
“المنصة”: رسائل من سجن الرأسمالية المتوحّشة
محاكاة مكثّفة لواقع عالم بات تحت حكم الرأسمالية في نسخها المتقدّمة، وما المائدة إلا مثال مبسّط عن جمل ثروات العالم التي نعرف أنها مقسّمة بشكل غير عادل بين عُشر من الأثرياء وتسعة أعشار ممن يعيشون من الفتات الذي يبقى في المائدة.
إذا اكتفينا بالشكليات فهو فيلم خيال علمي. يمكن أن يكون أيضاً فيلم رعب باحتساب المشاهد الدموية فيه، وإذا أمعنا النظر أكثر فهو فيلم ديستوبي ذو حمولة رمزية، ولكن على الأرجح فإن الفيلم الإسباني “المنصة” (عُرض أوّل مرة عام 2019، ويقدّم حالياً على نتفليكس) هو فيلم واقعي، أو بعبارة شائعة في العلوم الاجتماعية ما بعد الحداثية هو فيلم فائق الواقعية، أي أن الواقع بارز داخله أكثر مما يجب، أكثر من الواقع كما هو.
فكرة الفيلم بسيطة: تجد الشخصيات نفسها في سجن ذو هندسة عمودية بحيث أن كل زنزانة تقع فوق الأخرى أو تحتها، ولا تتصل إلا من خلال فجوة تمر منها يومياً مائدة تنزل من الأعلى إلى الأسفل،تكون في المستويات الأولى مُبهرة مُبهجة فيها ما لذ وطاب من المأكولات، ولكن كلما نزلت أكثر افتقرت وغاب بهاؤها لينقلب عفونة حتى لا يصل شيء إلى الطوابق السفلى، وهي قرابة المئتين عدداً بحسب روايات متضاربة يطرحها الشريط كتخمينات من الشخصيات.
فيلم فائق الواقعية، أي أن الواقع بارز داخله أكثر مما يجب، أكثر من الواقع كما هو
يتابع الفيلم تحديداً مسار السجين غورنغ الذي يفكّر من البداية في ضرورة تغيير النظام الظالم الذي يقوم عليه السجن. محاولات تبدأ برغبة في إقناع غيره بإيجاد طريقة تضمن توزيعاً متوازناً لخيرات المائدة، وهي محاولة سرعان ما ستكشف له حجم التصدي من السجناء أنفسهم، بما أن من هم في الطوابق العليا يدافعون بشراسة عن امتيازاتهم، وتنتهي المحاولات إلى نزول إلى الطابق صفر في قعر السجن، وهي محاولة لا تأتي بأي نتيجة، وحتى حتى لا تزيد البطل علماً بأسرار ذلك السجن الذي يقبع فيه، ناهيك عن العجز على إيجاد حل لمأساة اللامساواة التي تحكم كل شيء.
هذه القصة ما هي إلا محاكاة مكثّفة لواقع عالم بات تحت حكم الرأسمالية في نسخها المتقدّمة، وما المائدة إلا مثال مبسّط عن مُجمل ثروات العالم التي نعرف أنها مقسّمة بشكل غير عادل بين عُشر من الأثرياء وتسعة أعشار ممن يعيشون من الفتات الذي يبقى في المائدة.
عنصر محاكاة آخر يعرضه الفيلم يتعلق بما تؤول إليه المحاولات الفكرية، وحتى النضالية، في فهم أسرار الرأسمالية. فكما أخفق غورنغ، بطل الفيلم، أخفق في عالمنا الواقعي الاقتصاديون والفلاسفة وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا في وضع تفسير دقيق للطريقة التي تعمل بها الرأسمالية وتنتج بها الواقع وتفرضه على كل من حولها. ربما وحدها أمثولات الأدب والدراما والسينما هي التي استطاعت أن تعبّر بشيء من التهجّي عن أعماق هذا الوحش الذي خلقه الإنسان منذ قرابة خمسة قرون وبات فريسته اليوم.
يقترح الفيلم إلى ذلك تشريحاً للنفس البشرية، فالهيكل التخييلي المقترح يتيح أن نرى العلاقة بين القيم التي يعتنقها الشخص ومواقعه ضمن النظام السائد. بوضوح، يبرز الفيلم أنه كلما كان الشخص في مستوى أعلى، كلما برزت ملامح الأنانية والجشع في تصرفاته، وأنه كلما كان في مستوى أدنى، كلما زاد يأسه واتسمت سلوكياته بالعنف والرغبة في التخريب كآخر وقة يلعبها لتغيير موقعه داخل السجن.
يصف فشل المحاولات الفكرية، وحتى النضالية، في فهم أسرار الرأسمالية
وهو يطرح هذا الترابط، يعود بنا العمل إلى إشكالية هزّت العالم في فترة ما بين الحربين خلال النصف الأول في القرن العشرين، وقتها أثارت فظاعة الحرب العالمية الأولى وعدم استقرار العالم بعدها أسئلة حول الحرية، وما يختاره الإنسان لنفسه من مصير، وإن كان حقاً حراً حين يقرّر ذلك أم أن قراره ليس إلا نتيجة لما يفرضه عليه موقعه.
يبدو فيلم “المنصة” حاسماً في جوابه، فالإنسان وحش مُقنّع يكفي أن تتغيّر الظروف حتى يسقط قناعه فيعود إلى نزعاته الحيوانية الأولى، وفيما تبدو الرأسمالية كحدث تاريخي مرتبط بالعصور الحديثة تؤكّد لنا أطروحة الفيلم أن هذه الآلة العملاقة لا تعمل إلا على إعادة الإنسان إلى مصادر ذاته البرية القديمة، والذهاب به إلى أبعد نقطة في تجربة القسوة والشر.
هل هذا هو عالمنا حقاً إذا نزعنا منه قشور الروتينيات اليومية وصخب الأحداث التي تبلغ أسماعنا من هنا وهناك. ولكن أي شيء يبلغ أسماعنا أكثر من أخبار الحروب والزلازل والعنف. وبأي تغيير يمكن أن نحلم حين يكون الإنسان مجرّد برغي في “منصة” ضخمة ذات آذان صماء…