القاهرة من زاوية أُخرى

خفق قلبُه بينما راح يُشرِع باب الخزانة الموارِب، وهو يسترجع ما حدث ليلة أمس. للحظةٍ شعر أنه قد جُرِّد مِن ملابسه. خبط كفّاً بكفّ، ثم خبط على رأسه مِن الصدمة وهو يرمق الخزانة الخاوية. مدّ أصابعه يتحسّسها كأنه لا يصدّق عينَيه، لكنَّ الفراغ هو ما لمسَته.

القاهرة من زاوية أُخرى
(لوحة لحامد ندا/ مصر)

1

– لا أُوقّع إلّا بقلمي، ولا أكتب إلّا بِه. ولي فيه مآرب أُخرى…

قال لها حين مدّت له قلماً ليُوقّع لها نسخةً من كتابه. كانت قد وقفت قرابة الساعة إلّا ربع في الطابور. امتدّ طالِبو التوقيع مِن شتّى الأعمار والفئات أمامه، وعلى وجوههم بسماتٌ مرِحة وضحكات صاخبة، ثم لم يلبثوا أن شعروا جميعاً بالضجر، انتابهم فجأةً كعدوى، إلّا هي… كانت تترقّبه بينما يجلس إلى المائدة التي وُضع عليها مفرشٌ أنيق، وأمامه تلالٌ مِن نُسَخ كُتُبه، وخلفه “بانر” كبير يمتدّ مِن الأرض إلى السقف عليه غلافُ كتابه، وصورتُه. عنوانُ روايته كان “سارقة القلب”، وكان العنوانُ يوحي بتفاهةٍ وسماجة. مع ذلك، كان عشراتُ القرّاء يتكدّسون أمامَه لاقتنائها موقَّعةً منه.

أوّلَ الطابور اصطفّ رجالٌ ونساءٌ، صحافيّون وصحافيات، وتعالت أصواتُ التقاط الصُّوَر. وبين الحين والآخر، يتوقّف التوقيع من أجل مصافحةِ شخصية مهمّة؛ وزير ما، أو مندوب عن شخصية بارزة جاء لتحيّته، فيقف مُصافِحاً الضيف، وموقِّعاً له نسخته، قبل أن يعود لاستئناف ما يفعله.

حين وصلَت إليه، منحَته قلمها ليُوقّع لها نُسختها، إلّا أنّه تحاشى أخْذ القلم منها. تناوَل نسخةً من كتابه، وفتحها على الصفحة الأُولى، ومدّ يده اليمنى ليوقّع عليها، فسألته:

– ليه مخدتش قلمي توقّع لي بيه؟ دا أنا كنت ناوية أهديهولك بعد ما توقّع لي النسخة.

– …

– بس دا قلم رخيص يعني… قلم عادي ورخيص… إيه المميَّز فيه يا أستاذ؟

قالت وهي تحاول استفزازه، ونجحَت فعلاً. ظلّ يرمقها ويرمق قلمه. وكلّما رفع إليها نظراته، سلّطَها عليها حانقاً، وكلّما عاد بها إلى قلمه، منحه عطفه وحنانه. كان عجيباً في قدرته الفائقة على تبديل مشاعره في اللحظة نفسها، وقد استمتع الواقفون في الطابور بهذا العرض المسرحي القصير الذي أدّاه أمامهم، وأنهاه حين قال حاسِماً:

– بعد حفل التوقيع، هقول لك إيه المميَّز فيه…

كان الضجرُ هو المهيمن على الجميع في تلك اللحظة؛ على الكاتب والفتاة والواقِفين في طابور التوقيع

انتظرَته، وكان هو أيضاً قد بدأ يشعر بالضجر. طال الطابور، وبدأ يلتفتُ إليها حيث تجلس بجوار إحدى الموائد تحتسي مشروباً وتأكل مكسّراتٍ مِن الأطباق الكثيرة التي تعلو كافّة الموائد، ثم بدأَت ترمقه هي الأُخرى بضجر، فخشي مِن ضجرها، وزاد ضجرُه. كان الضجرُ هو المهيمن على الجميع في تلك اللحظة؛ على الكاتب، والفتاة، والواقِفين في طابور التوقيع.

لا يُمكن أن تنجح ليلةٌ بين رجل وامرأة طالما هيمن الضجر على بدايتها. لكن يبدو أنَّ المقادير كانت تخبّئ أوقاتاً سعيدة لكاتبنا هذا، الحريص على قلمه، الفخور به في مواجهة فاتنة.

أدرَك أنه تعلّق بها، وبقوامها الممتلئ الجميل، وخصرها الملفوف، وشعرها المنساب على كتفَيها العاريتَين إذْ انحسرت بلوزتها عن كتفيها وحدّدَت جيّداً صدرها وبطنها، وكشفت عن فتنة نهديها بفضح رجرجتهما. كانت ترتدي سوتياناً يمنحهما حريّتهما، وكانت البلوزة فضفاضة. لهذا تضافرَت كلُّ هذه العوامل في تعلُّق الكاتب بها.

بعد ساعتين، غادرا…

اصطحبها إلى سيارته وسط الزحام، ولم يرفع ناظرَيه عن صدر بلوزتها، متعلّلاً بأنّ لونها الزهري أخذه. أمّا هي، فظلّت ترمقه بدهشة وتضحك، ثم هتفت:

– دا حتى الناشر بتاعك مسلَّمتش عليه…

فضحك وهو يقود سيارته بسرعة غير مبرَّرة كأنه يفرّ مِن كابوس:

ما هُو برضه زهقني… يصحّ يْجيب لي كلّ القرّاء دُول ويشحنهم في حفل التوقيع ويخلّيكي قاعدة زهقانة؟

قالت بحذر، متخوّفة أن تتلفّظ بما يُغضبه:
– هو مَن يجلب لك القرّاء.. أم أنّهم يأتون مِن تلقاء أنفسهم؟

لوَّح بكفّه اليسرى في ضجر، بينما يُمسك مقود السيارة بيمناه، وقال وهو يرمق ولّاعة سيارته:

– زمان كنت بفكّر في الأمور دي… مِن ساعة ما نجحت الحمد لله وكُتبي بقت بتبيع… بطّلت أفكّر القُرّاء دول بيجيوا منين. الغريب أنهم بيقولوا إن فيه أزمة قراءة في مصر. مظنّيش.

ثم حسم أمره، ودسَّ يده اليُمنى في جيب الجاكِتة، وأخرج علبة سجائره، وهو يرمق الطريق، ضغط على ولّاعة السيّارة، بينما استلّ سيجارة، ثم أومأ لها قائلاً:

– بتدخّني؟

– آه.

– كدا أحسن… أنا بحبّ المدخّنات… خصوصاً لو جميلات.

فضحكَت.

 

2

في الصباح كانت قد مضَت. انقشعَت مثل بخار حمّام ساخن تكثَّفَ طيلة الاستحمام على الزجاج… ثم ابتلعه الهواء.

استيقظَ عارياً كما نام. رمق كرشه المترهِّل، الذي لطالما ضغط على صدرها وبطنها طيلة التحامهما، ولطالما شكَت منه، فرجَته أن ينهض مِن عليها ليمنحها بضعة أنفاس، لهذا بدّلا الوضع، فضاجعها في الحمّام، مُلصِقاً وجهها في زجاجه، ملتحِماً بها بقوّةِ جائعٍ لم يذُق طعم اللحم منذ سنين.

ربَّتَ على كرشه سعيداً راضياً. كانت الشمسُ قد كست حجرته الفسيحة الوثيرة، وأغطية فراشه، ووساداته المتناثرة هنا وهناك وعلى الأرض… ملابسُه لم تبرح مكانها منذ خلعها في فورة هياجه وذروة تأجُّج رغبته. كانت تتسابق في الخلع مع قطع ملابسها، وكان عليه عبء خلع ملابسه وملابسها معاً، وهي كانت مستكينةً متوثّبة للفرار منه في غنج بأرجاء شقّته الدوبليكس الواسعة. كان سعيداً بمطاردتها بهذا العري المشترَك. وحينما أمسكها أخيراً، جرى بينهما ما جرى أوّلاً في المطبخ الواسع، على يسار حجرة نومه. هناك لعقها، ثم رفعها على الرخامة الباردة مِن أثر التكييف القوي، وضاجعها قليلاً في تلك الوضعية، هو واقف، وهي جالسة مشرئبّة الفتحات، تنتظر اقتحامه، وقد باعدَت بين ساقَيها كدلتا النيل.

كان السؤال الذي طرحَته عليه بعد أوّل مضاجعة بينهما:

– بيتك مذهل. أنت كاتب ولّا تاجر مخدّرات؟

ضحك وهو يرفع مِن برودة التكييف ليمتص تعرُّقهما:

– أنا الاتنين.

لم تفارقها الحيرة، فعاد ليقول:

– معرفش… لكن فيه حاجة حصلت فجأة. أنا كنت بكتب كتابة عادية، وفجأةً عرفت ناس أغنياء، بدأت أكتب عنهم. هنا كتبي بدأت تبيع أكتر… بدأت أنجح أكتر… بدأت أكسب فلوس أكتر… بدأت دُور النشر الكبيرة تحب كتبي أكتر… وتحب تمضي معايا عقود كتب متكتبتش… بس أنا عندي سرّ صغير…

نجَح في جذب اهتمامها، فرفعَت حاجباً وأرْخَت الآخر، اعتدلَت قليلاً، وتنحنحَت، كأنّها ستتفوّه بكلمة، إلّا أنّها ظلّت صامتة، فأخذ يُحدّق في نهدَيها اللذين باتا عاريَين الآن، محمرَّين مِن أثر المص والتقبيل والشدّ والعصر، كان يتأمّلُهما بنهم كأنه لم يُشبِع جوعه بعد، وهي كانت متلهّفة للسرّ الذي سيُدلي به، وحدث ذلك بالفعل. قال فجأة:

– طول عمري كنت بَكتب بطُرُق مختلفة، بَكتب بأقلام، أو على آلة كاتبة، أو على كمبيوتر عادي… وأخيراً على لابتوب، لكن فجأة… وفي ليلة مِن الليالي، كان فيه كاتب كبير وناجح، قابلته في سهرة، وخرجنا مشينا في شارع في حتّة مقطوعة… سألتُه عن سرّ نجاحه… فأهداني القلم دا…

واستلّ قلمَه؛ ذاك الذي تمسَّكَ بالتوقيع به في الحفل. كان قلماً عادياً، قلمَ حبر، وله غطاء مِن العاج الأسود القديم، يبدو ملطَّخاً بالحبر الأزرق، وسنُّه ذهبي أو أصفر. توقّعَت فتاتنا أنَّ القلم مِن الذهب الخالص، إلّا أنه لم يكن كذلك، كان سنُّه فقط مِن الذهب، وغطاءُه مِن العاج، وبينهما حلقة نحاسية عديمة القيمة.

فتح دولابه لينتقي مِنه حلّة أنيقة ارتداها بهدوئه الواثق مِن أنَّ العالم سينتظره، وأنّه لا داعي لأيّة عَجَلة

أمسكَت بالقلم، وسألَته بشغف وعيناها تلتمعان ببريق الطمع:

– قُلتَ لي في حفل التوقيع إنّ ليك فيه مآرب أُخرى؟ أهو عصا موسى؟

فأطلَق ضحكةً وهو يستردُّ قلمَه بخطفه مِن قبضتها، ثم نهض في رشاقة لا تتناسب وكرشه المترهّل، ومضى إلى خزانته في جدار حجرة نومه، فتحها، ودسّ القلم فيها، ثم عاد إليها وهو يقول:

– مِن أوّل ما بدأت أكتب بيه، وكلّ صفحة بكتبها بيحبها قرّائي… كلّ كتاب خلّصته بيه.. عبَدَه الناس، أحبّوه حب مش معقول، جرّبت مرّة كتبت في صفحة: “ريان يا فجل”، ففوجئتُ بكمّ رهيب مِن الناس على السوشل ميديا بيشيّروا الصفحة المكتوب بها الكلمتين… هجرت الكتابة على اللابتوب، صرت بكتب بيه رواياتي بالكامل، وأدفع بها للجميعة… هؤلاء الذين يُعيدون استنساخ ما كتبتُه على الكمبيوتر.

قبل قوله ذاك بدقيقة… قبل أن يعود إليها متحدّثاً بتلقائيته، مُفشِياً أدقّ أسراره، كان قد وقف أمام الخزانة، ظانّاً أنه يحجبها عنها بظهره وهو يغلقها على قلمه. لم يرها وهي تعتدل جالسةً على ركبتيها على المرتبة، وتحملق في الأرقام التي يُشفِّر بها خزانته، لم يَنتبه إلى فعلتها.

في الصباح، انهمَك في أخذ حمّام ساخن يغسل به كسله ويزيل أدران جسده. لم ينتبه إلى سرقة كنزه إلّا بعدما غادر الحمّام، وفتح دولابه لينتقي حلّة أنيقة، وقميصاً أبيض، ارتداهما بهدوئه الواثق مِن أنَّ العالم سينتظره، وأنه لا داعي لأيّة عَجَلة. كان لديه، في ذلك اليوم، موعدٌ مع ناشره ليتسلّم حصّةً مِن مكاسب وأرباح حفل توقيع أمس، وكان عليه أن يُسلّمه مخطوطاً جديداً عمل عليه لمدّة أسبوع، أسبوع واحد كان يكفيه لنقش أي هراء، وتسليمه لناشره على أنه عمل روائي محكَم سيبيع آلاف النُّسَخ، وكانت اللعبة قد بدأت تجري هكذا فعلاً، يَخطُّ بقلمه العاجي ذو السن الذهبي أيّ هراء وروث بهائم، يجد طريقه فعلاً إلى المطابع، وتدور ماكيناتها، ويجد هراؤه خلال بضعة أسابيع طريقه إلى أرفف البيست سيلر.

أطلَقَ على نفسه رذاذ عطره، أغرق حلّته مِن ذلك العطر الفرنسي باهظ الثمن، ثم التفت إلى حائطه، حيث تقبع خزانته، بحماس، بينما كان يُطلق صفيره، أزاح تلك اللوحة التي ابتاعها مِن سوق اللوحات القديمة في مدينة فينيسيا، ثم توقَّف برهةً، امتقعت ملامحُه، قبل أن يكتشف المفاجأة.

خزانتُه كانت مفتوحة، خفق قلبُه بينما راح يُشرِع بابها الموارب، وهو يسترجع ما حدث ليلة أمس. كان قد أغلق الخزانة جيّداً، وحينما التفت، وجد فتاته تتهيّأ للنوم، فتوجَّه نحوها سريعاً، مُطوِّحاً بجسده فوقها بلا رحمة، ليُضاجعها للمرّة الثالثة أو الرابعة، قبل أن ينهدم تماماً ويغيب عن الوعي في بئر عميق مِن النوم، مطمئنّاً إلى أنَّ كنزه يقبع آمناً في الخزانة المغلَقة.

للحظة شعر صاحبنا أنه قد جُرِّد من ملابسه وبات عارياً… خبط كفّاً بكفّ، ثم خبط على رأسه مِن الصدمة وهو يرمق الخزانة الخاوية على عروشها، ثم مدّ أصابعه يتحسّسها كأنه لا يصدّق عينَيه، لكنَّ الفراغ هو ما لمسَته.

 

3

هرَعَ إلى ناشِرِه، أشعثَ الشعر، متجهّم الوجه، وقد خرج قميصُه مِن بنطلونه، وبات أشبه بالشحاذّين. سأله عن قائمة المدعوّين إلى حفل التوقيع، بينما مدّ ناشرُه له ظرفاً متخماً بنصيبه مِن مبيعات الكتاب. طوَّح بظرف النقود بعصبيّة بعيداً في ركن حجرة مكتبه، وهو يسأله عمَّن حضر الحفل، ويُطالبُه بالصُّوَر. كان عصبيّاً للغاية، وكان صوتُه يتحوَّل إلى صراخ. هرعت سكرتيرة الناشر لتتبيَّن إذا ما كانا يتشاجران، ففوجئت بالكاتب وهو يصرخ في وجه ناشره:

– بت سرقَتني… مين البت دي… وجت ازّاي تحضر الحفلة… مين اللي عزمها؟ أنت؟ ولّا مين اللي دسّها؟

فهتف الناشر في وجهه:

– مين بس اللي سرقتك؟ وسرقت منك إيه؟

– سرقت أغلى حاجة عندي… سرقت عمري… اللي جاي واللي راح.

تراجَع الناشر مبهوتاً وهو لا يكاد يُصدّقه، بينما يُحملق في عينَيه الزائغتَين. كان الكاتب قد انهار في تلك اللحظة باكياً، وهو يهتف:

– سرقت منّي قلمي… قلمي اللي بكتب بيه كتبي… كنوزي… كنزي…

ظلَّ الناشر محملقاً فيه وقد اتّسعَت دهشتُه، ثم جلس أخيراً متنفِّساً الصُّعَداء، صائحاً:

– يا أخي حرام عليك سيّبت رُكَبي… خد فلوسك الله يرضى عليك، وهات الرواية… المخطوطة الجديدة.

– دي مصيبة… أنت مش متخيّل. دا مكنش قلم عادي… أنا مش هقدر أكتب حرف تاني…

وواصل نهنهته. تعجَّبَ ناشره ممّا قال، ثم التفت إلى سكرتيرته وأمرها أن تطلب البوليس.

لم يكن مِن الممكن أن يهتمّ قسمُ شرطةٍ عاديٌّ بهذا الأمر، لو كان المبلّغون أشخاصاً آخرين غير الكاتب والناشر، فماذا تعني سرقة قلم مِن أحدهم، ما لم يكن المسروق شخصاً له حيثية الكاتب؟ وهكذا أرسلت المديرية ضابطاً توسّمَت فيه القدرة على كشف أكثر السرقات غموضاً وحلِّ أصعب الجرائم المستعصية في المدينة.

حينما وصل الضابط، تأمَّلَ صاحبَنا الكاتب، وقد هدأت نوبةُ بكائه قليلاً. طلَب منه أن يصف له الفتاة التي سرقته، ثم طلب منه أن يُرافقه، سألَه الناشر بفضول:

– إلى أين؟

فأجابه:

– إلى جماعة أعرفُهم جيّداً… مشهورين بتسريح بناتهم في المناطق المرفّهة والحفلات، لمصاحبة الأغنياء، وسرقتهم.

غادر الضابط يتبعُه الكاتب، قادَه إلى الطريق الصحراوي، وخرجا مِن القاهرة. كانا يسيران في طريق الواحات، الكاتب مستسلماً، والضابط يبدو شديد الانتباه للطريق. الشمس كانت تنحدر إلى المغيب بسرعة كأنّها تفرّ خائفة، وحينما حطّ الليل بعباءته، وجلس يترقّب كحكيم هادئ البال ما سيندّ عن الضابط مِن أفعال، انحرف هذا الأخير في درب غير مطروق، لكنه واضح للأعين التي سلكته مِن قبل. ظلّ يسير فيه بالسيارة ببطء متفادياً أحجار الدرب غير الممهَّد كي لا تُعطّل السيارة أو تخرّبها، إلى أن وصلا إلى مجموعة مِن العمائر في الصحراء لها أربعة أبواب، على كلّ باب منها صنم لقزم مِن نحاس أصفر. التفت الضابط إلى الكاتب قائلاً:

– هل ترى هذه الأبواب؟ هذه مدينة متطرّفة ومجهولة لا يعرفها أحد إلّا سكّانُها، وعددٌ قليل مِن أبناء القاهرة، هي أشبه بكمباوند مِن كمباوندات الأغنياء، تُسمّى “مدينة القمقم المسحور”، أمّا أبوابها الأربعة، فأيُّ غريب يمرق مِن أيّ باب منها دون إذن سكانها، يسقط عليه النوم، فينام عند الباب، ولا يبرح حتى يأتيه أحدٌ مِن أهل هذه المساكن، وينفخ في وجهه، فيقوم. وإنْ لم يفعلوا ذلك، يظلُّ نائماً في مكانه حتى يموت.

ارتاع الكاتب، ونقل نظراته بين المساكن والأبواب، وبين الضابط، ثم هتف:

– لماذا جئنا إلى هنا؟

فأجابه الضابط:

– لنقودك إلى البنت اللي ضحكت عليك ليلة امبارح وغفلتك يا بيه…

سمعه الكاتبُ والضابطُ جيّداً بينما كانت كلماته تخرج مِن موضع سرّي في وجهه الذي يخلو مِن فتحة فم

ظلّا منتظرَين، بينما الليل يحبك حولهما ظلامه، وأخيراً انفتح أحدُ الأبواب الأربعة، وخرج منه كائنٌ يسير على أربعة أرجُل، معتدل الظهر مع ذلك، غاص الكاتب في مقعده خائفاً، بينما كان الضابط يُراقبُ الكائنَ الغريب شاعراً بالاشمئزاز منه. اقترَب مِن السيارة، قدمان تتقدّمان إلى الأمام، وقدمان تتأخّران إلى الخلف. اللتان في الخلف يحلّ عليهما الدور فتتقدّمان، وتتراجع اللتان في الأمام إلى الخلف. كان يُلوّح بيدَيه الطويلتَين بينما يمتدّ عنقه ليحمل رأساً مستطيلاً. حينما اقترب منهما، توقّفَت أقدامُه الأربعة، فترجَّل الضابط، قائلاً:

– يا حموق… بنت مِن بناتك كانت سهرانة عند البيه امبارح؟

لم يتحدَّث الرجل، لم ينبس ببنت شفة. ومع ذلك، سمعه الكاتب والضابط جيّداً بينما كلماته تخرج مِن موضع سرّي في وجهه، وجهِه ذاك الذي خلا مِن فتحة فم، وإن كانت فيه فتحتان للعينين هما شقّان مسحوبان كفم ثعبان، أمّا ذقنه فكانت طويلةً تمتدّ إلى ما أسفل أنفه، ولم تحو تلك المساحة سوى جلد مصمت، بدون فم، متّصل بخدّيه. أمّا نظراتُه، فكانت جامدة، إلّا حينما يسمعان كلماته، يسمعان كلمات تأتي في الأغلب مِن بطنه. كانت رموشُه ترتعش بينما يتحدّث، وحينما يصمت تخمد، وتثبت نظراته.

أعترفَ حموق بأنَّ الفتاة التي باتت في حضن الكاتب كانت مِن فتياته، تحديداً هي ابنته. التفت الكاتب إلى الضابط وهمس:

– ازّاي دا… دي كانت بنت طبيعية جدّاً، مش زي المخلوق دا. كان عندها بق، كانت طبيعية جدّاً، وكانت أمّورة فشخ…

عادت كلمات حموق لتتردَّد في رأسَي الرجُلَين:

– البتّ بنتي… والقلم سرقته فعلاً. وعشان نرجّعه لازم نستضيفكم، ونورّي الكاتب مرؤتنا وجدعنتنا…

رمق الضابطُ الكاتبَ بنظرة متفحّصة مختبرة ردّة فعله، بينما غاص الكاتب أكثر في مقعده وهو يرى أرجل المخلوق الأربعة، ووجهَه الذي خلا مِن فمه، وجهَه المصمت ورأسه المستطيل الأصلع الذي خلا مِن أيّ شعر أيضاً. هتف فيه الضابط قائلاً:

– عاوز قلمك؟ يلّا لو عاوزه، روح معاه؟

ارتعش الكاتب في مقعده، وتشبَّثَ بباب السيّارة قائلاً:

– مش عاوزه… مش عاوزه. لو روحت معاه هياكلني… هياكلني…

أطلق الضابط ضحكة عالية مستهزئة وهو يصرخ:

– ياكلك؟ ياكلك إيه؟ أنت شايف عنده بق… ولا سْنان! يلّا روح.

ثم فتح باب السيارة الذي كان الكاتبُ ملتصقاً به. ترجَّل مِن ناحيته، ولفّ حول السيارة، وجاء ناحية بابه. تراجع حموق إلى الوراء، تراجَع بقدمَين اثنتَين، وبقيتا قدماه الأُخريَين أمامه، ففتح الضابط باب السيارة، وخاطبَ الكاتب:

– يلّا… يلا رُوح مع حموق، وأنا مستنّيك هنا عشان أرجّعك.

– والنوم؟ النوم اللي مستنّي الغُرب عند الأبواب الأربعة؟

– متخفش… طالما داخل مع حموق، مش هيقع عليك النوم.

ذهب الكاتبُ مع حموق. تحرَّكَ الأخيرُ على أقدامه الأربعة، فاكتشفَ الكاتبُ أنَّ خطوته أبطأ منه، على الرغم مِن رجليه المضاعفتين، فحمد ربّنا لأنه خلقه برجلَين اثنتَين فقط، وليس بأربعة، وسمع في عقله حموق يتكلّم قائلاً:

– اسمع يا سيدنا… مدينتُنا بأمرٍ مِن الله بناها نبيٌّ مِن الأنبياء الذين جاؤوا مصر، في الزمن القديم، وحاوطها بغشاوة فلا يراها إلّا ناس قليلة، حينما ستدخل الآن مِن أحد أبوابها الأربعة، هتشوف العجب..

ظلّ الكاتبُ متوجّساً صامتاً، وهو رمق وجه حموق الذي ترتعش رموشُه، بينما كلماته ترنّ في عقله، وتبادل حموق معه النظرات، وظلّ ساهماً، مرّا بالأصنام النحاسية الصفراء، دخل حموق أوّلاً، ثم دخل الكاتب، وظلّ مترقّباً مشاعره وأحاسيسه، لكنه لم يتثاءب، فأدرك أنه فلت مِن النوم، ثم التفت ليرى ماذا وراء الباب، ففوجئ بالمنظر.

 

4

خلف الباب حقول خضراء تتوسّطها بِركةٌ ينطّ فيها إوزّ وبطّ، ويحطُّ فيها الحمام واليمام. ماءُها أزرق صافٍ، مثل السماء. ومِن بعيد قباب عالية، تلتمع بمعادن الذهب والفضّة والزمرّد، وحوانيتٌ جدرانُها مشيَّدة بأعمدة شاهقة، تطمح إلى أنْ تعانق السماء، وبها سلالم متدرّجة يصعد فيها الناس إلى أدوار عديدة، ولا يخافون السقوط، يبدون في صعودهم وهبوطهم، يتحرّكون برشاقة، وحول البركة تلهو نساء وأطفالهن، وفيها يغطس رجال لصيد الأسماك، واللؤلؤ، وفي أقصى اليسار مِن البركة كان هناك عدّة هياكل معدّة للعبادة، مبلّطة بالرخام، وتلتمع عليها أنوار القمر، ويركع عليها الناس ويرقدون، أو يضطجعون ويستسلمون للراحة، جاءت كلمات حموق في عقل الكاتب تقول:

– هنا في “القمقم المسحور” نعمل طيلة الأوقات، ولا ننام، لا نتعذّب بلهيب الصيف، ولا نبرد في الشتاء، لا يُصيبنا جوع، ولا يرهقنا عطش، لم نخترع النقود، ولا نتداولها، نتبادل كلَّ ما نرغب فيه، لا نكنز الثروات، ليس لدينا بنوك كالتي تزخر بها قاهرتكم وتمتلئ… لا أغنياء… لا فقراء… الناس يعيشون في سلام، الطيبة هي عملتنا، والخلق الرفيع هو ديدنا، لا بغضاء بيننا، لا نتنافُس على النساء كأبناء آدم. لا نمقت الجمال… لا نُكرِه الفتيات على الزواج ممّن لا يرغبن.. لا تُوجَد بيننا امرأة جميلة وأُخرى قبيحة… إذا غادَرنا مدينتنا إلى الخارج، نستعيد صورتكم العادية، فننام ونأكل ونشرب، ونحبّ ونكره… نستعيد صورتكم المقيتة لنستطيع أن نتعامل معكم. لهذا انسلّت ابنتي في حفلك. هي تهوى المغامرة… سرقَت منك ما سرقَت… وأنا سأردُّه.

استمَع الكاتب إلى ما يقوله حموق ذاهلاً. ظلّ يرمق وجهه المصمت الخالي مِن فتحة فم، بينما كلماته تنسلُّ على عقله مباشرةً مِن دون أن تمرّ على أُذنيه. ودّ لو يُسجّل كلّ ما سمعه، لكنّه تذكّر أنّ قلمه ليس بحوزته.

مضيا حول البركة، كانت تفوح منها روائح جميلة، روائح جنينة سماوية، نعناع ورمّان وياسمين ولافندر. ومِن الحقل اليانع المحيط بها شمَّ رائحةَ مانغو مختلطة بليمون، واستنشق الرائحة محاولاً فصل مكوّناتها. لاحَت أمامه شجرة تفّاح، فوقف مبهوتاً؛ قد تكون هذه شجرة الخطيئة… الشجرة المحرَّمة التي أكل منها آدم وحواء، إلّا أن حموق تعجّله بعدما سبقه بعدّة خطوات، بأرجله الأربعة، إذ التفت إليه ولوّح له بيده الطويلة أنْ يلحقه.

نسي مَن ينتظره في القاهرة. نسي ناشره ومعجبيه ومريديه، ونسى الضابط الذي ينتظر عند باب المدينة

حثَّ الكاتبُ الخطى، ولحق بحموق. كانا يسيران في درب واسع، بين الحقول، وقد ودّعا البركة، واقتربا مِن القباب، دخلا في حيّزِ روائح أُخرى، روائح نسائية تهبُّ مِن الشرفات، وروائح شيوخ زهّاد يتعطّرون بالعطر قبل كلّ صلاة. سأل الكاتبُ حموق:

– هل تصلّون؟ تؤمنون بالله وتعبدونه؟

فرمقه حموق بإعجاب، ثم انبعثت كلماته في عقل الكاتب:

– مَن في ظنّك يحمي مملكتنا هذه مِن طغيانكم غير الخالق؟ مَن في رأيك يسترُنا عن أعينكم ويحمينا مِن أطماعكم؟ إذا ما كففنا عن عباده كشف عنّا غطاءنا، وفوراً ستدهمون مساكننا وتهدمونها فوق رؤوسنا، ولن تتبقّى مِن نسائنا ستٌّ حرّة إلّا وتغتصبنوها أو تنتهكونها.

عبرا في تلك اللحظة منطقة القباب العالية، ذات المعادن اللامعة المزدهرة، ووصلا إلى حافّة جبل يُطلّ على ساحل كبير ينتهي ببحر. فهتف الكاتب:

– بحرٌ في صحراء القاهرة؟ في الطريق الصحراوي بينها وبين الواحات؟

فأشار حموق إلى البحر وهو يثبت قدمَين مِن أقدامه الأربعة في الأرض، ويُثني قدميه الأُخرَيَين كأنّه سيركع، وأشار تجاه البحر قائلاً:

– هذا البحر يا سِيدنا هو شاطئنا المُطلُّ على عالمنا العلوي. تعيشون في القاهرة في العالم السفلي؛ حيث لا تطلّون على بحر ولا بحيرة. والنيل الذي يجري في وسط المدينة تَلوَّث ماؤه وكثرت فيه المطامع، اختنقَت أرواحكم في الزحام… أمّا هنا، فنحن نركب البحر ونسافر إلى آفاق أبعد. هذا البحر الذي أمامك مليء بالجُزُر التي تمدُّنا بأسباب الحياة؛ الصمغ… الزيت الأسود الذي تسمّونه النفط… أحياناً نحتاجه كوقود للماكينات الزراعية… وهناك جُزُر تهطل عليها أمطار موسمية أقمنا فيها صهاريج ضخمة لتجميع هذه المياه، وجلبها بالسفن إلى البيوت التي لا تكفيها مياه البركة. سبق وقلت لك إنّنا لا نعطش، لكنّنا نستحمُّ بالماء العذب… وهذا ضروريٌّ مِن أجل جلودنا.

أخَذَ الكاتبُ يستمع إليه مبهوتاً، ذاهلاً عن كلّ شيء. نسي مَن ينتظره في القاهرة مِن أشخاص. نسي ناشره ومعجبيه… نسي محبّيه ومريديه… ونسى الضابط الذي ينتظر عند باب المدينة. في لحظةٍ خاطفة اقتربت الفتاة التي ضاجَعَها، كأنّها برزت مِن أسفل الجبل، مدَّت أصابعها بالقلم نحوه، وهي ترمقه بشغف، تناوَل حموق القلم منها، ومدّه إلى الكاتب، قائلاً:

– قلمك يا سِيدنا…

رمقه الكاتب، ونظر إلى الفتاة متحيّراً، ثم خاطبَه:

– زوِّجني ابنتك.

كاتب وصحافيٌّ مصري مِن مواليد 1980. صدر له في الرواية: “شديد البرودة ليلاً”، و”الموت يشربها سادة”، و”خنادق العذراوات”، و”إيقاع”، و”النسوة اللاتي”. وفي القصّة القصيرة: “سبع محاولات للقفز فوق السور”، و”شوارع السماء”.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!
قصص قريبة