ابنُ خلدون.. بيتٌ في هذه المدينة التي نسيته
(تصوير: رحبة)

ابنُ خلدون.. بيتٌ في هذه المدينة التي نسيته

يجد زائرُ منزل ابن خلدون في تونس العاصمة نفسَه أمام مبنىً طُمست معالمُه التاريخية وأُفرغ من بُعده الرمزي. لماذا بقي البيت عصيّاً عن الترميم رغم موجة المشاريع التي أعلنت الاعتناء به وتحويلَه إلى متحف؟

(صوت: مصطفى لصطب)

حين نتوجّه مِن الحي الكولونيالي في تونس العاصمة، المحيطِ بشارع الحبيب بورقيبة حالياً، صوبَ المدينة العتيقة، نمرُّ بتمثال ابن خلدون، ونقرأ على اللوحة الرخامية المثبّتة في قاعدته: “ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون/ وُلد بهذه المدينة“، في تأكيدٍ على نسبة هذا العالِم إلى تونس، وهو اليوم أشهرُ مواليدها بعد أن اعترف به العالَم الحديث مؤسَّساً لعلم الاجتماع – على ما في الأمر من جدل غير محسوم – وباعتباره أهمَّ شخصية فكرية في نهاية العصور الوسطى.

حين نُصب التمثال في مكانه نهاية السبعينيات، كانَ الأمر أشبه باحتفاء متأخّر بصاحب كتاب “المقدّمة”؛ فدولة الاستقلال كانت دائماً تبحث عن رموز تبني بها هويّة وطنية متجانسة، وكان التمثال – وهو شكل حديث من أشكال الاحتفاء – الفكرةَ التي وردت على أذهان المسؤولين وقتها (في نفس اللوحة الرخامية نقرأ: تقديراً للفكر، أمر بإقامة هذا التمثال الرئيسُ الحبيب بورقيبة)، ولم يفكّر أحدٌ وقتها في ما هو أكثر ارتباطاً بابن خلدون: البيت الذي سمعَت جدرانُه أولى صرخاته وهو يدخلُ الحياة.

تمثال ابن خلدون في تونس العاصمة - تصوير شوقي بن حسن

ليس سهلاً الوصول إلى هذا البيت، فمدينة تونس العتيقة بشوراعها الضيّقة أشبهُ بمتاهة، وإذا لم تُسعفك إشاراتٌ ولافتاتٌ إلى بعض المواقع، فإن الوصول إليها من شبه المستحيل لغير أبنائها. ولكن، أيّ إشارات ولافتات تنفع إذا كان البيتُ نفسُه طارداً للزوّار؟ ذلك هو حال بيت ابن خلدون.

حين تصله، قد لا تُرجّح أنه بيت صاحب “كتاب العبر”، حيث تَظهر عليه طبقاتٌ كثيفة من البناء وإعادة البناء، حتى لم يعُد يحمل – مِن الخارج – الكثيرَ من أثر المرحلة الحفصية التي بُني فيها. أكثرَ من ذلك، تقرأ حذو الباب لافتةً أساسية: “المعهد الوطني للتراث – مصلحة الأرشيف”، أمّا ما يدلّ على ابن خلدون، فيقتصر على لافتةٍ خشبية شبه ممسوحة تُشير إلى سنة ميلاده مع بعض المعطيات التاريخية حول استقرار الأندلسيّين في تونس العاصمة، ومن بينهم أسرة ابن خلدون.

منزل ابن خلدون في تونس العاصمة - تصوير شوقي بن حسن

هكذا، فإن زائرَ ابن خلدون يَجد نفسه في بيتٍ أُفرغ من كلّ بُعد رمزي، وفي الغالب لن يحصد من رحلته إليه إلّا نظرةً خارجيةً؛ فالباب موصدٌ عادةً كمعظم مقرّات الإدارات التونسية. لكن يمكن للزائر أن يرى أثراً آخر لابن خلدون على مسافة أمتار قليلة حين يقف أمام المسجد الذي درس فيه.

هذه المواقع كان يمكن أن تكون مركزَ ثقلٍ في الاحتفاء بابن خلدون، وهو ما تفطّن له “العقل الإداري التونسي” في السنوات الأخيرة، مع موجةِ من تصوُّرات المشاريع التي تتحدّث عن ترميم البيت وتحويله إلى متحف. مقولةٌ تتردّد منذ سنوات في تونس، فنسمعها – بانتظام – من مصادر عدّة؛ كجهاز البلدية أو من خلال مؤسّسات وزارة الثقافة، وفي 2019 من منظّمة “الإسسكو” حين أعلنت تونس “عاصمةً للثقافة الإسلامية”.

تحوَّل المبنى إلى مصلحةٍ إدارية ولم يعد يحمل أثراً من المرحلة الحفصية التي بُني فيها

لم يتحقّق شيءٌ من ذلك إلى اليوم. لا يزال بيتُ ابن خلدون على حاله، ومن نكد الدهر عليه أنه بعيدٌ عن المسار السياحي المعروف، والذي يشقّ المدينة العتيقة من باب البحر إلى ساحة القصبة مروراً ببعض المعالم مثل جامع الزيتونة، أو يُعرّج على بعض الأسواق والأنهج كنهج سيدي بن عروس أو نهج الباشا وصولاً إلى نهج التريبونال المُفضي إلى ساحة قصر خير الدين (مِن المعالم القليلة التي حظيت بعناية جدّية). لكن ما الذي يحول دون أن يدخل ابنُ خلدون ضمن المسار السياحي؟

منزل ابن خلدون في تونس العاصمة - تصوير شوقي بن حسن

يتعيّن علينا هنا أن نلقي نظرةً تاريخية ماكروسكوبية على سياسات الدولة التونسية تجاه المدينة العتيقة، فقد تُركت الأخيرةُ لعقود كحاضنة لحركة النزوح (وهي ذاتها نتيجة سياساتٍ تنموية متذبذبة صحّرت الأرياف وأجبرت أبناءها على مطاردة الرزق في العاصمة). في تلك الفترة، بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان هناك إهمالٌ مقصود للمدينة العتيقة؛ فهي متنفَّسٌ عمراني للمركز الجديد، وهو المدينة الكولونيالية التي ورثتها دولة الاستقلال وحوّلتها إلى الفضاء الإداري والتجاري الأوّل للعاصمة. في تلك الفترة، جرى هدر جزء كبير من الثروة المعمارية العربية لتونس العاصمة.

توقّف كلُّ ذلك بشكل حاسمٍ في 1979؛ حين أقرّت منظمة “اليونسكو” مدينة تونس “تراثاً معمارياً عالمياً”، وهي نفس الفترة التي بدأ فيها الرهان على السياحة كتوجُّه اقتصادي رئيسي في البلاد، فانقلبت سياسات تهميش المدينة العتيقة إلى سياسات استثمارية، لكن الطرح الجديد سرعان ما اصطدم بتبعات التوجُّهات السابقة، فالمدينة العتيقة تسكنها فئة اجتماعية هشّة يصعُب على الدولة أن تُوفّر لها بدائل محترَمة.

ضمن هذا المشهد الضبابي، تقع منطقة “تربة الباي” التي يتواجد فيها بيت ابن خلدون، حيث تتمسّك الأُسَر ببيوتها التي ورثتها بينما تتوجّه الدولةُ نحو إعادة تهيئة الفضاء بشكل جذريّ ليكون متاحاً للاستثمار السياحي، لكنها تفعل ذلك دون انتظام أو خُطَط، فتجدها تنهض فجأةً لهكذا مشاريع حين تتهاطل عليها التمويلات الأجنبية لسببٍ أو لآخر، فتظهر إلى السطح المشاحناتُ العقارية بين السكّان ومؤسّسات الدولة، ثم سرعان تخبو جذوة الاهتمام بالتراث وتركُن الملفات في الرفوف.

منزل ابن خلدون في تونس العاصمة - تصوير شوقي بن حسن

تبعاً لذلك، لا يبدو أنَّ بيت ابن خلدون سيجد اهتماماً أفضلَ ممّا يعرفه اليوم، أي أنه لن يجد أكثر من مخطَّطات لمشاريع الترميم. ثمّ أيّ معنىً لإنشاء متحف سيكون محاصَراً بالفقر والفوضى ورثاثة البنية التحتية؟

يحتاج الأمر إلى إستراتيجيات أوسع وإلى عقل جديد، لا يبدو متوفّراً اليوم في تونس المنشغلة بسجالاتها السياسية والمطلبية. ربما يحتاج الأمر – بعد سنوات – إلى مسؤولين يكون لهم اطلاع واسع على ترابُطات العمران بالجماليات وبالاقتصاد والاجتماع.

المفارقة أنَّ أحد الكتب القليلة التي تجوّلت بين هذه المعارف هو “مقدّمة” ابن خلدون نفسه… “العلّامة” الذي تفتخر تونس بأنه وُلد فيها، ولكنها تتناسى بأنه خرج منها حزيناً في حياته، ولا يجد فيها إلى اليوم حظّاً كبيراً.

كاتب صحافي وباحث من تونس، مقيم في فرنسا حالياً. يعمل منذ 2015 محرّراً في صحيفة “العربي الجديد”.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!
قصص قريبة