“القائمة”: عن الرأسمالية وهي تأكل نُخبها
مشهد من فيلم "القائمة"

“القائمة”: عن الرأسمالية وهي تأكل نُخبها

في فيلم المخرج مايكل مَيلود تتجلى مجموعة المدعوين إلى مطعم، يديره طبّاخ دمويّ، مثل نخبة تواجه مصيرها، وترى في مرآة صحونها نتائج خيارات حياتها بتبرير كل شيء: إذ يُنظر للجرائم المتتالية كمادة فرجة دون الانتباه إلى أنها خطوات نحو النهاية والدمار.

دون أن نكون تماماً في قالب سينما الرعب، يَستحضر فيلم “القائمة” (بدأ عرضه في خريف 2022) أبجديات هذا الجنس السينمائي، حيثُ مشاهد التخويف والقتل والدم. لكنه يمزجها بمفردات حقل دلالي قلما يحضر في أفلام الرعب؛ عالم المأكولات والمتع المتعلّقة به، ما يخلق حالة من التضارب تزيد من التلوينات الفنية والنفسية التي تبتغي أن تثيرها الأفلام. أما توظيف هذه الخلطة فهو لغايات مُستحدثة. لعلنا أمام جنس سينمائي مستقل لم يضع له النقاد اسماً بعد؛ أفلام نقد المنظومات الرمزية للرأسمالية.

قد تكون سلسلة أفلام “ماتريكس” (إخراج الثنائي واشوفسكي) فاتحة هذه الموجة النقدية في السينما، نهاية القرن الماضي. لكن الأعمال التي يمكن إدراجها تحت هذا السقف، بدت كلمعات متباعدة لا يمكن معها الحسم بوجود تركيز فنّي حول نقد الرأسمالية سينمائياً. والمسألة لا تتعلق بهوليوود وحدها (يمكن أن نذكر أفلاماً مثل “ذئب وول ستريت” أو “الجوكر”) بل تمتد إلى جغرافيات أوسع منها أعمال المخرج السويدي أوستلوند، وآخرها “فيلتر” (2022) أو الفليم الكوري بارازيت (2019)، وبعض من رؤيته حضر في السلسلة الشهيرة “لعبة الحبّار” (2021). ولا ننسى أن سلسلة “ماتريكس” قد بُعثت من جديد في عام 2021 وكأن أصحاب رأس المال الأول أرادوا توظيفه حين رأوا ما بلغته بذرة استثمارهم القديم. وكان فشل هذا الفيلم مؤشراً على استسهال الأعمال ذات النزعة النقدية الشاملة، كما هو الحال أيضاً مع آخر أفلام هذه الموجة؛ “القائمة”.

يَستند الفيلم على مقدمة خفيفة لكنها تنجح في بناء العالم التخييلي المقترح. فتى يدعو صديقة لغداء مميّز، يستعدان لاستقلال مركب مع مجموعة من المدعوين، نتعرّف عليهم من خلال أحاديث الثنائي عنهم على ظهر المركب وهو ينقل الجميع نحو جزيرة يقع فيها مطعم لطبّاخ يدعى جوليان سلوفيك (أداء رالف فينس) يجمع بين الشهرة والغموض في شخصية مركّبة تجمع ملامح الفنان والعالِم والقائد العسكري.

تبدو الدعوة، بادئ الأمر، عادية لكننا نكتشف أن الفتاة التي تدعى مارغو (أداء أنيا تايلور جوي) ليست على قائمة المدعويين، وأن رفيقها قد أتى بها تعويضاً للمدعوّة الأصلية. هذا تفصيل عابر إلى تلك اللحظة التي نعلم فيها أن المدعويين للوجبة التي سيُقدّمها سلوفيك قد جاؤوا إلى مقتلة، حيث أن الطبّاخ يعرف كلاً منهم، ويعتبرهم مخرّبين للحياة وقد أعدّ لهم العقوبات التي يستحقونها، من بينهم رجل أعمال وصحفية متخصصة في تقييم المطاعم وممثل سينمائي شهير.

سيقول لهم كل ذلك من خلال سلسلة من الوجبات، وتلك هي القائمة، يُرفقها سلوفيك بخطاب منسوج من ذات العناصر التي يصنع بها المأكولات. خطاب يذكر من خلاله جرائم ضيوفه عبر استعارات مختلفة تظهر في الوجبة التي يقدّمها لهم للأكل. وحدها مارغو – الدخيلة – ستعبّر عن استغرابها من الوجبات المقدّمة، وفقدانها للذّة ناهيك عن أداء دورها بملئ البطن، وهو ما يضعها في مواجهة مباشرة مع كبير الطباخين، لتتصاعد الأحداث وتصبح التورياتُ تصريحات، ثم تنفيذاً على اللحم البشري الحي.

تأتي نهاية الفيلم كطبق بارد بعد بدايات تفتح شهية المتفرّج

يبدأ الطبّاخ في تنفيذ العقوبات. وفي هذا المستوى تبرز الاستعارات الأساسية التي يُطلقها فيلم “القائمة”. تتجلى مجموعة المدعوين مثل نخبة تواجه مصيرها، وترى في مرآة صحونها نتائج خياراتها. يجد بعضهم من جرائم سلوفيك مادة للفرجة، قبل أن يتحوّلوا إلى ضحاياها فلا يجدون سبيلاً للعودة إلى الوراء.

وشقٌ آخر ظلّ يعتبر أن كل جريمة مجرّد حيلة مسرحية سرعان ما سيكتشف الجميع أنها جزء من مخطط دمويّ للطباخ سلوفيك. ذلك الإنكار يتجلى خصوصاً في تفاعل الصحفية المدعوة، فحتى حين تحققت من أن سلوفيك لا يمزح فقد اعتبرت أن كل هذه العملية موجّهة لها لإبهارها كي تكتب مقالاً قوياً عن تجربتها في المطعم.

هكذا كانت تتقدم المجموعة نحو نهايتها. وحدها الدخيلة كانت تبحث عن مَخرج، وقد دخلت في مساومة مع الطبّاخ بين أن تأخذ موقعاً مع الضيوف المحكوم عليهم بالإعدام، وبين أن تصبح عضواً في فريقه. يقول لها سلوفيك: “اختاري بين من يأخذون أو من يُعطون”. لم تكن الفتاة مخيّرة في الحقيقة، كان استلامها للجلاد فرصتها الوحيدة للنجاة، وقد وجدت في كواليس المطعم جهاز راديو استعملته لإخبار الشرطة بالجرائم التي تقع.

حين يحضر أحد أفراد الشرطة، يوصي سلوفيك المدعويين ألا يشتكوا من شيء إذ يمكنه أن يذهب إلى عقوبات أشنع بحقهم، وهو ما فعلوه بتواطئ غريب بادئ الأمر، حتى أن أحد ضحاياه كان قد قُطعت إصبعه منذ دقائق لم ينبس ببنت شفة. وحين يختار بعضهم الخروج عن صمته، ينقلب الشرطي ضدّهم، فلم يكن سوى ممثل ينتمي إلى فريق الطباخ الذي قرأ حساب استعمال جهار الراديو لطلب النجدة.

حين تبدو كل الأبواب موصدة، تأتي نهاية الفيلم غريبة، أقرب إلى طبق بارد. مرة أخرى تمسك مارغو الدخيلة بزمام الأمور حين تعلن للطباخ الطاغية أنه ألقى الدروس على الجميع لكنه فشل في ما ينجح فيه أي طباخ، وهو أن يجعل زبائنه يشبعون ويستمتعون بما يأكلون. تقدّم طلباً غريباً: “أريد شيز بورغر”، قالت مارغو، وتفاجأ الجميع بأن طأطأ الطبّاخ رأسه وأعد لها وجبتها، قبل أن يتركها تغادر في سلام.

هل يعني ذلك أن الطغاة يحترمون من يتجرأ على مقاومتهم؟ لم تكن تلك الحادثة سوى مقدمة للمشهد الأخير حين قرّر سلوفيك طلي جميع ضيوفه بالمأكولات اللذيذة ومن ثمة إحراق المطعم على من فيه.

قد لا يبقى في ذاكرة المتفرج سوى الجماليات البصرية التي يقدّمها ذلك المشهد. لكن النار لم تُحرق المطعم المصطنع وحده، بل كانت أيضاً تُحرق مقولات طرحها الفيلم ولم يتركها تنضج كما ينبغي.ولعل المخرج كان ينتقد بشكل ساخر تلك الجماليات البصرية التي تغزو عالمنا وتجتاحه اجتياحاً، ليس عبر مشهد النهاية البركاني، فهو مما تطفح به نهايات الأفلام، بل أساساً من خلال لقطات تصوير المأكولات طوال الفيلم، محاكياً ما يروج بمواقع التواصل الاجتماعي في أيامنا من صور المأكولات الشهية، تطلقها المطاعم وصناع المحتوى، ثم لا نجد الكثير من جمالياتها على أرض الواقع. شيء من ذلك يحدث في نهايات فيلم “القائمة” بعد بداياته التي تفتح الشهيّة…

كاتبة من المغرب.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة