
الجزائريون والتلفزيون… ذكرياتٌ بالأبيض والأسود
يبدأ الإرسال عند الخامسة مساءً بظهور شعار التلفزيون الجزائري بعد ساعات طويلةٍ مِن التشويش التي يتبعُها طنينٌ يستمتع به المشاهِد رغم ما فيه مِن إزعاج؛ إذ يعني اقتراب افتتاح القناة. وبعد ساعات معدوداتٍ مِن البرامج، ينتهي الإرسال في حدود منتصف الليل.
قبل أكثر مِن نصف قرنٍ من اليوم، كان الجزائريُّون مغرَمين بـ”الروايات”؛ يُتابِعونها بكلِّ جوارحهم ويُعيد بعضُهم سرد تفاصيلها الدقيقة التي يحفظونها عن ظهر قلبٍ. لم تكُن “الرواية” تعني، في اللغة الشعبية، الجنسَ السردي المعروف، بل التمثيليات الإذاعية، وهو تعبيرٌ أُخذ مِن المسرح.
خلال شهر رمضان، وفي وقت الذروة، عادةً ما يتحلّق أفرادُ الأسرة أمامَ المذياع كبير الحجم نسبياً لمتابعة “الرواية” بأصوات نجوم الإذاعة؛ مِن أمثال: محيي الدين باشطارزي، والشيخ نور الدين، وحسن الحسني، والطيّب أبو الحسن، ورويشد، وقاسي تيزي وزو، وجعفر بك، ونورية، وفريدة صابونجي.
ورغم دخول التلفزيون بيوت الجزائريّين ابتداءً مِن ديسمبر/ كانون الأوّل 1956 – وكان حينها “محطّة جهوية” تابعةً للتلفزيون الفرنسي – واكتشافِهم، لأوَّل مرّةٍ، ملامِحَ هؤلاء الممثّلين الذين باتوا يُقدِّمون تمثيليات بالصوت والصورة، ظلَّ المذياعُ يحتفظ بمكانتهِ لردحٍ مِن الزمن؛ فقد بقيت “الشاشةُ الصغيرة” حكراً على بعض سكّان المدُن، ولم تبدأ في الوصول إلى القرى والأرياف إلّا مع نهاية عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات.
في الستّينيات والسبعينيات، كانت أجهزةُ التلفاز، في عمومها، صغيرةَ الحجم، مُحاطةً بخشب بُنّي، وبعضُها يُوضَع في إطارٍ يُغلَق بمفتاح. ولأنَّ الكثير مِن البيوت لم تكُن تتوفَّر على الكهرباء، فقد كان تشغيلُ التلفاز يتمُّ ببطّاريات المركبات؛ حيثُ يُوصَل ببطّارية السيارة مباشرةً، أو تُخصَّص له بطّاريةٌ لا يستغرق عملُها سوى بضعه أيام، فتُحمَل في قفّة إلى الكهربائي لإعادة شحنها. وكثيراً ما تنفد البطّاريةُ قبل اكتمال السهرة التلفزيونية، فيَضيع على المُشاهِد ما تبقّى مِن الفيلم أو المسلسل.
كانت العائلات التي تملك جهاز تلفاز في القُرى والأرياف تُعدُّ على أصابع اليد الواحدة، وبعضُها يتقاسم مشاهدته مع أهل القرية الذين يجتمعون خلال السهرة لمتابَعة فيلمٍ أو برنامجٍ تلفزيوني على الهواء الطلق. وعادةً ما تكون المشاهَدة حكراً على الرجال، فلا تشاهِد النسوة إلّا تلصُّصاً ما استطعن إلى ذلك سبيلاً.
لم يكُن مقصُّ الرقابة، في ذلك الزمن، يحذف المشاهِد الحميمية في الأفلام. وبسببٍ مِن ذلك، يحدُث أن يتفاجأ المشاهِدون المتحلّقون على التلفاز بمشهَد قبلةٍ أو عُري على الشاشة، فيضطرُّ كلّ واحد منهم إلى اختلاق عذرٍ لمغادرة الجلسة.
في فيلم “رحلة شويطر” للمُخرج حاج رحيم، نقفُ على تجسيدٍ لا يخلو مِن الطرافة لذلك الموقف المحرِج؛ حين يطلُب سي رابح (تمثيل حسن الحسني)، الذي ينزلُ مع زوجته ضيفَين على أقاربهما في العاصمةِ، تشغيلَ التلفاز. تَظهر على الشاشةُ امرأة جميلةٌ تغسل الملابِس بغسّالة كهربائية، فيُنادي القرويُّ زوجتَه، التي كانت في المطبخ، لترى تلك “الآلة العجيبة” التي سبق أنْ حدّثَها عنها. يجتمعُ كلُّ أفراد الأسرتَين، لكنَّ المشهدَ التالي كان يُخفي مفاجأةً غيرَ سارّة: يدخُل رجُلٌ حاملاً باقة وردٍ ويُذكِّر المرأةَ بأنَّه عيدُ زواجهما الثالث، ثمّ يتبادلان قبلةً حميمة.
في تلك اللحظة، يأخُذ سي رابح في السعال، بينما يُصاب الجميعُ بالارتباك: تطلبُ ربّةُ البيتِ، بشيءٍ مِن التعنيف، مِن ابنتها إحضار كوبِ ماء، ويطلُب زوُجها مِن الابنِ إحضار منفضة سجائر مِن المطبخ، فيردُّ هذا بألّا وجودَ لمنفضة سجائر في البيت، ثمّ ينتهي المشهدُ وقد انفضَّت الجلسة العائلية.
لم يكُن التلفاز ضرورياً، لكنّه كانَ يتحوَّل إلى مطلَب نفيس خلال المناسبات الرياضية
لم يكُن وجود التلفاز أمراً ضرورياً بالنسبة إلى الكثيرين. لكنّه كانَ يتحوَّل إلى مطلَبٍ نفيسٍ خلال المناسبات الرياضية الكُبرى؛ مِثل البطولة الوطنية ومنافسات كأس العالم أو كأس أفريقيا أو الألعاب الأولمبية. حينها، ليسَ ثمّة مِن حلٍّ غير التوجُّه إلى أحدِ الدكاكين التي وجد أصحابُها في التلفزيون تجارةً مُربِحة؛ حيثُ يُلزِمون الراغبين في المشاهَدة بدفع نصف دينار، أو شراء قنّينةِ مشروبٍ غازي صغيرةٍ مقابِل دينارٍ واحد.
ولا يقتصر الأمرُ على مباريات كرة القدم؛ إذ تنشُط المشاهَدة مدفوعة الثمن في السهرات الرمضانية وتستحيل ظاهرةً تجارية. أمّا الأطفال، الذين لا يملك معظمُهم مالاً يدفعونه، فليس في وسعهم سوى التحايُل مِن أجل دخول الدكّان واغتنام لحظاتٍ مِن المتعة البصرية لا تستمرُّ طويلاً.
يبدأ الإرسال عند الخامسة مساءً بظهور شعار التلفزيون الجزائري بخلفيةٍ موسيقيةٍ صارمة بعد ساعات طويلةٍ مِن التشويش التي يتبعُها طنينٌ يستمتع به المشاهِد، رغم ما فيه مِن إزعاج؛ إذ يعني ذلك اقترابَ لحظةِ افتتاح القناة. وبعد ساعات معدوداتٍ مِن البرامج، ينتهي الإرسال في حدود منتصف الليل أو قبل ذلك أو بعده بقليل.

(برنامج التلفزيون الجزائري ليوم 27 سبتمبر 1984)
كان برنامج التلفزيون، خلال الأيام العادية، واضحاً لا مفاجآت فيه؛ فبعد ظهور “اللوغو”، يبدأ البثُّ بالنشيد الوطني، ثمّ تليه بعض الآيات القرآنية، لِتظهَر، بعد ذلك، مذيعةٌ حسناء تقرأ برنامج اليوم بلغةٍ عربية ركيكة وابتسامةٍ تبدو مصطنعة. وعند نهاية كلّ فقرة، تعود المذيعة مِن جديد لتُعلِن عن الفقرة اللاحقة. ومع اقتراب موعد “الأنباء المصوَّرة” في الثامنة ليلاً، تُنهي مذيعة المساء عملَها بقراءة النشرة الجوية، تاركةً مكانها لمذيعة السهرة التي تبدأ عملها مباشرةً بعد نشرة الأخبار.
أمّا مضمونُ البرنامج التلفزيوني، فيبدأُ في العادة بحلقةٍ مِن مسلسل رسوم متحرّكة لا تتعدّى عشرين دقيقة، تتبعُها سلسلةُ إثارة أميركيةٌ؛ مثل “شيبس” (1977) أو “ستارسكي وهاتش” (1975 – 1979)، ثم بعض البرامج التعليمية القصيرة؛ مثل سلسلة “اتبعني” لتعليم الإنجليزية التي أنتجتها مؤسّسة “بي بي سي” البريطانية، قبل أن يبدأ المسلسل العربي الذي كان يُسمّى بالتعبير الشعبي “فيلم السبعة”، نسبةً إلى الساعة التي كان يُعرَض خلالها.
يحمل كثيرٌ من مواليد السبعينيات والثمانينيات في الجزائر أسماء أبطال مسلسلات لبنانية
كان “فيلم السبعة” يُحقِّق مشاهداتٍ قياسية، خصوصاً في فصل الشتاء. يتذكَّر كثيرون المسلسلات اللبنانية التي بثّها التلفزيون الجزائري خلال السبعينيات، خصوصاً تلك التي تقاسَم بطولتَها الممثّلةُ الراحلة هند أبي اللمع وعبد المجيد مجذوب، وكثيرٌ منها قُدِّم بالفُصحى، قبل أن تبرز المسلسلات المصرية وتحتكر الساحةَ لمدّةٍ غير قصيرة.
ومثلما سنشهد مظاهر لتأثير الأعمال الدرامية التركية على العائلات الجزائرية بدايةً مِن مطلع الألفية الثالثة، فقد كانَ للمسلسلات اللبنانية ثمّ المصرية تأثيرُها أيضاً؛ إذ يحمل كثيرٌ من مواليد فترة السبعينيات والثمانينيات أسماء أبطال تلك المسلسلات. مثالٌ على ذلك اسمُ “سمرا” الذي أُطلِق على الكثيرات ممّن وُلدن في تلك الفترة، وهو اسمُ بطلة مسلسلٍ بدوي بالعنوان ذاته (1977) أدّت الفنّانة اللبنانية سميرة توفيق دور البطولة فيه.
ينتهي مسلسلُ السابعة فيتبَعه ضيفٌ ثقيل يتمثّل في نشرة الأخبار التي لا يكاد يُتابعها سوى كبار السنّ، وكانت فترةُ بثِّها فرصةً لتناوُل أفراد العائلة وجبة العشاء. بعد ذلك، تظهَر مذيعة السهرة التي تشرع في تلاوة برنامج ما تبقّى من الإرسال، والذي يبدأ عادةً عند الثامنة والنصف، ببثّ برنامج محلّي؛ مِثل “الأرض والفلاح”، وبعضِ البرامج الاقتصادية والثقافية، قبل أن يبدأ فيلم السهرة في حدود التاسعة، والذي يكون في العادة فيلماً أميركياً مُدبلَجاً إلى اللغة الفرنسية، ثمّ يتبعه موجز أنباء بالفرنسية، قبل نهاية الإرسال.
وفي نهاية الأسبوع، يتغيَّر البرنامجُ قليلاً بإضافة سهرة موسيقية كلاسيكية غربية أو شرقية أو شعبية جزائرية، فيمتدُّ الإرسالُ استثناءً إلى الواحدة صباحاً.
لم يتغيَّر الأمرُ كثيراً مع ظهور التلفزيون الملوَّن ووصول التلفاز إلى سكّان القُرى والأرياف التي بدأت تستفيد من الكهرباء. سيحدُث التغيير مع دخول الهوائيات بيوتَ الجزائريّين بدايةً مِن النصف الثاني مِن الثمانينيات، حيث ستتغيَّر عادات مشاهَدة التلفزيون في الجزائر بشكلٍ جذري.
وتلك قصّة أُخرى.

كاتبٌ وصحافيٌّ مِن مواليد سطيف، يعمل في الصحافة المكتوبة منذ التسعينيات، وله مساهماتٌ في كثير من الجرائد الورقية والإلكترونية الجزائرية والعربية. صدرت له قرابةُ عشرة كتب؛ من بينها أربع مجموعات قصصية وروايتان.
-
عبد المالك بانية25 إبريل 2021 | 06:09
أخذتنا إلى زمن رائع وذكريات جميلة. يعطيك الصحة وشكرا لرحبة.