
1
تنتشر تلك الفئة من البشر الخارقين وسطنا مِن دون أن نُلاحظهم أو نعطيهم التقدير الكافي، ليس لأنهم يتخفَّون، أو يُموِّهون قدراتهم الخارقة، فعلى العكس، هُم يفخرون ويُردِّدون في كلِّ مناسبة جملتهم الأثيرة “أنا لم أمرض قَطّ طوال حياتي“. بل إنَّ أقاربهم وأصدقاءهم، أيضاً، يتباهون بإنجازهم، لدرجة أشعر بالحرج وأعجز عن الردِّ والتعليق كلَّ مَرّةٍ يُخبرني صديقٌ كيف أنّ جدّتَه “وصلت للثمانين ولم تمرض قَطّ”، أو كيف أنَّ لديهم عمّاً يأكل صباح كلِّ يوم فصّ ثوم، وملعقة عسل، وليفة، وكوب ليمون. ولهذا لم يمرض قَطّ وعاش حتّى المئة.
علمياً، يستحيلُ ألّا يمرض أيُّ كائنٍ بيولوجي؛ فالسهو والخطأ والإصابات والمرض ليست نقاط ضعف، بل هي الوسيلة التي تتعلَّم منها أجسادُنا تطوير مهاراتها وقدراتها على البقاء. إذا لم تمرض قَطّ، فأنت على الأرجح جثّة ميتة. حتّى أنَّ الميكانزيم الذي طوَّرَه البشرُ للوقاية مِن الأمراض عبر اللقاحات والأدوية يعتمد بالأساس على تعريض الجسد للمرض مِن أجل تحفيز الجهاز المناعي، للتعرُّف على المرض، وتكوينِ الأجسام المضادّة التي ستعمل في المستقبل على حماية الجسد. ميكانيزمُ اللقاحات لا يختلف كثيراً عمّا نفعله في حياتنا وواقعنا. العرق في التدريب يُوفِّر الدم في المعركة.
إنْ كنّا نقبل أيَّ تعريف يُقدِّمه الأفرادُ لهوياتهم، فالأحرى أنْ نقبل بوجود الذين لا يمرضون
لو افترضنا أنَّ تلك الفئة مِن البشر الخارقين محصَّنون، ولديهم مناعةٌ جبّارة ضدّ الأمراض وآلامها، فهذا يعنى، بالضرورة، أنّهم أُصيبوا في السابق بتلك الأمراض أو نُسَخٍ مخفَّفةٍ منها، ما جعل جهازهم المناعي على درايةٍ بمكوِّنات الميكروب/ الفيروس، وقادراً على دحره، وسحله، ونسفه، وتبديده، في حال اقترابه.
لا أقول إنَّ العلْم والطبَّ والبيولوجيا تُكذِّب ادّعاءات الخارقين. لا أقول إنّهم كاذبون؛ فمَن أنا لأُصحِّح لإنسانٍ ما يظنُّه في جسده؟ إذا كنّا نقبل تعريفات الأفراد لهوياتهم الجنسية والعرقية والدينية، حتّى لو تعارضَت مع خطاب العلم والطب والجغرافيا والتاريخ، فالأحرى أنْ نقبل بوجود هؤلاء البشر الخارقين… الذين لا يمرضون.
2
لا يُفصِح البشرُ الخارقون عن هوياتهم وقدُراتهم إلّا بعد بلوغهم “أرذلَ العمر”.
وفي معنى “أرذل العمر” أَمِيل إلى ما فصَّله محمد بن إسماعيل الصنعاني (1687 – 1768) في كتابه “سُبُل السلام”؛ حين قال: “المُراد من الردِّ إلى أرذل العمر: هو بلوغ الهرم والخرف، حتّى يعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية، ضعيفَ البنية، سخيفَ العقل، قليلَ الفهم“.
فهل يكون مردُّ ترديدِ هؤلاء العجائز خرافةَ “عدم المرض” سُخْفُ العقل وقلّةُ الفهم؟ مرضٌ أو اضطرابٌ نفسي يجعلهم واثقين مِن أنفسهم، مستعدِّين لترديد أيِّ خرافات وادّعاءات، بينما الصغارُ مِن بقية المجتمع مضطرِّين للتصديق احتراماً لسنِّهم؟
هل أمْرُ الأشخاص “الذين لا يمرضون” ليس سوى كذبةٍ وتواطُؤ اجتماعيِّ… محض خرافةٍ الجميعُ مجبَرٌ على تصديقها؟
3
لا تجد شابّاً أو شابّةً يُصرِّح/ تُصرِّح بمثلِ هذه العبارة “أنا لا أمرض أبداً“. قد يكون في التاسعة عشرة مِن عمره وبكامل صحّته، لكنَّه أبداً لا يملك شجاعةَ التصريح بمثل هذا الادّعاء، لأنَّ الردَّ سيكون: “انتظِر حتّى تكبُر، مِن المراهقة إلى الشباب، ومِن الشباب إلى الكهولة… حتّى تبلغ أرذل العمر“.
لو صرَّح شابٌّ بادّعاءِ امتلاكِه قوىً خارقةً وأنّه لا يمرض أبداً، فالردُّ سيكون التكذيب والسخرية والتنمُّر. لكن لو قال عجوز أو متنكِّر في هيئة عجوز ذات الادّعاء، فالردُّ سيكون التصديق أو التظاهر بالتصديق، مع عباراتٍ مثل: “يدّيك الصحّة يا حاج“.
4
حين انتقلنا إلى لاس فيغاس، حيث أُقيم منذ عامَين، لاحظتُ في الأسابيع الأُولى انتشارَ كبار السنِّ والعجائز في كلِّ مكان. أحياناً يعملون في مِهنٍ بسيطة؛ كأنْ يقف أحدُهُم ليُعبّئ لك ما اشتريتَه في أكياسٍ بلاستيكية عند انصرافك من السوبر ماركت، أو تجدَ آخر، متهالكَ البنيان، في محلٍّ لبيع التبغ يستغرق دقائق لإنجاز معامَلةً مالية واحدة.
عرفتُ بعد ذلك أنَّ لاس فيغاس واحدةٌ مِن مُدُن التقاعُد، نظراً لانخفاض أسعار المنازل وتكاليف الحياة نتيجةَ انخفاضِ أو شبه انعدام الضرائب التي تُحصِّلُها الولاية، أضِف إلى ما سبق دفء الجوّ والشمسُ المشرِقة طوال العام، ما يجعلها المهرَب المثاليَّ لسكّان الشمال والساحل الشرقي الراغبِين في قضاء تقاعُد مريح.
لكنْ في الوقت ذاتهِ، فإنَّ أنظمة التقاعُد في أميركا، مثل أنظمة الرعاية الصحية، زيّ الخرا الحمد لله، فيضطرُّ الكثير مِن كبار السنّ – حتّى بعد بلوغهم السبعين والثمانين – إلى العمل في مِهنٍ تتطلّبُ مجهوداً ذهنياً وعضلياً بأجورٍ لا تتجاوز الحدَّ الأدنى.
ليس للشيخوخة هنا احترامُها أو تقديرُها. إذا تجاوزتَ الستّين ولم تكن غنياً أو في منصب سياسي، فلا مكان لك في المجتمع سوى الهامش، أو مجتمعاتِ كبار السن؛ حيث ستضطرُّ للعيشِ في تجمُّعاتٍ سكنية أو بيوت لرعاية المسنّين. وعلى حسب ما ادّخَرته طيلة حياتك، سيكون بإمكانك اختيارُ بيتِ الرعاية أو مجتمع المسنّين الذي تحلم به، أو ينتهي بك الأمر في بيتٍ على البحر في فلوريدا، أو في غرفةٍ قاتمة داخل مبنى كئيب على طريق سريعة تُؤدّي إلى اللامكان.
كبيرُنا العجوز، نحنُ فخورون بضعف بُنيتِه وسُخف عقله، ولهذا نُقدِّمه ونتبع أوامره
من حيث أتيت، كبارُ السن مقدَّسين، حتّى أنَّ الرجالَ يتسابقون للتظاهُر بالتقدُّم في السن، لكَي يبدأ الآخرون في مناداتهم بلقب الحاج، أو عمّو، أو شيخ.
مَن يبلغ أرذلَ العمر في بلادنا يجري تعيينُه في منصب رئيسٍ للجمهورية، أو يتولّى مهام القيادة ليُعمِّم سُخف عقله وقلّة فهمه على الجميع. وإذا لم يُحالِفه الحظُّ في تولّي مناصبَ قياديةٍ، فسيطمح، على الأقلّ، في لقب كبير العائلة، ليأتي له الجميعُ يأخذون بركته، ويُقدِّمونه في المناسبات الاجتماعية: يَقف في مقدِّمة العزاء أو الفرح مُعبِّراً عن هيبة العائلة وشرفها وعلُوِّها وسمُوِّها.
كبيرُنا العجوز، الذي بَلَغ أرذل العمر، نحن – أفراد العائلة – فخورون بضعف بُنيتِه وسُخْف عقله. ولهذا نُقدِّمه ونتبع أوامره.
ليس العربُ وحدهم مَن لديهم هذه التقديس لكبار السن والشيخوخة، بل تتشارك معظم شعوب الجنوب في ذلك. ثمّة قِيَمٌ مُشابِهةٌ لدى الإخوة مِن أميركا اللاتينية ووسط وجنوب أفريقيا. أخبَرني صديقٌ صيني، مثلاً، كيف أنَّ الرجُلَ الذي يتجاوز منتصَف الثلاثين وليس لديه ولو كرشٌ صغير، يُنظَر إليه كعيّل بريالة، لم يكتسب خبرات الحياة بعدُ، ولم يُحقِّق الثراء اللازم لبروز الكرش. أمّا الشَّعر الأبيض وانحناء الظهر، فيُصبحان تلقائياً مرادِفَين للحكمة والدهاء والذكاء، وكأنَّ ما تستند عليه ليس عصاً، بل دلمة الحكمة التي وحدك تملكها في شيخوختك وخرفك.
5
جميعُنا مرضى، أو مرضْنا سابقاً. المرضُ طقسٌ من طقوس الحياة كالولادة والأكل والإخراج والموت. لكنَّ هؤلاء الخارقين قادرون على إنكار المرض، على إنكار الضُّعف، على نسيان الألم وتجاهُله. ليس بسبب امتلاكهم القدرة على ذلك، بل في الغالب لأنَّهم مُجبَرون عليه.
يأتي مُنكِرو الألَم والمرض مِن بيئاتٍ تتّصف بالشقاء، بالفقر، بالجوع الذي يدفعهم إلى العمل دائماً، تُجبرهم على تحويل أجسادهم إلى ماكينة تتخيَّلُ أنها قادرةٌ على تجاوُز الطبيعة البيولوجية… ماكينة لا تمرض ولا تحتاج إلى العلاج، بل ماكينة أفضل مِن تلك التي تحتاج إلى صيانةٍ وقِطَع غيار.
تتطوَّرُ التكنولوجيا ولا يملك العامِل سوى جسدِه ليواكب هذا التطوُّر. يتوهَّم في جسده القوى الخارقة.
أمّا الأغنياءُ فيمرضون دائماً، لديهم رفاهية الشكوى والعطلة والمرض والبحث عن علاجات، ودعم العلْم والطبِّ حتّى يحصلوا على اللقاحات أوّلاً، بينما الفقراءُ ينكرون أصلاً وجودَ الأمراض والأوبئة، يصدقون أكاذيب النصّابين العالميّين والرؤساء الفاشيّين، يُزيلون المسك ويصرخون: “أين أنت أيها الفيروس اللعين؟ اللعنة على الصين. تعالَ إلى جسدي الخارق، جسدي الذي لم يمرض قَطّ. لن تخترقه، لن أشعر بأيِّ ألم، لن آخذ اللقاح، ولن تُوقِفني عن الذهاب إلى العمل. سأعمل حتّى أموت“.
لن يُصدِّقونا أبداً إن أخبرناهم أنَّ العملَ مرَض.

كاتبٌ وصحافيٌّ مصري من مواليد 1985، يُقيم في لاس فيغاس بالولايات المتّحدة. يعملُ في الصحافة الثقافية منذ 2004. ومِن إصداراته: “روجرز” (2007)، و”استخدام الحياة” (2014)، و”لغز المهرجان المشطور” (2016)، و”حرز مكمكم” (2019)، و”النمور لحجرتي” (2020).