بعيداً عن أدب الوباء: قارئ يبحث عن طمأنينة
تنسينا موجة الهلع التي خلقتها جائحة كورونا أن مدوّنة الأدب والفكر تحتوي أيضاً أعمالاً تبعث برسائل التهدئة. وقد سارت هذه الكُتب عكس التيار لتلعب دوراً في خلق جو من الثقة والطمأنينة. هنا بعض الترشيحات للقارئ العربي.

مع انتشار فيروس كورونا، راجت ترشيحات القراءة التي تتقاطع مع الحقل الدلالي للأوبئة. كان على رأس قائمة الترشيحات روايات مثل “الطاعون” للكاتب الفرنسي ألبير كامو، و”موت في البندقية” للألماني توماس مان، و”العمى” للبرتغالي جوزيه ساراماغو. وإضافة إلى هذه الأعمال، راج الحديث عن محتويات أعمال أُخرى تُنظِّر لنهاية العالم أو تتناول السيناريوهات المخيفة لما بعد الوباء.
تنسينا موجة الهلع هذه أنَّ مدوّنة الأدب والفكر تحمل أيضاً أعمالاً تبعث برسائل التهدئة، بعضها صدر في فترات شهدت أزمات كبرى عاشتها البشرية. سارت هذه الأعمال عكس التيار لتلعب دوراً في خلق جو من الثقة والطمأنينة، وهذه بعض الترشيحات للقارئ العربي.
“الطاقة الروحية” – هنري برغسون
صدر هذا الكتاب عام 1919، أي في نهاية الحرب العالمية الأولى بما خلّفته من خسائر في المدن والقرى والأنفس البشرية، ما ساهم في إرساء جو قاتم على الحياة الفكرية؛ حيث ازدهرت أطروحات الموت والنهايات، خصوصاً في ألمانيا وفرنسا. جاء كتاب هنري برغسون مثل شعاع في النفق المظلم؛ ‘ذ حاول الفيلسوف الفرنسي (1859 – 1941) أن يقترح حلولاً للبشرية من منطلق نقد خيارات الفلسفات المادية التي أفضت – منذ ما قبل الحرب – إلى تعميم حالة من الدمار النفسي، ناهيك عن الدمار الواقعي الذي تركته المعارك، فلم تكن الحرب سوى انعكاس لحالة عامة أصابت النخب الأوروبية وبدت كوسيلة للذهاب إلى الفناء في أسرع وقت.
يضم الكتاب سبعة فصول؛ أبرزها: “الوعي والحياة”، و”الروح والجسد”، و”أشباح حيّة”، و”الحلم”، وهي مقالات ومحاضرات سبق وأن قدّمها برغسون في مناسبات عدّة، وكانت تبدو متوجّهة إلى البيئة العلمية والفلسفية تحديداً، غير أن برغسون، حين جمعها، عمل على تبسيطها وتمرير أفكاره بأسلوب شيّق حقق لهذا العمل شعبية سيستفيد منها الفيلسوف الفرنسي حين يُصدر أعماله الأساسية في الأعوام اللاحقة.
“أصوات اليوتوبيا” – سفيتلانا أليكسفيتش
كانت ثمانينيات القرن الماضي من أقسى الفترات التي عاشتها شعوب أوروبا الشرقية، فهي المرحلة التي شهدت بداية تفكُّك الاتحاد السوفييتي. وتمثّل انعكاس ذلك على أرض الواقع في تردّي الخدمات الاجتماعية للدولة وتعطُّل قنوات توزيع أساسيات العيش، ومن جانب آخر ظهر تشدُّد أكبر على مستوى مراقبة الحياة العامة تحسّباً للحركات الاحتجاجية.
في تلك الفترة، قدّمت الصحافية سفيتلانا ألكسيفتش (1948) كتاباً بعنوان “ليس للحرب وجه امرأة” وجد النقّاد صعوبة في تصنيفه، فهو لا ينتمي إلى أي جنس كتابي معروف، وفيه تقدّم الكاتبة شهادة نساء حول الحرب، وبشكل عام علاقتهن بالحياة حين تكون عسيرة ومضطربة. كانت بذلك تُظهر الجانب القوي لكائنات ضعيفة وتقدّم رؤية مختلفة عن اللحظات القاسية للوجود. وعلى الرغم من أن أليكسفيتش لم تتناول أي شيء راهن، إلّا أن هذا الكتاب تعرّض للرقابة، ولكن طبعات غير قانونية مكّنته من الوصول إلى شرائح موسعة من القراء.
لسفيتلانا الأكسفيتش عمل شبيه صدر في نفس الفترة وهو “آخر الشهود”، وفيه تتحدّث من منظور أطفال عايشوا مرحلة الحرب العالمية الثانية، وبقيت هذه المأساة عالقة بأذهانهم بأشكال متنوعة. بعد نهاية الحكم الإمبراطورية السوفييتية واستقلال بيلاروسيا نشرت أليكسفيتش الكتابين معاً تحب عنوان “أصوات اليوتوبيا”، وقد أصبحا اليوم من أشهر الكتب بفضل حصول أليكسفيتش على “جائزة نوبل للآداب” عام 2015.
“الفتوحات المكية” – محيي الدين ابن عربي
كان القرن الثاني عشر ميلادي (السادس هجري) عصر قلاقل في الأندلس حيث وُلد محيي الدين بن عربي، في مدينة مرسية تحديداً. كان الصراع على أشدّه في ذلك العصر بين الفقهاء والعلماء ومنهم الفلاسفة، تجسّد خصوصاً في محنة ابن رشد بنفيه وإحراق كتبه، ولعلّ ذلك هو ما دفع تلميذه ابن عربي (1165 – 1240) إلى أن يغادر الأندلس ويهيم في الأرض.
كان تصوُّف ابن عربي مثل اجتراح خطّ بين قلاقل عصره، وهو ما يتجلّى بالخصوص في كتابه “الفتوحات المكية”، وهو رحلة حج، لكنّ صاحبه جعل منه رحلة روحانية وعرفانية أكثر من كونه رحلة في المكان، إضافة إلى كونه رؤية شاملة للعالم يطرح من خلالها فلسفته ورؤيته للتصوّف. وبفضله اعتُبر “الشيخ الأكبر” و”سلطان العارفين”.
من الصعب قراءة كتاب الفتوحات المكية اليوم، لضخامته من جهة وكثافة لغته وتعقيدها، غير أنَّ ذلك لا يعني أن يُترك الكتاب كلُّه، فلو فتح القارئ أيَّ جزء من أجزائه فسيجد فيه من الحكايات والنصوص ما يفيده ويسند نظرته للوجود.
“الخيميائي” – باولو كويلهو
في 1988، صدرت رواية “الخيميائي” لكاتب مغمور لم يسبق له أن أصدر سوى كتاب واحد قبل عام بدا لكثيرين كتاب دعاية دينية (حاج كومبوستيلا). سيتغيّر كل شيء مع الكتاب الثاني؛ حيث أصبح مؤلّفُه باولو كويلو (1947) أحدَ أشهر روائيّي العالم مع ترجمة النص إلى عدد كبير من اللغات، وتحوّله إلى أحد أكثر الكتب مبيعاً في نهاية القرن العشرين.
في بلاده، مثّل العمل تجسيداً لروج جديدة تعرفها البرازيل بعد التخلُّص من الديكتاتورية العسكرية التي استمرّت من 1965 إلى 1985، ويمثّل دفاعاً عن شرعية الأحلام التي يطمح إليها أي إنسان عادي. وفي الخارج، اعتُبر العمل أشهر منتَج ثقافي في بلد لم يُعرف عنه وقتها سوى إبداعه في كرة القدم، أو أنه منتج للكاكاو وقصب السكر.
يحمل العمل هيكلاً بسيطاً؛ حيث يتحدّث عن رحلة راع من إسبانيا إلى الأهرامات في مصر، بناءً على حلم عرف من خلاله بوجود كنز في مكان محدّد في الجيزة. لكن بمرور الأحداث التي تنتقل بين جغرافيات متعدّدة يتحوّل البحث عن الكنز إلى البحث عن “الأسطورة الشخصية”.
يُحسب للعمل حُسن موازنته بين الغموض والوضوح، فلغته تشبه ما يُقدَّم في قصص الأطفال، لكنه يزخر بالإشارات إلى معارف دينية وأدبية وتاريخية موسوعية، ولا يزال مقروءاً إلى اليوم بعد أكثر من ثلاثة عقود من صدوره، ويحضر في الكثير من الوصفات العلاجية ضمن أدبيات التنمية البشرية.
أدب الأنقاض الألماني – من برتولد بريشت إلى غونتر غراس
دفعت ألمانيا فاتورة الحرب العالمية الثانية، حيث جرى تدميرها بشكل شبه كلّي. وقد سُمّيت سنة 1945 بالسنة صفر، فبعدها أصبح على الألمان إعادة بناء كلّ شيء. كان دور الكتّاب في تلك الفترة هو ترميم الدمار الروحي الذي خلّفته الحرب، بدأ ذلك مع الكتّاب المعروفين وقتها ممن لم يتورّطوا في النازية مثل برتولد بريشت وهرمان هسه، وامتد إلى الجيل الذي صادفت الحرب سنوات شبابه.
ظهرت في ألمانيا تيارات أدبية كثيرة في العقدين اللاحقين لنهاية الحرب العالمية الثانية أبرزها تيار سيحمل اسم “أدب الأنقاض”، فقد جعل من الحديث عن أثر الحرب محوره الرئيسي وقد كان أبرز عمل في هذا التيار رواية “الطبل” (1959) لغونتر غراس (1927 – 2015).
كان هدف جميع هذه المحاولات الأدبية هو طرد المأساة من ذاكرة الشعب الألماني، وقد انعكس ذلك في طاقة العمل التي أنتجت ما عُرف بـ”المعجزة الألمانية”؛ فقد استعاد الاقتصاد الأماني عافيته في ظرف عقدين لا غير.