الشعبوية في ورطة الفنكوش
أي "فنكوش" روّج زيلنسكي مثلاً كي يصل الممثل الكوميدي للحكم ثم يوصل شعبه إلى المأساة التي نشاهدها اليوم في أوكرانيا؟ أيّ "فنكوش" نتناول في تونس ونحن نرى بوادر الدستور الجديد والقانون الانتخابي الجديد الذي يتمطّط ويعدّل حسب الحاجة؟

بعد حرب ضروس خاضتها ليز تراس لنيل منصب رئاسة وزراء بريطانيا، سرعان ما ألقت المنديل وقدّمت استقالتها – بعد بضعة أسابيع – حين اكتشفت أن سياساتها لحلّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية فاشلة، بل أنها زادت في الطين بلّة. كانت وعود حملتها أشبه بممرات وثنايا غايتها الوصول إلى كسب الرهان الانتخابي لا غير، وهو ما سرّع من فشلها في مواجهة الصعوبات الحقيقة لإدارة جهاز الدولة.
على مثال تراس، قس عشرات الصاعدين لمواقع الحكم في السنوات الأخيرة. في أوكرانيا، في إيطاليا، وعشرات البلدان الأخرى. وقد ابتليت بلداننا العربية بهؤلاء أيضاً، الفرق الوحيد أن البلدان الغربية لها أدوات تسرّع سقوطهم (كالصحافة النقدية أو لعبة التنافس القوية داخل الأحزاب والبرلمانات) من أول اختبار، عكس دولنا النامية التي لا تتقن سوى تبرير الحماقة حتى تعمّ الكارثة.
مع تصدّر هؤلاء للمشهد السياسي الدولي، كأن العالم الذي نعيش فيه لم يعد يسير بنفس قوانين الجاذبية التي تعوّدنا عليها. وكلما تابعتُ صعود هؤلاء السياسيين-المهرجين إلى أعلى المناصب، يجتاحني هاتف يقول “إنه زمن الفنكوش يا سيّدي”.
مَن من جيلي لم يستمتع بفيلم “واحدة بواحدة” لـ نادر جلال، والذي أخرجه سنة 1984 وكان من تمثيل عادل إمام ومرفت أمين. كان الفيلم يستهدف بسخريته قطاعات الدعاية والثقافة أو الاقتصاد حيث يزدهر التحيّل والفهلوة، لكن هل دار بخلد المشرفين عليه أن تلامس السخرية المربّع السياسي؟ هذا العالم الذي تعوّدنا على نواميسه المضبوطة وبروتوكولاته الصارمة، لكن يبدو أن القرن الجديد قد تخلى عن كل المدارس وطفت على السطح بقوة مدرسة الشعبوية في أكثر من مكان.
تقدّم قواعد اللعبة في “زمن الفنكوش” امتيازات للتحيّل على العامة
تتمحور أحداث الفلم حول، صلاح فؤاد، مدير تسويق محتال (أداء عادل إمام) يرى في المكر والتلاعب أقصر طرق بلوغ الأهداف، وفي إطار منافسة تجارية مع شركة أخرى تحترم قواعد المهنة يقوم بحملة تسويقيّة كبيرة لمنتوج غير موجود أصلا سماه صدفة “الفنكوش”، تعمّ إعلاناته مصر وتصبح ومضة “نهاركو عسل.. الفنكوش وصل” الخبز اليومي للمواطن.
حالة الانتظار التي خلقتها الحملة لدى المجتمع هي شبيهة كثيرا بورطة الحكم لدى الشعبويين. وحين يجد صلاح فؤاد نفسه في مواجهة تبعات كذبته يستنجد بعالمٍ لـ”اختراع الفنكوش” غير عابئ بمحتواه. بعد سلسلة من التجارب الفاشلة التي يدلّل عنها المخرج بانفجارات متكررة في المختبر، تفضي عملية اختراع الفنكوش إلى تقديم منتج أقرب إلى المخدّرات، يتفشى مثل وباء. وفي ذلك إشارة إلى ما تصنعه الـ”كفاءات” حين يلجأ إليها الشعبويون. وهو ما يحدث في كثير من البلاد اليوم فلا يستفيق أهلها إلا بعد حلول الكارثة.
أي “فنكوش” روّج زيلنسكي مثلاً كي يصل الممثل الكوميدي للحكم ثم يوصل شعبه إلى المأساة التي نشاهدها اليوم في أوكرانيا؟
أي “فنكوش” روّج برلوسكوني بوجهه المترهّل الذي مجّه الشعب الإيطالي كي يعود للحكم تحت قناع الجميلة جورجيا ميلوني؟
أيّ “فنكوش” نتناول في تونس ونحن نرى بوادر الدستور الجديد والقانون الانتخابي الجديد الذي يتمطّط ويعدّل حسب الحاجة؟
من الإشارات اللافتة في الفيلم والتي تصلح في سياق رصدنا لممارسات الشعبويين، حينما حلّت الطامة واكتشف الناس خطورة المنتج، اقترح صاحب الشركة أن يكتب موظف بسيط رسالة يتحمّل فيها مسؤولية الخطأ ثم ينتحر. أليس هذا الموظف البسيط هو ذاته المواطن البسيط الذي يتحمّل كل العبء في عالمنا اليوم؟
يتمّ تهجير أصحاب الكفاءة الحقيقيين، وتبقى الساحة العامة مفتوحة فقط للفشلة والكذبة
إشارة أخرى ذات دلالة مهمة، حين يتقمّص صلاح فؤاد دور العالم أمام منافسته. ضمن منطق “عالم الفنكوش” لا يتورّع الكاذب في أن يقدّم نفسه كأكثر الناس نزاهة، وأكثرهم علماً ومعرفة، بل سيزايد على كل ذي نزاهة وعلم.
وفي مثل هذا العالم يتمّ تهجير أصحاب الكفاءة الحقيقيين، وتبقى الساحة العامة مفتوحة فقط للفشلة والكذبة، وتعطيهم قواعد اللعبة في “زمن الفنكوش” امتيازات للتحيّل على العامة وتسلق المناصب، أو لنقل يوفّر لهم هذا السياق “آليات” للقفز نحو الصفوف الأمامية، و”آليات” كلمة أثيرة في مشروع الرئيس التونسي قيس سعيّد.

ناشطٌ مدني وكاتب مقال ورسّام كاريكاتير تونسي من مواليد 1975. يعمل في القطاع المالي والاستشاري، ويهتمُّ بأدوات تجديد الثقافة السياسية وتنظيم التطوُّع الشبابي لخدمة قضايا الشأن العام والبيئة.