المهاجر السري الذي لن يلتقي بأمين معلوف

تماماً مثلما فكّر أمين معلوف عام 1975، يفكّر الآلاف من الشبّان العرب اليوم، بعضهم يحتذي حذوه في الأخذ بالأسباب الثقافية والعلمية فيأتون طلبة أو يبحثون عن عمل في قطاعات الاتصال والفنون والهندسة، وبعضهم لا سبيل لهم إلا شق البحر.

المهاجر السري الذي لن يلتقي بأمين معلوف
أمين معلوف

روى الكاتب الفرنسي اللبناني أمين معلوف (1949) في أحد حواراته أنه صادف أن كان شاهداً على أول اشتباك في الحرب الأهلية في لبنان (1975)، فقد دارت إحدى معارك اليوم الأول من الحرب أمام بيته ليقرّر دون تردّد أن يرتحل إلى مكان آمن، واختار فرنسا؛ البلد الذي يتقن لغته ويلمّ بثقافته.

بعد قرابة الخمسة عقود أصبح أمين معلوف السكرتير الدائم للأكاديمية الفرنسية، وهي المؤسسة المشرفة على حماية اللغة الفرنسية وتغذية المعاجم بما تحتاجه من جديد، ما يعني أن المهاجر اللبناني قد أصبح أحد أكثر الناس فائدة لفرنسا، فهذا الموقع يحتاج مهارة دقيقة ومكانة معرفية حققها معلوف بفضل كتاباته الروائية الشهيرة وتنظيراته أيضاً حول حوار الحضارات. وبغض النظر عن السجالات العربية حول الأدوار التي يلعبها معلوف، فإن النجاحات الشخصية التي حققها هي النموذج المثالي لما يمكن لمهاجر أن يحلم به. وبماذا سيحلم مهاجر بغير الأمان المادي والمعنوي؟

تماماً مثلما فكّر معلوف عام 1975، وهو في النصف الثاني العشرينيات من عمره، يفكّر الآلاف من الشبّان العرب اليوم، بعضهم يحتذي حذوه في الأخذ بالأسباب الثقافية والعلمية فيأتون طلبة أو يبحثون عن عمل في قطاعات الاتصال والفنون والهندسة، وبعضهم لا سبيل لهم إلا شق البحر في زوراق نصفها يغرق في منتصف المتوسط.

نفس الفكرة الأساسية التي وردت على ذهن أمين معلوف، هي التي تحرّك المهاجر السرّي. لقد رأى شيئاً، أو أشياء على الأرجح، تؤكّد له أن بقاءه في نفس الفضاء الجغرافي يعني أنه لن يعيش بأمان.

ربما خشي أمين معلوف على حياته وحياة أسرته الصغيرة، ولكن ما يستحق الخشية ليس ذلك فحسب، فأن لا ترى أفقاً تتحقق فيه طموحاتك البسيطة، فهذا سبب كاف للتفكير في المغادرة، وأن تعرف أن الموقع الطبقي الذي ورثته عن والديك سيجعلك في أسفل أولويات وطنك فهذا سبب آخر للتفكير في الهرب من خلل لا أحد يفكّر في إصلاحه.

لا يحتاج هؤلاء، وهم بالآلاف، إلى معركة أمام بيوتهم كي يوقنوا بأنه لا مكان لهم في بلدانهم. لقد أثبتت لهم مجتعاتهم لسنوات بأن الأمور لا تسير نحو الأفضل، وأن فرصهم في حياة هانئة – كتلك التي تروّج لها الميديا – ضعيفة للغاية. عندها، تصبح مغامرة الذهاب إلى الشمال ذات جدوى عالية: نحن هنا ميّتون وهناك توجد أسباب الحياة، فما يضير الميّت المعنوي إن مات فعلاً عرض البحر؟

العدد الأوفر من المهاجرين الجدد لن يجدوا الفرص التي وجدها أمين معلوف

تلك الحسابات وأوهامُها تغذّي عزيمة الشاب الذي لا يملك حظاً في بلاده. وإذا عبر البحر فستنتظره مغامرات أخرى في الشوارع الخلفية للمدن الأوروبية يقضي فيها سنوات من السرية إلى أن يستوي له الأمر.

على الأرجح، تصفي تلك المرحلة ثلاثة أرباع المهاجرين السريين، بعضهم يذهب ضحية عالم الجريمة الذي يهيمن في الوجه المظلم للمدن الأوروبية، وبعضهم يفضّل السلامة والعودة من حيث أثتى فيما يجد بعضهم نفسه تحت طائلة الترحيل.

في سبعنيات القرن الماضي، لم يحتج أمين معلوف إلى فيزا، وحين وصل باريس وجد حاضنة جاهزة. كان صحافياً في لبنان، وفي فرنسا وجد فضاء صحافيا وفّره العرب في باريس فلم يجد صعوبة كي يعمل في صحيفة “جون أفريك” (أسسها التونسي بشير بن يحمد عام 1960)، والتموقع سريعاً في الحياة الثقافية قبل البدء في مشروع أوسع، مشروعه الأدبي الذي رفعته جماهيريته والدوائر الرسمية إلى أعلى مقامات الاعتراف، وأوصلت صاحب رواية “سلالم الشرق” إلى  القمة، وقد تزامن – ويا للمصادفة – مع تصعيد أوروبا لحماية حدودها من الهجرة، حتى غير السرية منها.

بالتالي، فإن العدد الأوفر من المهاجرين الجدد لن يجدوا الفرص التي وجدها أمين معلوف، ولا مناخاً دافئاً يحتضن سنواتهم الأولى التي يعيدون فيها بناء حياتهم. على الأرجح، سيظل هذا النموذج من المهاجرين مسكوناً بالذعر لسنوات، فهل يستطيع أن يبدع وأن ينافس وأن يصل إلى القمة؟

كاتبٌ مِن مواليد الجزائر عام 1995، يكتب القصّة القصيرة ويهتمُّ بالثقافة وبقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، يُقيم في فرنسا حيث يتابع دراسته في علوم الكمبيوتر وتقنية المعلومات.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة