
بيانٌ لا مَنهجيٌ ضدّ العُنف المُمَنْهَج في فلسطين
هل لأن اليهوديّ قد عرف تشرّدا في التاريخ لا بدّ له من تشريد آخر، فكان لا بدّ من قتل الفلسطيني ليدرك الإسرائيلي المتَصَهْين أنّه حيٌّ وحي يُرزق ويُزْهِقُ. هل كان لا بدّ من التّنكيل بهذا الفلسطيني ليطمئن هو أنّه لم يَـعد مُنكّلاً به؟
* إشارة أولى من الزّعيم الحبيب بورقيبَة :
“محور المقاومة (…) يجب أن يكون بفلسطين في قلب المدُن وعبْر اُلْصّحْراء وفي قِـمَمِ الجِبَالِ ولا سبيلَ غيْر هذا إذا أردْنا توخّي الجِدّ في العَمَل والإخْلاص في القول (…) ولا يظننّ إخْواننا بفلسطين أن الأمر فَوق طاقتهم. فالعِبْرة ليسَت بالكَثْرة ولا بضخامة العُدّة التي بين أيديهم. العِبرة أوّلا وقبل كل شيء بروح المقاومة وبدوام المُضايقة (للمحتل)”.
■ ■ ■
* إشارة ثانية من رسالة يعقوب من “الإصحاح الأول”:
“رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ”.
■ ■ ■
* إشارة ثالثة من جدعون ليفي، وهو كاتب وصحافي إسرائيلي من دعاة السلام . ولد عام 1953 بتل أبيب ينقد بعنف وموضوعية الاحتلال الإسرائيلي، ويدعو إلى المقاطعة الاقتصادية للضغط على حكومة الاحتلال لتكفّ عن ممارساتها القمعية والإجرامية المفرطة في عنفها ضد الشعب الفلسطيني. يقول: “في الدولة اليهودية، لم يبق شيء من تعاليم الكتاب المقدس حيث ينبغي أن يكون المرء عادلاً مع الأقليات والغرباء. لم يبق من أولئك اليهود الذين تظاهروا مع مارتن لوثر أو أسروا مع نلسون مانديلا. الدولة اليهودية التي تود إسرائيل أن يعترف بها الفلسطينيون عليها أن تعترف بنفسها. في نهاية اليوم، وبعد أسبوع رهيب، يبدو أن دولة يهودية بات دولة عنصرية، قومية، خاصة باليهود وحدهم”.
* وكتب نيكوس كازيتزاكيس في ص 45 من كتابه “رحلة الى فلسطين”:
” قال الحاخام نَحْمَان ذات يوم: عندما تَخْطر بباليَ فكرة فإني أتركها تتفاعَلُ داخلي بقوة وبلا إرادة، ولكنّي حين أبدأ بقصّها على الآخرين فإنها تكُفّ عن كوْنها مجرّد فكرة وتتحوّل إلى أسْطورَة”.
■ ■ ■
يا للأسطورة. “ويلٌ لمدينة الدّماء” يقول الكتاب المقدس.
الأسطورة والتي – في أعمّ وأبْسط وأعْمق تَعريفاتها – إنما هي واقعة سرْديّةٌ..
” كلام مَنْطوقٌ.. حكاية مقدّسة يقوم بأدوار البطولة فيها الآلهة أو أنْصاف الآلهة”… تَتَطلّب ضِمْن ما تَتَطلب من جانب السّامعين لمضمون حكيها الحاسم والمصيري بالنسبة لحياة البشر في الكون، تتطلب التّوقير، الإيمان والطّاعة والتّسليم “ولا بدّ من ترجمة هذا “الإيمان” بطائفة من الطّقوس (كما الصّلوات والقرابين وأشكال الحجّ الحِكائي السّردي بطابعَه الملْحمي) والتيّ هي مُـمارسات وتَدابير وإجْراءات وفنون تكرارية تعلوا مُتساميّة على “الزّمن الدنيوي” في محسوسيّته اليوميّة وحَضيضيتِه مُعتبرة أن زَمنها الخاص هو: “أبو المواقيت كلّها وربّ الدُّهور”. هو زمَن “البَدء” و”بدء البدء” على رأي الرّوماني العظيم مِرْسيا إيلياد..
زمن “التأسيس الأصلي التّدْشيني” ومن لا يُؤمن بهذه الأسطورة.. فردا أو شَعبا أو حزبا أو حُزيبًا أو مُنتظما حَضاريّا فهو كائن عَرضي في الوجود. خَلقه “السيد الرّب” للعِبرة فيجب تعْذيبه وتشْريده وقتله “ليبْهتَ الذي كَفر” فَيُجَنّ جُنونه بِذهَاب عَقله قصْد الاعتبار لمن يكْفر فِكرا وخَيالا ومُـمَارسَةً بأسطورة “شعب الله المختار” مثلاً…
■ ■ ■
“ويل لمدينة الدّماء” يقول الكتاب المقدس. كما هو شأن الطُّغيانات الإسرائيليّة وفائض العنف القُرباني الذي تمارسه، باسم “الدفاع الشرعي عن النفس” هي خائفة من نفسها هذه الإسرائيل أصلاً… لأنها في لا وعيها الجُعرافي تدْرك شر إدراك أنها صنيعة “فابريكا” تاريخ إمبريالي ومَسْخٌ من مسوخ التّاريخ الحَضَاري.
قال الزعيم بورقيبة في القاهرة سنة 1964: “قضية فلسطين ليست فقط قضية بين عرب ويهود، وإنما هي قضية شعب افتكت بلاده من يديه بالقوة والاستبداد ليحلّ محلّه بها أناس نزحوا إليها من أصقاع مُتباينة ولا تربط بينهم إلاّ العصبيّة العُنصريّة والحميّة الدينية والاعتقاد الضّال بأنّ ما نزل باليهود من تشْتيت وتفرقَة يمكن جبْره بالقَهْـر وبسفْك الدّماء وتشريد الأبرياء.. ففلسطين قضية استعمارية”.
ثم يمضى الزعيم في شحذ عزيمة المقاومة قائلا: “محور المقاومة كما أكد الأخ الشقيري نفسه يجب أن يكون بفلسطين في قلب المدن وعبر الصحراء وفي قمم الجبال ولا سبيل غير هذا إذا أردنا توخي الجدّ في العمل والإخلاص في القول (…) ولا يظنن إخواننا بفلسطين أن الأمر فوق طاقتهم. فالعِبْرة ليست بالكثرة ولا بضخامة العُدّة التي بين أيديهم. العِبرة أوّلا وقبل كل شيء بروح المقاومة وبدوام المُضايقة. والعبرة أيضا بتدبير الأمور وتَصريف الحوادث”.
لا تستطيع إسرائيل أن تنَام غير “نومة الذئب” لأنها تعلم أنها ليست في بيتها
ما تكابد منه إسرائيل كما في كل حالة استعمار هو ما يمكن لي تسْميته “قلَق المكان” أو “ضيق التنفّس السّكني” ومرض الرّبو البيْتي أو “الرُّهاب الجغرافي”. تجربةُ الشّتات” و”التيه” و”المسْكنَة” إنما هي المحدد الرئيس للهوية الأساسية الإسرائيلية في صيغتها الإمبريالية فحتى وإن لمْلَمت شتَات
هواملها ومُزَقَ كينونتها وشِعَاث شَعْبها وأسّسَتْ هذه “الأسطورة” دولةً، ودولةً قويّة ونوويّة مُسلحة من تـَحْتِ تُحيْتِ إسْتها الى أسْنانها المسْتَعارة، تظلّ في ضلال تـيههَا تُلاحِقها صُورة ذاتها المُشتتة في مرآة حاضرها الـمَشْروخَة منذ أمْسها القريب والبعيد البعيد.
فإذا عرفتْ هذه “الذات العبرانية” تشرّدا في التاريخ فلا بدّ لها من تشريد تاريخي “لآخرها العَنيد”، فكان لا بدّ من قتل الفلسطيني، عيني عينك، ليدرك الإسرائيلي المتَصَهْين أنّه حيٌّ وحي يُرزق ويُزْهِقُ.
يُزهق الأرواح ويكسّر الأجنحة. أجنحة أطيار الحرية، حفاظا مَرضيّا على بُيوضِ غِربان شرّه الشّرِهِ الوَطْواطي لامتْصاص الدّم الحي السّاخن. لقد لوّثَ حقْده المسلّح دمَهُ، وحرّك لديه غريزة السلّخ حين فاضت ذاكرته النشيطة بالتّمارين الهتلرية ضده حين المحارق فأراد أن يثأر لجرحه النرجسي من الفلسطيني.. كما لو أن هتلر ظاهرة فلسطينية عربية.
لا بدّ من التّنكيل بهذا الفلسطيني ليطمئن هو أنّه لم يَـعد مُنكّلاً به. ولا بدّ من إذلال هذا الفلسطيني اليوم ليتحرّر هوّ ما أمكن التحرّر وهمياً من ذُلّه التاريخي وعاره الحضاري وعقْدةِ قتل الأنبياء و”إذلال الرّسل”.
لا تستطيع “إسرائيل الدّموية” أن تنَام حتى وهي في “بيتها” غير “نومة الذئب” لأنها تعلم أنها ليست في بيتها. وإن كان منْ حقّها التاريخي والإنساني أن يكون لها بيت تنام فيه “نومة العسل” فإن ذلك لن يكون على حساب الشهيد ومشروع الشهيد الفلسطيني.
لماذا لا نسرّع التّاريخ ونقتصد في الدّم البشري من الجهتين يا شباب العالم؟ أم أننا لا نسرّع من التّاريخ الحَضاري للأمم غير سرعة الفَتك والتقتيل بعد الشّدْخ والتّعذيب؟
■ ■ ■
“ويل لمدينة الدماء” يقول الكتاب المقدس…
من مفارقات التاريخ أن لا حضارة من الحضارات الكبرى تأسست دون اعتقاد في أسطورة ما من الأساطير. حتى العقل والتقدم والحرية والديمقراطية والثورة يمكن أن تُعَاش كمشتقات من “معتقد أسطوري جامع” وإلا استحالت جميعها إلى خُرافات، وهي وقائع سردية جزئية وعرضيّة قابلة للتشتيت والتفتيت والتّشرذُم، وإنْ هي تقوم بوظيفة استشفائية كما الأسطورة.
غير أن الأسطورة تشفي الجموع العَامّة في حين أن الخرافة لاتُشْفي غير زيدٍ أو عمرو. فإسرائيل اليوم تعيش على “الأسطورة” ومعظم “العرب” اليوم يعيشون على الخرافة (يا أم عمرو) وسلالتها من سُواس السّاسَة. وسؤال أسئلتي: هل ثمة من عنف وأنطروبوفاجية وأكل لللحم الآدمي أعنف من ذلك الذي يرتكب باسم “مقدس” ما من المقدسات؟
لماذا لا نسرّع التّاريخ ونقتصد في الدّم البشري من الجهتين يا شباب العالم؟
من المفاراقات الكبرى أن إسرائيل تدّعي “الديمقراطية”… كما أن أمريكا التي تريد أن تكون “ميتافيزيقا العالم”. الديمقراطية الحقّة لا تتطلب البُطولة ولا الأبطال (إلا في كرة القدم والسينما والمسرح والرياضات الجسمية والعقلية الأخرى) وإنما تتطلب الديمقراطية الحقيقيّة وحدة المعايير والمكاييل والموازين وحمل الأثقال الوطنية والكونية بالعدل والتوزيع العادل لمعاقبة الجريمة والكفاءة في تدبير الشأن العام، وهي أساسا كفنّ من فنون الحكم تأسس الديمقراطية على ما يمكن لي تسميته “الوعي بالحدود”: حدود الحقوق والواجبات. حدود الفرد التي يجب أن تقف إلزاميا عند حدود حُقوق الجماعة. ووقوف الجماعة عند حدود حقوق الفرد.
لا أبطال أسطوريين في زمن الديمقراطية كما لا رؤساء فائضين على شعوبهم في الزمن الديمقراطي. الديمقراطية تتنافى مع فكرة المنقذ الوحيد الأوحد – محليا وكونيا – والمرشد الأوحد، ولا دخل لاستحضار “الربوبية السياسية” إلا بالموعظة والكلمة الحسنة، من أجل تليين القلوب في تسيير الشؤون البشرية.
ولا معنى للفرقة الناجية في الأداء الديمقراطي كما لا معنى لمسألة الإيمان والكُفْران، كما لا معنى للحضارة القائدة والأنموذج الراشد والمرشد و”اللّحاق بركب الحضارة” في الحضارة الرقمية الجوالة خُرافة خاوية، والاعتقاد في الشّفافية المطلقة: عرقاً وديناً، وثقافة وأجناسا أدبية من أكبر المغالطات المنهجية في التفكير وبالتالي في التّدبير فتُدار مَعارك طاحنة بأفكار وأحكام قطعية زائفة بين “الإخوة” و”الإخوة” في غير أوانها وفي غير مَكانِها ولا معنى للعنف أصلاً إلا إذا كان “عنفا حقوقيا” يتّسم بكل مقومات الشرعيّة التي نصّت عليها كل الشرائع والمدونات القضائية في مقاومة الاستعمار والعُبوديّة الـمُقنّعة بأنْبل قيم التحرير والتّنوير.فهل من اقتصاد ممكن في تبذير العنف في العالم… أيها العالم؟
■ ■ ■
العنف الرجعي كما العنف الثوري لا ينتج إلا المنافقات والمنافقين، وتاريخ الملل والنحل الطويل، و”الحروب الدينية” أكبر دليل على ذلك وكذلك تاريخ تكوّن الدكتاتوريات وانحلالها.
الترببة وفق عقيدة العَدل والحريّة وكرامة الذات البشرية هي الدليل والـمِحْرار والبَوصلة لكل الإنسانية التائهة في السّديم الكوني. (كم قذفتْ الآن مَصانع الأسْلحة ومخابرها في العالم من أداة جريمةٍ منذ الكلمة الأولى التي كتبتُ من هذه الورقة ؟).
المطلوب من شباب العالم كل شباب العالم أن يراجع نقديا تاريخ حضارة شيوخهم، و” فقهاء الظلام” عندهم “إلجام عوام” العقل المسلّح في العالم لاجتثاث السّلاح وغلق ميادين الحروب أو على أقل تقدير التقليص من فُرص اندلاعها وانتشارها وإن كانت القيامة “الكتاستروفية” النووية آتية… لا ريب فيها قبل دوران عقارب القيامة الرّبانية.
كلما مطّط العلم الطبي والصيدلاني والغذائي والرياضي في أعمار البشر فأطالها زاد منسوب القتل الجماعي بفعل المعارك والحروب. لقد هُزم إنسان الفيلسوف الحالم جان جاك روسو ومن قبله إنسان الحكيم التكريتي العراقي يحيى بن عدي، ومن قبل قبله الإنسان السقراطي كما الإنسان التوراتي والإنسان الإنجيلي والإنسان القرآني، وانتصر إلى حين الإنسان-الذئب للإنجليزي طوماس هوبز وإن خاب تنّينُه ذلك الذي يُطلق عليْه تَسمية “الإله المائت” التسمية الشّعرية “للدولة”…
“المعركة تدور اليوم على صعيد الفكر” يقول الكبير إدغار موران. نعم ولكن حرب الخراب الكبرى الآن تدور في الواقع، في مَلْمُوسيتِه الحسيّة. تدور فِعلاً بأرض فلسطين الـمُحتلة.. فإذا كان ليس للفكر من وطن (كما الفلسفة والرّب والأطيار والرياح والجبال الأشجار والأمطار والفن …) فإن للفلسطينيين وطن يُنتزَعون منه قهراً وقتلاً وتشريدا باسم قداسة طاعون فكرة التفوق العرقي والكذب على “السيد الرب”، وأسطورة التفوّق و”ربّ التفوق”، وهل لديانة “العجل الذهبي” من ربّ غير “الذّهب”. أما مُحدثي النّعمة من الساسة العرب الراسخين في العَمَالة والعُمْه فتلك حكاية أخرى…
يحيا الوضوء بزيت الصّخر والحجر (البترول كما أطلق عليه أهل اليونان القدامى). لكن هل أن “التنابز بالألقاب” يحْسم المسألة. مَسألة الوُجود والحُدود بين الدول والمنتظمات الحضارية والأديان والشّعُوب؟ فمتى يتذكّر البشر كل البشر أنهم ليسوا آلهة ولا أنصاف آلهة ولا هُم من سُلالة الآلهة… وإنما هم كائنات رغبات جارفة جارحة ومتواليات من الثُّقب.
■ ■ ■
لا تختلف حيوانية الإنسان عن حيوانيّة الحيوان في شيء تقريبا.. غير أنّ الإنسان: إنسان الأسطورة والدين والخرافة حيوان مُسلح… يدّعي “حب الخالق” ويفتك شرّ فَتْكٍ بمخلوقاته باسم حبّه المقدّس لربه وربِّ أمّهِ وإخلاصه الخالص لذلك الخالق، فيعود المكبوت الديني النشيط للسياسة الاستعمارية الإستخرابية الدموية، ويتلاَعَبُ وقاحةً بكلّ المواثيق الدولية ذلك ما كان نبّه إليه بحذق بروميثيوس المصري الضرير طه حسين في جريدة “البلاغ ” من خلال مقال عنوانه “السياسة البالية” حين قال في 31 ماي 1945:
“كل شيء يدلّ على أننا لم نخطئ فيما كررنا منذ أخذنا في هذه الأحاديث، من أن الصلة بين الشرق والغرب يجب أن تقوم على المودّة الصّادقة والإخلاص الصحيح، وعلى تبادُل المنفعة المحقّقَة في جوّ من الاحترام الذي يعتمد على المساواة لا على التفّوق في القوّة أو الامتياز في البأس والسّلطان.
وقد كررنا أن قدْ آن للأوروبيين أن يُصارحوا أنفسهم بحقيقة لا معنى للشكِّ فيها، وأن يواجهوا هذه الحقيقة بقلوب سليمة ونيَّات حسنة وعزيمة صادقة. وهذه الحقيقة هي أن لغة المداورات والمناورات لم تَعُدْ تصلح للتحدّث إلى الشّرق، وأن الوعود التي تُبذل اليوم لتُسْتردَّ غدًا لم تَعُدْ تصلح لتعليل الشرقيين بالأمانيِّ والآمال؛ لأن الشرقيين سئموا تعليلهم بالأماني والآمال، وأصبحوا لا يقبلون إلَّا الحقائق الواقعة، والأعمال المنُجزة، والأقوال الصّادقة، والعُهود التي لا تتعرض للمراوغة، ولا تتعرّض للذّهاب مع الرّيح.
■ ■ ■
لا بد من الدفاع، ياشباب العالم، عن الكرامة البشرية بقطع النظر عن العقيدة والجنس والدّين واللون كقيمة شعرية، للإقامة في العالم وبأكثر رهافة ممكنة من الجمالية الحالمة.
أما الوعي النقدي بمخاطر العنف والإفراط فيه فهو ضرورة حضارية لئلا نتلهى جميعا نحن البشر “بالتكاثر” فنُحيل بأنانيتنا فاحشة القسْوة الحَواضر الحَضارية الكبرى (كما سوريا والعراق وفلسطين بالذات) الى مَخَابر للجريمة العالمية الـمُنظمّة، ومقابر جماعية، فنخرّب عشنا الجماعي الإيكولوجي والعاطفي فتتعطل عندنا جميعا شروط إمكان الحياة. ما الحياة لولا فسحة أمل شاردة رغم الألم المقيم بين اللحم والعظم وحين الحُلم…
تحرير فلسطين ليست مسألة إيمان وكفران، وإنما هي مسألة كرامة وحقوق إنسان ومنازلة شاملة لأعْـتى أشكال الاستعمار. تذكّــرت “نزيفا” قديما لشاعر عربي قديم قال:
“إذا اضَّرَبَتْ يومًا ففاضت دماؤها
تذكرت القُربى فَفاضَت دُموعها” .
إذا كان لا بدّ لكل الشعوب من “ديانة” و”أسطورة” لتلبي حاجاته المرئية و اللاّمرئية.. المادية والروحية والنفسية والعاطفية فليبني شباب العالم المتحفّز للحُب الغائب والعَدل المغدور والحرية الجريحة والسّلام الدّائم الـمُعّطل بين الشّعُوب والأمم فليبني الشباب “أسْطورته
الجديدة”: أسطورة الحرية والحكمة العادلة الموحّدة لشتات القيم النبيلة. من أجل غدٍ لا يقْتلُ فيه عند الحاضر الحضاري أحدٌ أحداً من أجْله ولا “ماض” مُقدس وهمي يُغْتاَلُ أحدٌ من الخلْق باسمه.
رحم الله كلّ الشهيدات والشّهداء والمجد كل المجد لجميع أشكال المقاومة. مقاومة الجهّل المسلّح والقُبح الأعمى والجُوع الفاضح وتشرد “الدّمْراويين” في العالم والذين همْ دون مقرّ رسمي مثلي..
تحرير فلسطين ليست مسألة سياسية فقط وإنما هي مسألة أخلاقية وجمالية تطرح “مأزق” وضع ومَقام فكرة العَدل والحرية في العالم أجمع: قيما وممارساتذ، إن محليّا أو كونيا…
عاشت فلسطين حُرّة بحرائرها وأحرارها.
عاشتْ فلسطين وردة الأحْرار والحرائر في العالم.
ما أشدّ حُزني حينَ هذا الحين سَلامٌ
وكتاب مقدمة ابن خلدون
ووردة من تونس الموجوعات والموجوعين لكل فلسطين الممانعة عالية الهمّة أرضاً وشعباَ وعْشباً وإن هو نَبَتَ بين “مفاصل صَخرة”…
حاشية: عُمر هذا النصّ تسعة أعوام، لكن كأنما كُتب اليوم وعن أحداث اليوم. فمازالت مأساة فلسطين ذاتها، وما تزال آلة التقتيل الصهيونية قائمة.

فيلسوف وشاعر تونسي وُلد عام 1953. من مؤلفاته: “كتاب الجراحات والمدارات”، “ما الفلسفة؟”، “الثقافة.. الجنسوية الثقافية”، “كتاب السلوان والمنجنيقات”، “حين لا صيدلية عاطفية”، و”بيان بغداد السقراطي”.