الحَراك الشعبي في سنته الثالثة… إعادة تفكير
ليسَ المطلوبُ، اليوم، حسم كلّ الخلافات والاتّفاق على كلّ شيء. لكن، بالإمكان السعيُ إلى ضمان الاتفاق على "الحدّ الأدنى" مِن المبادئ العامّة والخطوات التفصيلية التي تسمح للحَراك بطرح ورقة طريق واضحة المعالم.

مِن دون سابق موعد، نزل حَراك الثاني والعشرين مِن فبراير السلمي كما تنزل كلُّ حوادث التاريخ الكبرى في الجزائر. وكما كانت ثورة التحرير أكبرَ مِن كلّ ما تَخيَّل مُشعلوها، كانت تظاهراته أكبر منّا جميعاً… كانت حدثاً تجاوَز الجميع ولم يعُد أحدٌ قادراً على توجيهه أو قيادته.
بِتجاوز الحراك الشعبي لحظتَه المؤسِّسة، صار لزاماً على كلِّ مَن آمن به وبذل في سبيله وقته وجهده والبعض من حياته سَجناً وتضييقاً… صار لزاماً على الجميع أن يمرُّوا إلى اللحظة الثانية؛ لحظة السكينة والهدوء والتفكير في المستقبل.
ربما بدا لنا، لحظةَ الانطلاق، أَنَّ الحَراك أكبرُ من كلّ الأحزاب والجمعيات القائمة، ولكنَّ الانتقال به مِن الامتداد الأُفقي إلى الامتداد العمودي سيكون ضرورةً إذا شئنا له أن يستمرّ ويمتدّ في تاريخنا المقبِل.
مِن هنا، لا يمكن سوى أن نعود إلى مبدأ الأشياء، فالسياسةُ للأحزاب والشارعُ للمناضِلين المنضبطين بهدف سياسيٍّ سلميٍّ وخارطةِ طريق مرسومة المعالم.
سيكون على كلّ المؤمنين بالحراك أن يجلسوا على طاولة واحدة، ويسألوا أنفسهم: أيَّ دولة نريد؟ لا أعني هنا الجواب النمطي: “نريد دولة ديمقراطية”، بل أعني الجواب التفصيلي عن أسئلةٍ كثيرة مِن بينها: ما هو شكل الدولة؟ ما نظامها السياسي؟ ما خطواتها التأسيسية؟ ما دور الأحزاب السياسية، بمختلف حساسياتها، فيها؟ هل سنعيد مناقشة ثوابتنا الوطنية أم أنّها غير قابلة للنقاش؟ ما معنى حرية التعبير فيها؟ هل لها من حدود أم أنها بلا حدود؟ أي دور للدين فيها؟ وكيف سنُصلِح منظومتنا المدرسية؟
قد تبدو هذه الأسئلة إشكاليةً ومثيرةً للحرج، ولكنها الخطوة الأهم في سياق تحويل الحَراك من لحظة فورة شعبية الى مشروع ضغط دائم على النظام إلى غايةِ تجاوُبه مع مطالب الشعب.
ثمُّ إنَّ حسم هذه الأسئلة سيُجنّبُنا مسبقاً كلّ محاولات الاختراق؛ إذ لا يمكننا إنكار أنَّ السلطةَ لعبت على أوتار الخلافات الأيديولوجية والعرقية لحَجب حالة الوحدة الشعبية. ومازلنا، إلى اليوم، نُعايِش إشكاليات لم يتمّ حسمُها بين أفراد مِن عائلة الحَراك، وهي إشكالياتٌ يُجيد النظام تفخيخها لتُشكِّل حالةَ عجز دائم داخل الجسم الشعبي، فتمنعَه من التوحُّد من أجل غايته المُثلى.
أسئلةٌ إشكالية مُحرِجة لكنها ضرورية لتحويل الحَراك من فورة شعبية الى مشروع ضغط دائم
سيقول قائل: إنّنا لن نتّفق أبداً على شكل الدولة المقبِلة، ثمّ إنّنا إذا حسمنا كلَّ شيء اليوم، فما الذي سيبقى للانتخابات الحرّة لتحسمه؟ ثمّ ألا يضعنا هذا الاقتراح في موقع نُصادِر فيه مستقبَل شبابنا ونختار بدلاً منهم شكل الدولة التي يرغبون فيها؟
ولعلَّ الجواب في غاية البساطة: ليسَ مطلوباً منّا إنجاز اتّفاق على كلّ شيء وحسم جميع خلافاتنا. يُمكننا السعي إلى ضمان الاتفاق على “الحدّ الأدنى” مِن المبادئ العامّة والخطوات التفصيلية التي تسمح للحَراك بطرح ورقة طريق واضحة المعالم تُشكِّل محلَّ إجماعِ غالبية المشارب السياسية التي يجب أن نُقرّ بأنها موجودةٌ في الحَراك.
سيقول آخر: أنتُم تقترحون الآن هيكلاً للحَراك، وقد كنتم ترفضونه من قبل، فما الذي تغيَّر؟ وهذا صحيح؛ فعندما اندلع الحَراك، كان فورةً احتجاجية ليس مطلوباً منها أيُّ إنجاز سياسي سوى منع العهدة الخامسة ومنع الانحدار الوطني والدفع باتجاه تغيير سياسي فعلي. كان ذلك واضحاً للجميع، وكان مِن العبث أن تُطرح في تلك اللحظة خُطّة للجلوس حول الطاولة.
أمّا اليوم، فقد نضج الحراك وآن له أن يتحوَّل إلى فاعل مهيكَل تماماً في شكل جبهة وطنية واسعة تضمُّ كلّ المشارب السياسية وتُعلِن صوتاً مُوحَّداً ضد السلطة.
هكذا، لن يكون بإمكان النظام سوى محاورتها لأنها “مؤسّسة الشعب الأولى” التي يُمكنها تفعيل الاحتجاجات وتهدئتها وفق رؤية سياسية متَّفَق عليها… رؤية تشمل الفعاليات السياسية المؤمِنة بالحَراك، سواء كانت معتمَدة أو في طور الحصول على الاعتماد، أو حتى ممنوعة منه.
لقد نضج الحراك كثيراً وآن له أن يحصل على صوت وشكل وهيكل ولوحة سياسية متنوِّعة الألوان متوحِّدة خلف حُلم واحد: جزائر تليق باسمها وتاريخها وأبنائها.

صحافي جزائري مقيم في قطر، عَمِل في صحيفتَي “الشروق” و”المحقِّق” بالجزائر، و”الشرق الأوسط” اللندنية و”العرب” القطرية. يعملُ حالياً في قناة “بي إن سبورتس” بالدوحة.