المقاومة والتضامن في عالم مثقل بقيود النيوليبرالية
ريتشارد بيل، إعلاء الكلمة المجاهرة بالحق، 2023.

المقاومة والتضامن في عالم مثقل بقيود النيوليبرالية

عندما دخلت إلى تلك المساحة السوداء بجدرانها المعتمة وشاشاتها المضيئة وأصواتها المتداخلة، كان أوّل ما سمعته مقطعاً من أنشودة "جزائرنا"، ولأقرأ في زاوية بعيدة لجدارية مليئة بالصور: وزارة الأخبار للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تقدّم: "الفاتح نوفمبر 1954.

خالد بن صالح - الشارقة

تُقامُ “مفكّرة أبريل: في رِحالنا تكوينات جديدة”، وهي جزء رئيسيٌّ من برنامج بينالي الشارقة 16، أيام 18-19-20 من الشهر الحالي. تتخلّلها حواراتٌ وجلساتُ نقاش وعروضٌ أدائية وسينمائية وموسيقية حيّة، تستعيدُ التواريخ الممزقة، وأشكال التنظيم الجماعي، والمعارف القديمة بصيغةٍ جديدة، وتستكشفُ الإرث الصوتي، والبنى التحتية الإبداعية المعرّضة للتهديد، وكلّ ما يُقيّد حركة الناس والأفكار، عبر أعمالِ البينالي التي تنتصر لهشاشة الإنسان المرتحِل وأحماله، لذاكرته المكانية والوجودية ضدّ النسيان، ولشعوبِ جنوب العالم وثقافاتها الراسخة في عمق الحضارات البشرية.

مفكرة أبريل: في رِحالنا تكوينات جديدة

مفكرة أبريل: في رِحالنا تكوينات جديدة

“جزائرنا” في نشرة الأخبار غير المنحازة

عندما دخلتُ إلى تلك المساحة السوداء بجدرانها المعتمة وشاشاتها المضيئة وأصواتها المتداخلة، كان أوّل ما سمعتهُ مقطعاً من أنشودة “جزائرنا”، ولأقرأ في زاوية بعيدة لجدارية مليئة بالصور: وزارة الأخبار للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تُقدّم: “الفاتح نوفمبر 1954″، “معركة الجزائر العاصمة”، ربع الساعة الأخير -“معركة جومال”- ثورات أوروبية في الجزائر العاصمة، مناقشات حول الجزائر في هيئة الأمم المتحدة”.

وتتبعها في الصورة ذاتها الفقرة التالية: منذ ست سنوات تتحدث الصحف والإذاعات عن الثورة الجزائرية. وفي نفس الوقت: عمليات حربية، قنابل، تعذيبات، قنابل “النابالم”، المحرقة، آلاف المشرّدين، إنها الحرب، الحرب الوحيدة”. تتوقف الكلمات في الصورة هنا لأكمِلها من ذاكرتي: الحرب الوحيدة الساحقة في العالم، إنها الحرب المهولة، إنها الحرب، إنها الآلام، إنها كذلك عزيمة شعب وأملهُ الوحيد بأنها؟”، ولتأتي بخط كبير الحجم في صورة ثانية عبارة: “جزائرنا” أو كما كُتِبت بالحروف اللاتينية: Djazaïrouna وهو عنوان فيلم وثائقي قصير (20 دقيقة) بالأبيض والأسود من إخراج جماعي عام 1960 لكلّ من جمال شندرلي، بيار شولي، محمد لخضر حمينة ورينيه فوتييه. اعتمدَ الوثائقي الذي يُبرز للمجتمع الدولي الأهداف التي يسعى إليها المقاومون الجزائريون، على صور من فيلم “الجزائر، أمة” الذي أخرجه رينيه فوتييه عام 1954، وصور لجمال شندرلي التقطها أثناء حرب التحرير في جبهات القتال.

عنوان المشروع الذي غُصتُ في تفاصيل جانبه الجزائري، هو “نشرة الأخبار غير المنحازة” للفنانة الصربية ميلا توراجليتش (بلغراد، 1979)، والمستمدّ من عدّة أعمال ومواد أرشيفية أسهم فيها ابن بلدها المخرج وصديق الثورة الجزائرية ستيفان لابودوفيتش (1926-2017) بمواد مصوّرة وفيديوهات عملت الفنانة توراجليتش على رقمنتها منذ عام 2016 وهي تخصّ الأرشيف السينمائي لحركة عدم الانحياز.

أعمالها المقسّمة إلى ثلاثة أجزاء والمجتمعة في هذه القاعة ضمن شريط بصري متعدّد الوسائط: “جزائرنا، 1960″، “فينسيريموس، (سوف ننتصر) 1967″، “دماء ودموع، 1970″، “إيماءة، صوت، تواريخ/ 2024″، “أصوات من الأنقاض، 2024″، “غستوس: الصورة في ثلاث حركات، 2025″؛ تقاربُ مجتمعةً أصول حركات إنهاء الاستعمار والتضامن الدولي في الجنوب العالمي، من خلال تطور استخدام الصورة والأشرطة المصوّرة، حيث يركز المشروع على ثلاثة أفلام وثائقية أُنتجت ضمن علاقات سينمائية سرية ين مصوّرين من جيش الشعب اليوغوسلافي (1945-1941)، وجبهة التحرير الجزائرية (1962-1954)، وحركة التحرير الموزمبيقية (1975-1962)، ومنظمة التحرير الفلسطينية (تأسست: 1964).

يسعى المشروع إلى رسم خريطةٍ للروابط المجهولة وغير المُدركة ضمن تقاليد السينما النضالية والثورية. وتُشكّل الأفلام الثلاثة جوهر حوارٍ متطوّر، مع مداخلات جديدة تشمل شهاداتٍ شفوية مصوّرة، وصوراً شخصية، ورسائل خاصة، وأرشيفات، ووثائق بحثية، جُمعت بالتعاون مع القائمين على بناء الصورة السينمائية لحركات التحرير -مناضلين قدامى جسّدوا التعاطف التشاركي الذي ألهمَ الفنانة صاحبة فيلم “رحلة في الذاكرة” مقاربتها لتواريخ شعبية تنسج بما التقطته عدسةُ الكاميرا من ذكريات ونضالات وسرديات وطنية تجمعُ بين أجيال مختلفة تؤمن بالبعد العالمي لإنهاء الاستعمار.

خرجتُ من قاعة العرض وفي رأسي تدورُ صورٌ وأصواتٌ وألحانٌ تُرافقها أبياتٌ جامعةٌ لحركات التحرر من أنشودة جزائرنا: “ففيك برغم العدا سنسود/ ونعصف بالظلم والظالمين”.

ميلا توراجليتش، جزائرنا، 1960 / فينسيريموس، 1967 / دماء ودموع، 1970/2025.

ميلا توراجليتش، جزائرنا، 1960 / فينسيريموس، 1967 / دماء ودموع، 1970/2025.

التحوّل أو مسٌّ باطني

حين التقيتُها أول مرّة ضمن فعاليات “لقاء مارس 2018” بالشارقة، كانت الفنانة الكويتية منيرة القديري (داكار، 1983)، محاطة بأحواض مليئة بالنفط، وأشكال مشوّهة، وأنماط تفكير رجعية، وذكريات طفولة مربكة بخلفية حقول سوداء تصعد منها أعمدة الدخان، أعمال تركيبية ومرئية تعكسُ تجربتها الفنية المستوحاة من مسار حياتها بين الكويت، اليابان، بيروت وأمستردام. لمستُ وقتها اهتمامَها المتجذّر بالرعب المرتبط بتدمير البيئة.

وها هي اليوم تعود بآخر عملٍ لها بعنوان “مسّ باطني” (2023)، عمل تركيبي مكوّن من منحوتات بألياف زجاجية وأصباغ وأصوات، يستكشف تأثير الصناعات البترولية على التغيّر البيئي والكائنات الحية، حيث وجدتُني في بوتقة حمراء أستمع لحوارٍ بين صدَفتين حمراوين ترويان قصّة تحوّلهما غير المقصود من الأنوثة إلى الذكورة! متسائلاً مع الفنانة القديري ما سبب هذا التحوّل الكافكاوي العجيب؟ لتجيبني أنها في متابعتها للبحوث البيولوجية والبحرية وقعتْ على معلومة تقول إنّ تسرّب مادة تريبوتيلتين، وهي دهان حيوي أحمر اللون مُخصّص لمنع الطحالب والقشريات وبلح البحر من الالتصاق بناقلات النفط، يتسبب في تحوّل أنثى الرخويات الأرجوانية إلى ذكر. وتحدث عملية التحوّل بعد أن تأكل الحيوانات البحرية، غير المرئية بالنسبة للبشر، بقايا وقشور الدهان الذي يختلط بالأعشاب تحت الماء، ولتُمسي مهدّدة بالانقراض بعد فقدانها القدرة على التكاثر.

تضيف الفنانة أنها أرادت اختبار شعور تلك الكائنات التي تخيّلتها تستيقظُ من النوم لتجد نفسها وقد تحوّلت جنسياً دون إرادتها بسبب تلوث مياه البحر. جسّدت القديري ذلك بحوارٍ صوتي تتبادل فيه الصدَفتان مقاطع من نوفيلا “الديزل” للشاعر والروائي الإماراتي ثاني السويدي (1966-2000) الصادرة عام 1993 ببيروت ولاحقاً بطبعات عربية في تونس والعراق، ثم بترجمة وليام هوتكنز عام 2012 إلى الإنجليزية.

تتحدّث المقاطع عن أثر تنامي النفط ومبادلاته على المجتمعات الصغيرة في شبه الجزيرة العربية، وتحوّلات الأفراد والجماعات الموزعة بين ثقافتين، تقليدية وحداثية، مع التركيز على سلوك الفرد وحياته اليومية. فالكتاب بمقاطعه المختارة يتميّز بسردٍ شعري سريالي يخطف الأنفاس، وعمل منيرة القديري، يتناغم معه ومع اللون الذي اختارته للتعبير عن صدمة التحوّل غير المرغوب، ولعلّني سأكتفي بجملة واحدة مما كتب السويدي: “كان دم البحر هو الماء نفسه”.

منيرة القديري، مسٌّ باطني، 2023.

منيرة القديري، مسٌّ باطني، 2023.

إعادة تكوين العالم وسرديات الأساطير

في مشروعه “مدرسة الشارع” (2019) الذي تم تنفيذه خلال أزمة النفايات التي شهدها لبنان، دعا الفنان والكاتب والمهندس المعماري اللبناني رأفت مجذوب (طرابلس، 1986) أربعةَ متعاونين للانضمام إليه وتحويل المواد المهمَلة في أكوام القمامة إلى منحوتة تجسّد روح العمل الجماعي التي تتبدّى في فترات الانهيار الاقتصادي. من هنا يتجلّى مفهوم إعادة “تكوين العالم” عبر التخيّل والممارسة الفنية الجماعية، وبعنوان “كل شي بحبك بهون” (2019/2024) أنجزَ مجذوب نسخة معدّلة أُنتجت خصيصاً لهذه النسخة من البينالي، وظّف فيها عناصر معمارية من مبانٍ في الشارقة تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، ويجري حالياً ترميمها، مبرزاً من خلال عملية تكرار النموذج بمواءمة الموارد المادية وغير المادية في بيئتها؛ انسيابيةَ ممارساتِ تبادل المعرفة، وقدرتها على الاستجابة للسياقات المختلفة.

رأفت مجذوب، مدرسة الشارع، كلّه في حبّك بهون، 2019/2024.

رأفت مجذوب، مدرسة الشارع، كلّه في حبّك بهون، 2019/2024.

 

لعلّ الفنانة الكندية راجني بيريرا السريلانكية المولد (كولومبو، 1985) واحدة من أهم الفنانات المعاصرات في جيلها، هذا ما لمستهُ في أعمالِها أساطير الشتات الممزوجة برؤى الخيال العلمي. وبالاستناد إلى تجربتها البصرية الواسعة في ثقافة المهاجرين والمخاوف البيئية الناجمة عن الاستعمار وويلات استخراج الموارد بشكلٍ مُسيء؛ تتخيل بيريرا عالماً بديلاً منتصراً. عالمٌ تتنقّل وتتحوّل فيه شخصيات هجينة، أغلبها نسائية قادمة من أساطير جنوب آسيا، ومن مُتخيّلات الفنانة التي تُبرز هجرة الأجساد في عمَليها: لوحة “عاشق وليس محارباً” (2024)، المستوحاة من الأساطير والممارسات الروحانية لياكو توفيل، وهو طقس تقليدي شفاهي في سريلانكا تعرّض للتجاهل بسبب الاستعمار والتفرقة.

فيما يتناول العمل التركيبي “حارس البوابة” (2024)، عوالم التطهير والعبور بين الأجيال والولادة من جديد، ففي الوقت الذي يحمل فيه طائر أبو قرن قدسية معيّنة في أجزاء عديدة من جنوب شرق آسيا، يمثل الهجين بين الأنثى والطائر رسولاً أسطورياً للثروة والحماية.

راجني بيريرا، عاشق وليس محارباً، 2024.

راجني بيريرا، عاشق وليس محارباً، 2024.

 

راجني بيريرا، حارس البوابة، 2024.

راجني بيريرا، حارس البوابة، 2024.

 

“تمائم” (2025)، عمل للفنانة الكويتية البورتوريكية علياء فريد (الكويت، 1985) التي تستلهم من تأثير الصناعات الاستخراجية على النسيجين البيئي والاجتماعي في جنوب العراق والكويت، أشكالاً فنية متنوعة، لعل أكثر ما جذبني فيها علاقة التاريخ المادي والثقافي بالتجارب المعاصرة لهذه المجتمعات، لتقدّم رؤى بديلة ومبتكرة في مواجهة أزماتنا البيئية المستمرّة. حيثُ أصبحت هذه العلاقة بين البيئة والتاريخ والسياسة هي العدسة التي ترى فريد من خلالها موضوعاتها، وإن بدت شخصية وحميمية ترتبطُ بالحياة اليومية وصور العائلة.

علياء فريد، كوبول/ تميمة 1 و2 و3، 2025.

علياء فريد، كوبول/ تميمة 1 و2 و3، 2025.

أمامي تميمة ألياف زجاجية وراتنغ بوليستر/كوبول من إنتاج الشركة المتحدة للمشروعات النفطية بالكويت، ورق تصوير، حبر، ومسامير فولاذية مقاوِمة للصدأ مع ثلاثة أزواج من الألواح، تمَّ تنفيذها بالاستناد إلى أبحاث أجرتها الفنانة في جامعة ستانفورد حول آلاف القطع والمحفوظات العراقية التي جُمِعت إبان الغزو الأميركي للعراق، لتضيف لها الفنانة طبقات من الصور تتبَّع نسبَها الأمومي إلى جانب التقاليد الروحانية العراقية، وتدعونا من خلالِ تسميتها بـ “التمائم” إلى التفكير في العلاقة بين الممارسات الصناعية والأعمال اليدوية، كما تنسج تأمّلات حول الإرث، والتواصل مع الأجداد.

 

الأيادي المحتجة

تقول الفنانة ريتو ساتار (بنغلادش، 1981) عن أعمالها: “بعض الرحلات تستغرق وقتاً طويلاً للوصول إلى وجهتها. العديد من هذه الأعمال كانت رؤىً ورسومات منذ عام 2019. كنتُ أتوق لرؤيتها بأشكالها الحقيقية، تشغل مساحاتٍ وتخلق حوارات”.

تتأسّس ممارسة فنانة الأداء ومخرجة الأفلام ريتو ساتار على الذكاء الجسدي، بتناولها القصص المخفية والتاريخ الاستعماري ودورات العمل الظالمة في بنغلاديش. ففي فيلمها “شابنام” (2023)، تقدم دراماتورجيا سينمائية عن النسيج البنغالي الفاخر المعروف باسم “الموسلين”، والذي أُنتِج لمئات السنين إبان الإمبراطورية المغولية، إلى أن استبدلته في القرن التاسع عشر التجارة الاستعمارية وسيطرة الشركات البريطانية بمنسوجات رخيصة. يربط الفيلم بين صورة نساجين بارعين، مع بحثٍ مادي في عملية معالجة القطن، فتنطق أنوالهم مُفصحة عن ماضٍ صادم، يقوّض ما جاء في السجلات الإمبريالية المحفوظة في الأرشيفات الإنجليزية.

يرافق الفيلم عمل النسيج الفنّي المعلق “القطرات الأخيرة من أجساد النساجين” (2024)، الذي يستحضر الإنهاك الناتج عن العمل، والعنف الاستعماري المتواصل، وشفافية الموسلين المثالية، أما في العمل التركيبي “آلاف سائرة لم تحمل اسماً قط” فتمتدُ الأيادي المطبوعة على المناشف بتقنية الشاشة الحريرية؛ كشاهد عيان يربط المنسوجات المغزولة يدوياً وصناعياً مع دورات الاستخراج الاستعماري والذاكرة الجسدية، فتصبح هذه الأعمال مجتمعة، بمثابة دعوة إلى معاينة صادرات الملابس الحالية من بنغلادش إلى العالم.

تُسائل ساتار الإدراك البشري والحقائق الخفية من خلال إعادة النظر في التاريخ وصنع المعرفة. تبقى ممارستها الفنية متصلة بالاضطرابات المرتبطة بالاستعمار والمعرفة المفقودة، مُنسجمة مع الظواهر لاستكشاف التغيير والإدراك وعلاقة الجسد بالمادة.

ريتو ساتار، آلاف سائرة لم تحمل اسماً قط، 2023.

ريتو ساتار، آلاف سائرة لم تحمل اسماً قط، 2023.

في مساحةٍ هائلة، مترامية بين السقف والجدار والأرضية، تمتدّ أعمال الفنان الكيني كالوكي نيماي (كيتْوي، 1985)، لتعكس تجارب النزاعات المدنية، والإخفاقات السياسية، وعنف الشرطة في مواجهة الحركات الشعبية في كينيا وخارجها. يستند نيماي على حكمة عائلية متوارثة ومنقولة عبر اللغة الأم لأجداده (كامبا)، موثقاً المرويات التي أغفلتها كتبُ التاريخ، في حوارية مفتوحة، متعددة الأبعاد والأسئلة، حول الهوية والتوترات بين الماضي والحاضر والمستقبل.

طبقاتٌ كثيفةٌ من أوراق الصحف والوثائق، أجسادٌ هائلة، كتلٌ لونية مشرقة ودافئة، ووجوهٌ تتخللها غرزٌ بأسلاك عجلاتِ المركبات؛ عالمٌ من المواد والطبقات والوسائط المختلطة التي اختارها الفنان ليسرد بأسلوبٍ فريدٍ ​​قصصَ وتراثَ مجتمعِ كامبا الأصلي، كما لو أنه يقطّب الجراح التاريخية والمعاصرة، راسماً مسار الكوارث السياسية لبلاده ومقاومة الشباب، عبر شخصياتٍ متنقّلة وأشكال مجرّدة تمنح اللوحات وزناً سردياً جسدياً، كاشفة عن علاقة مشفرة بين الذات والعالم.

تمتزج في أعمال الفنان الكيني العالمي كالوكي نيماي خبرة التصميم الداخلي والسينما والتشكيل، ما جعله صوتاً لأولئك الذين عادة ما تغفلهم السياسة كما التاريخ. وبتسليطه الضوء على لحظات الشفاء والتعافي أيضاً، تمسي هذه اللوحات تطلعاً إلى الأمام وتفاؤلاً بفجر جديد.

كالوكي نيماي، تويتيلا فآا نغينيا إندي، (لغة قبيلة كامبا) 2024.

كالوكي نيماي، تويتيلا فآا نغينيا إندي، (لغة قبيلة كامبا) 2024.

مع ريتشارد بيل أبرز فناني عصره، أجدني منحازاً للّقب الذي أطلقه على نفسه: “ناشط متنكّر كفنان”، في مقابل وضوحِ لوحاته بمواضيعها وألوانها المتفجرة. ينحدر بيل من قبائل غرب كوينزلاند الأسترالية، ويؤسس عمله على السياسات الأسترالية تجاه السكان الأصليين، منذ السبعينيات والثمانينيات، بما في ذلك الرسم والفيديو والأعمال التركيبية والأداء، حيث يستخدم الفكاهة والطرفة والعنصر الجمالي وإعادة التوظيف الفني، لاستكشاف تعقيدات الاضطهاد. تؤذن لوحاته بتاريخٍ جديد حديث، يرتفع فيه الوعي العالمي بقضايا التحرّر، ما يمثّل له استمراراً لجهوده في توثيق حركة الحقوق الأصلية في بؤر الصراع، وتناغمِ ما ينجزه من لوحات واقعية وذات رسائل مباشرة مع الوعي المتنامي والتضامن الثقافي بين الشعوب الأصلية أستراليا وفلسطين، وحركة الفهود السود في الولايات المتحدة.

ريتشارد بيل، هاجر، 2023.

ريتشارد بيل، هاجر، 2023.

أغنية خالدة

“غنينا وابتهجنا، ورفعنا أبصارنا نحو السماء المتلألئة بألف نجمة، ووقفنا معاً، مهما اشتدت المحن، سنبقى حراساً لهذه الأرض، فهي عظامنا، وماؤها دمنا”.

هذه الكلمات هي لماما ديتشي إحدى القائدات البارزات في مجتمع السكان الأصليين في بلدة صغيرة بإندونيسيا، تظاهرن بصلابة وشجاعة ضد افتتاح منجم للرخام لحماية الغابة المقدسة، شريان حياة السكان ومصدر رزقهم، وبعد شهر كامل من الاحتجاج تراجعت الشركة عن بناء المنجم.

هكذا تشكل الأعمال الفنية لبينالي الشارقة فضاء تفاعلياً لإحياء أصوات غُيّبت طويلاً، تستعيد ذاكرة وقيَم الأجداد التي تُجسدها الألحان والأهازيج، الرقصات والحكايات، الحياكة والنسيج وكل ما يروي تاريخهم بصمت بليغ ورؤى حداثية تمدُّ جسورها إلى الأجيال القادمة.

شاعر وصحافي جزائري، من مواليد 1979. بالإضافة إلى الكتابة الصحافية والمتابعات الأدبية والفنّية عبر عدد من الجرائد والمجلّات الثقافية الجزائرية والعربية، يشتغل بين الإذاعة والنشر والتحرير منذ 2007. صدرت له خمس مجموعات شعرية.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة