“بلا ربّي” ما تفوت!

لم يبتدع بوتفليقة في كيفية خروجه من السلطة، وهو قبْلاً لم يبتدع في كيفية مجيئه إليها؛ إذ لم يغادر رئيسٌ جزائري واحدٌ السلطة باختياره ورغبته أو عند انقضاء ولايته، بمن فيهم زروال نفسه، ولم يأت رئيس جزائريٌّ منذ بن بلّة إلى السلطة بطريق غير طريق العسكر.

“بلا ربّي” ما تفوت!
“بلا ربّي” ما تفوت!
(من المظاهرات الرافضة للعهدة الخامسة، الجزائر العاصمة، فبراير 2019)

جرت العادةُ أنْ يُقسِم الناسُّ بالله في كلِّ أمر مثلما يَشربون الماء، ثمّ يحنثون بقسمهم في التوّ. لكن، عندما يستخدمون عبارة “بلا ربّي”، فإنَّ “القَسَم هنا يكون غليظاً، وهو في الغالب قَسَمُ يأسٍ يُعبّر عن إرادةٍ لا تلين.

ثمّة، أيضاً، القسم بـ”الحرام” وبـ”الطلاق”، وهو أكثر ما يكون عند القدامى. ولأنَّ عوامل اليأس لا تُعدًّ ولا تُحصى، فقد كثرت صيغة “بلا ربّي”، وأصبح الشبابُ أكثرَ الناس ذكراً للّه، وإنْ بصيغة عكسية.

ومعنى هذا القسم – لِمن لا يعرفه مِن غير الجزائريّين – هو أنْ يُقسم شخصٌ بنكران الله لو ترك شيئاً يقع أو فعل شيئاً لا يريد فعله، ومعناه “أنا كافر بالله لو حدث ذلك الأمر”.

أكتبُ هذا وأنا أتذكّر عشية يومٍ مِن تلك الأيام التي تلت الإعلان عن “العهدة” الخامسة. كنتُ مارّاً بسوق شعبيّة صغيرة ناحيةَ “مستشفى مصطفى باشا”، في ساحة أوّل ماي، ولفت انتباهي حديثٌ بين عدد من الشبّان كان يدور حول قرار عبد العزيز بوتفليقة الترشُّح لولاية رئاسية خامسة. كان أحدُهم يتكلّم بملء فيه لكي يَسمعه أكبر عدد من الناس: “الأفضل أن ينبشوا أحد قبور العالية، ويأتوننا بجثّة لتحكمنا”.

فجاءه الردّ قاطعاً وحاسماً من أحد رفقائه: “بلا ربّي ما تفوت!”.

لم يمرّ قرار بوتفليقة ونجح “المغرَّر بهم” – بتعبير رئيس الأركان الراحل – في إجبار نظام الحكم على التخلُّص مِن الرئيس المريض. وطبقاً لقاعدة راسخة في جزائرنا الحبيبة، قاعدة “الرايح خير من الجاي”، فإنّنا لن نتفاجأ لو علمنا أنّ الشبّان الذين أقسموا ذلك القسم الغليظ ربّما يتأسّفون اليوم على ما بدر مِنهم أمس.

كان يُقال، دائماً، إنَّ السي عبد العزيز، والبعض يستعمل تعبير “السي العزيز”، لن يغادر الحكم إلّا محمولاً إلى “مقبرة العالية”. كان يُقال إنّه يتمنّى جنازة مثل تلك التي نُظّمت لبومدين، وقد كان يَعتبر نفسه، بشكلٍ ما، امتداداً له، لولا أن خاب أملُه في تلك الظروف التي نعلمها. إنّه أعاد بكيفية مِن الكيفيات قَسَم عثمان بن عفّان الشهير “والله لستُ نازعاً قميصاً قمّصنيه الله”، عندما ردّ على الثائرين عليه، المطالبين بتنحّيه، في ما تقوله المرويات الإسلامية، وتاريخُنا كلّه أقاصيص ومرويات .

لم يبتدع “السي العزيز” في كيفية خروجه من السلطة، وهو قبْلاً لم يبتدع في كيفية مجيئه إليها. لم يغادر رئيسٌ جزائري واحد السلطة باختياره ورغبته أو عند انقضاء ولايته، بمن فيهم اليامين زروال نفسه… ولم يأت رئيس جزائريٌّ منذ أحمد بن بلّة إلى السلطة بطريق غير طريق العسكر.

رحل “السي العزيز” مِن دون فخر ولا مجد، ولم يكن منتظَراً مِنه أن يورِث شعبه أدنى شعور بالفخر وبالمجد.

“بلا ربّي” ما تفوت!

كاتبٌ مِن مواليد مدينة العلمة في سطيف سنة 1951. عمل في عددٍ مِن الصُّحف الجزائرية؛ من بينها “الخبر الأسبوعي”. مِن إصداراته في الرواية: “ليلة احميدة العسكري” (1983)، و”عين الحجر” (1988).

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!
قصص قريبة