الكاميرا على عينَي الشّيخ الدامعتَين تأثُّراً بحال العائلة الفقيرة التي يُعيلها طفلٌ تخلّى عن الدراسة. ولا شكَّ أنَّ دموعه، التي ستنهمر في حلقات أُخرى من البرنامج، معيبةٌ في العمل الإعلاميّ الذي يقوم به، وحتى وإن رأى البعضُ أنّها تكشفُ عن إنسانية الداعية المعروفِ بنشاطه الاجتماعي.
في حلقةٍ أُخرى، يَظهرُ شمس الدين بجوار رجُلٍ مريضٍ وزوجتِه وطفلِهما. وبعد سرد قصّة الرجُل طريحِ الفراش، لن يتردّد المحقّق في إمساكِ الصغير والتلويح به أمام عدسة الكاميرا، قبل إظهار الرجل باكياً أمام ابنِه.
أمّا منانوك (اسمُه الحقيقي محمد بارتي)، فيخرُجُ من يوتيوب إلى التلفزيون ليقدِّم سرديّته العبثية للعالَم.
في الحلقة الأُولى مِن برنامجه، يتصدّى لظاهرة نرفزة الجزائريّين في رمضان، فيُرجعها إلى مشكلة بيولوجيّة مرتبِطة بحرمان الجسدِ من الغذاء. وخلال البرنامج، يتّصل طبيبُ أسنانٍ ليشيدَ بالمقدِّم ويتحدَّثَ عن الغضب وأسبابه. في الحلقة الثالثة، سيحلُّ الطبيبُ ذاتُه ضيفاً على منانوك الذي لن يجدَ حرَجاً في الاعتراف للمشاهدين الكرام بأنّ الضيفَ صديقُه!
يستضيفُ “منانوك” في برنامجه التلفزيوني طبيبَ أسنانٍ ليتحدّث عن ظاهِرة تأخُّر سنّ الزاوج
لم يتحدّث الطبيبُ الشابُّ، الذي يقول مستضيفُه إنّه غير متزوِّج، عن مشاكل الأسنان، بل عن تأخُّر سنّ الزّواج في الجزائر. وبالطبع، فإنّ لـ”منانوك” نظريتُة في المسألة، والتي تُفسِّر الإشكاليةَ باعتبار الزواج “مشروعاً”، وعدمِ أخذه بالبساطة التي يُفترض أن تكون عليها عمليّة التزاوج التي يشتركُ فيها الإنسانُ مع بقيّة الكائنات. يقدّم أمثلةً غريبةً في هذا الشأن، كقصّة جاره في وهران الذي “جُنّ” لأنَّ والدته صرفت المال الذي كان يدّخره للزواج، أو قصّة صديقه العراقيّ علي، الذي تعرّف عليه في بريطانيا، والذي بلغ من حبّه لصديقته الأميركية أنّه أصبح يتوهّم أنّها حامل منه، رغم بُعد المسافة بينهما. ولا بأس أن يضيف لذلك توابله الخاصّة كأن يُقهقه حين يذكر “علي” الذي أُصيب في انفجار قنبلةٍ بالعراق، في سوء تقديرٍ لأسلوب الحديث عن حادثةٍ مأساويّة.
أما الطّبيب فيستعيرُ أدوات السوسيولجيِّ ليقرأ أثر العادات الاجتماعية على الظاهرة، قبل أن يَظهر في حلقة أُخرى ليُفسِّر للجمهور إشكاليات الحُبّ في الجزائر وطرائق التعبير عنه، ويكشف أنّه تربى في عائلةٍ لا يقول فيها الأب للأمّ “أحبّك” على مسمعٍ من الأطفال.
لم يدرس “منانوك” الصحافة ولم يمارسها كمهنة. وإذا كان الرجُل قد عُرف في بدايته كموسيقي، فإنّه اشتهر على يوتيوب في جلساتٍ مِن الواضح أنها كانت تُصوَّر بغرض تحقيق “البوز”.
وترجع شهرته في هذا الفضاء أساساً إلى طريقة تعبيره التي يَجمعُ فيها بين الفكاهة والبذاءة والعفوية، إلى درجة أنه حوّل حياته الخاصّة إلى مادة للسخرية.
يستضيفُ محمد بارتي ضيوفاً في بعض الحلقات ويفتح خطّ الهاتف للمتِّصلين، ويكتفي باستضافة نفسه في حلقاتٍ أُخرى لمناقشة ظواهر يُفسّرها وفق نظرته الخاصّة. ورغم اجتهاده في إخفاء أسلوبه الذي عُرف به كيوتوبر، إلّا أنَّ مقاومَته تنهار بين الحين والآخر، فتغلبه قهقهة أو لازمة لفظية؛ كأن يرّدد عبارة “راكْ فاهمْ” التي كثيراً ما كان يردّدها في فيديوهاته، إلى جانب كلمة “العدس”!
يمكن أخذ البرنامجَين كمثالَين عن استسهال العمل الإعلاميّ في الجزائر وابتذالِه، وسوءِ إدارة نشاطٍ يُفترضُ أنْ يقوم به متخصِّصون محترفون، بدايةً مِن إعداد البرنامج إلى تقديمه، وما يقتضيه ذلك مِن مهارة ومعارفَ تُمكّن مِن الإحاطة الدقيقة بالموضوع واختيار المتدخِّلِين المناسبِين، وأخلاقياتِ مهنةٍ تحمي وسائل إعلامية من الوقوع في وضعية مَن يطلبُ اللّبن من الحدّاد، كحال مُستشير طبيبِ الأسنان في مسألة سوسيولوجية، أو تحت طائلة القانون عندما يتعلّق الأمر بعرض أطفالٍ على التلفزيون بغرض طلبِ المساعدة لذويهم، في “تسوُّل تلفزيوني” لا يختلف عن تسوُّل الشارع، بل يتفوَّق عليه، وهو فعلٌ يُعاقِب القانونُ الجزائريُّ مرتكبِيه، كما يعاقِب استغلال الأطفال للغرضِ ذاته.
لا تكفي النوايا الحسنة لإنجاز “تحقيقات” اجتماعية كالتي يقوم بها شمس الدين في رمضان
لا تكفي النوايا الحسنة لإنجاز “تحقيقات” اجتماعية كالتي يقوم بها شمس الدين بوروبي في رمضان، بخلفية الداعية الذي يحثُّ الناس على فعل الخير، فقد يُفيد عرضُها في حصول المعنيِّين على سكناتٍ أو صدقاتٍ، لكنَّ الدّمار النفسي الذي تُلحقه بأطفالٍ ضحايا أولياءٍ غير مسؤولين ووسائلِ إعلام تفتقر إلى المسؤولية أيضاً، سيكون غير قابلٍ للترميم، وسيتحوَّل إلى صدمات نفسية تتطلَّبُ علاجاً، وإلّا لازمت الضحايا طيلة أعمارهم.
ولا تشفعُ له صفة رجل الدين المتسامِح الذي يميل إلى الفكاهة والذي يُقاوِم التطرّف بانتصاره لـ”إسلام جزائري سوفت” وميلِه إلى الاجتماع هرباً من مطبّات السياسة التي وقع فيها كثيرٌ مِن مجايليه، لاقتحام مجالٍ ليس مجاله.
ولا تشفعُ طرافة محمد بارتي ولا تجربتُه الفاشلة في المملكة المتّحدة، لإعداد برامجَ تلفزيونية ذات طابع اجتماعي تتطلّب تدخُّل مختصِّين ودارسين، ومعالَجةٍ لا ينفع فيها التهريج.
لا تُبرِّر شعبيّةُ الرجُلَين على مواقع التواصل الاجتماعي إقحامَهُما في عملٍ إعلامي له أصوله وقواعده. حتى وإن أخذنا بمقياس عدد المشاهدات الجائر، والذي كثيراً ما يمضي في الاتجاه المعاكس للقيمة، فإن عدد مشاهدات حصص “منانوك” في رمضان لا يتجاوز بضعة آلاف، وهو الذي تحصد فيديوهاته بعيداً عن التلفزيون مئات الآلاف، ما يعني أنّ “جمهوره” يريده في صورته الأُولى، صورة العربيد الذي يُلقي الكلام بلا حساب.
ولا يتعلّق الأمر، هنا، بمحاكمة رجُلَين “بريئين” قادتهما الصُّدفة إلى الحقل الإعلامي، بل بتنبيهٍٍ إلى الصُّدفة نفسها التي حملت “أبرياء وبريئات” إلى هذه المهنة التي قد تبتسمُ لأشخاصٍ مِن دون مهارةٍ أو تعليم، وتأكل أبناءها الذين لا يتجاوزون “حدود اللّه” في ممارستها.

كاتبٌ وصحافي من مواليد 1970، درس علم النفس الإكلينيكي في جامعة قسنطينة. يعمل في الصحافة منذ قرابة خمسةٍ وعشرين عاماً؛ حيث انتقل بين عددٍ مِن الصحف الجزائرية، آخرها “النصر” التي يتولّى إدارة تحريرها منذ 2000، وفيها يكتب عموده الأسبوعي “أجراس”.