
برحيله يوم أمس، طوى تاريخُ كرة القدم صفحة أحد أبرز اللاعبين؛ البرازيلي بيليه (1940 – 2022). بل إنه اللاعب الأعظم بالنسبة إلى أبناء بلده، ويشاطرهم في ذلك كثيرون، ومن بينهم “الاتحاد الدولي لكرة القدم” (فيفا)، لكن شقّاً آخر من المتابِعين يميلون إلى لاعبين آخرين؛ مثل: مارادونا ودي ستيفانو ورونالدو وميسي. ولكلّ شقّ من المناصرين زاوية النظر التي ترجّح كفة هذا اللاعب أو ذاك.
يمكن أن نفهم إشكالية أفضل لاعب من حادثة استفتاء “لاعب القرن” الذي نظّمته “فيفا” عام 2000. حرصاً على جعل القرار أكثر ديمقراطية، اعتمدت “فيفا” على الاستفتاء الإلكتروني، وأسفرت العملية على اكتساح اللاعب الأرجنتيني مارادونا المعروف بانتقاده لمسيّري المنظَّمة الدولية المشرفة على كرة القدم. إزاء هذا الإحراج، قرّرَت هذه اعتمادَ استفتاء جديد يشارك فيه المختصّون، من صحافيين رياضيين ومسؤولين ومدرّبين، بحجّة أن معظم المشاركين في الاستفتاء الأوّل هُم من الشباب الذين لا يمكن لهم عقد مقارنة دقيقة بين مواهب القرن العشرين، وأسفر ذلك عن النتيجة المأمولة، وهو تتويج بيليه بلقب “لاعب القرن”.
هكذا حظي بيليه (إدسون أرانتيس دو ناسيمنتو) بمباركة رسمية جعلته ملكاً على كرة القدم العالمية. لكنّ هذا الموقع كان قد حصّله منذ عقود طويلة في بلده، وبمباركة رسمية أيضاً. فحين لمع نجمه نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي، كانت البرازيل تعيش عصر ما يُعرف بــ”الدولة الجديدة” الذي أطلقه انقلاب الرئيس جيتوليو فارغاس عام 1930، ومثّلَ صعود فئة سياسية تتحدّث باسم الطبقتين الوسطى والدنيا على حساب طبقة الأوليغارشيا من مالكي الأراضي والزراعات الكبرى كالسكّر والقهوة. لكنّ “الدولة الجديدة” قامت أساساً على خطاب شعبوي، نقف عليه مثلاً حين أُعلن في عام 1961 أنّ بيليه “كنز وطني لا يمكن تصديره”؛ وهو ما يفسّر بقاءه مع فريق سانتوس معظم مسيرته.
هو يلعب فقط ويحقّق الانتصارات، ليتنافس في استثمارها أباطرةُ السياسة
كان هذا النظام وراء الاستثمار في كرة القدم باعتبارها صناعة قومية، إذ كان من الضروري توفير مصعد اجتماعي يعمل أسرع من المصاعد التقليدية وأبرزها التعليم. تجلّى هذا الاستثمار في السعي لتنظيم كأس العالم 1950 وبناء أكبر ملعب في العالم، “ماراكانا” (200 ألف متفرج) لهذه المناسبة التي افترض كل البرازيليين أنها ستُفضي إلى تتويج منتخبهم بكأس العالم، غير أنّ هزيمة مفاجئة في المباراة النهائية ضد أوروغواي قلبت الحلم إلى كابوس.
كان عمر بيليه وقتها تسع سنوات. هو ابن ماسح أحذية يساعد والده ويلعب كرة القدم في أوقات الفراغ. حين شاهد دموع والده إثر خسارة كأس العالم، قال له: “سآتي لك ذات يوم بالكأس”، أو هكذا تقول الحكاية كي تؤثّث سردية الأسطورة، ولربما فعل الأمر ذاته عشرات الأطفال البرازيليين، لكنّنا لا نذكر إلّا حكاية بيليه لأنه بالفعل، في عمر 17 ذهب إلى السويد عام 1958، وحقّق مع المنتخب أوّل كأس عالم للبرازيل.
تُروى حكايات كؤوس العالم التي أحرزتها البرازيل وكأنها حكاية بيليه وحده، وقلما يشار إلى أنّ فتى الـسبعة عشر ربيعاً كان يقف خلف نجمِ المنتخب البرازيلي الأوّل وقتها، غارينشا، وفي كأس العالم الموالية في تشيلي 1962، أُصيب بيليه في بداية المسابقة وعوّضه زميله أماريلدو الذي قاد البرازيل للحفاظ على لقبه. وفي كأس العالم 1966 في إنكلترا، خرجت البرازيل من دور المجموعات بعد الهزيمة أمام البرتغال بقيادة اللاعب أوزيبيو ذي الأصول الأفريقية، مثل بيليه، والذي اعتُبر لفترة وجيزة الملك الجديد لكرة القدم.

بيليه وهو يتسلّم مفاتيح مدينة كينشاسا من موبوتو (1974)
لم يكن ممكناً التعويل على أسطرة بيليه لولا كأس العالم 1970، فتحْتَ أضواء شمس المكسيك سيشعّ بيليه عالمياً. سيُرفع على الأعناق ويرى الجميع بأمّ العين ما كان مجرّد سماع. لا أحد كان يصدّق الرقم الأسطوري المتمثّل في إحراز 1000 هدف حتى نقلت التلفزيونات الملوّنة مراوغات وتمريرات وتسديدات وأهداف بيليه وهو يجسّد جميع ألوان فنون كرة القدم كما أعاد اختراعها البرازيليون الذين تُوّجوا بالمونديال لثالث مرة واعترف لهم العالم بأنهم القوة العظمى في كرة القدم.
أتى هذا الاعتراف وقد انتقل البلد من حكم الشعبوية إلى الديكتاتورية العسكرية بداية من 1964. وكما خدمت نجوميةُ بيليه هذا خدمت تلك. لم يكن النجم البرازيلي يُعنى بما هو خارج حدود المستطيل الأخضر، وإن كان قد تحوّل إلى أيقونة في الثقافة الشعبية، لكنه لم يكن يدلي بدلوه في القضايا الاجتماعية أو السياسية. هو يلعب فقط ويحقّق الانتصارات، ليتنافس في استثمارها أباطرة السياسة.
صحيحٌ أنّ بيليه، لاعباً، لم يكن مسانداً لأي نظام بشكل مباشر، لكنه جعل نجوميته مثل صلصال طيّع في يد السياسيين. لكنه في التسعينيات قرّر أن يصبح أحد هؤلاء، إذ لم يقاوم عرض الرئيس فرناندو كاردوزو ليكون وزيراً للرياضة عام 1995. كانت البرازيل قد استعادت ديمقراطيتها في 1988، ولكنها دخلت مرحلة إصلاحات اقتصادية متسارعة تحت ضغط المنطق الرأسمالي عبر الخصخصة وتوجيهات النظام الدولي، ولم تكن كرة القدم بمنأى عن ذلك.
كثير من الملوك لم يكسبوا معارك ذات معنى، لأنّهم لم يخوضوها أصلاً
في تلك “المزرعة” التي بات بيليه مشرفاً عليها، دخلت البرازيل مرحلة التفريط المنظّم في المواهب الكروية نحو أوروبا. وفيما بدا الأمر محاولة لتنظيم هذا القطاع الاقتصادي، سرعان ما تحوّل إلى منصّة إدماج جديدة للبرازيل في النظام العالمي مع صعود سطوة وكلاء اللاعبين والمرور من علمية تنظيم هجرة إلى تجارة دولية تشهد عليها الأرقام الفلكية لعقود لاعبين؛ مثل” رونالدينو وكاكا ونيمار.
هل كان بيليه يعرف هذا الدور الذي أُنيط به، أم هو مرّةً أُخرى ضحية للتلاعب السياسي؟ من جهته قرّر ألا يجدّد عهدته بعد أربعة سنوات، لكن تجدّدت (وربما ستُجدَّد إلى ما لانهاية) لعبة الإيهام أنّ هناك مصعداً اجتماعياً يعمل لإنقاذ البرازيليين من الفقر، وما تضخيم هذا المصعد غير محاولة للإيحاء بأن كلّ حقوق المواطن البرازيلي تكمن فقط في الخدمات الصحية والتعليمية.
ليس هذا الالتقاء بين بيليه وتطوّر الرأسمالية بجديد، ففي نهاية مسيرته أتاه عرض ليلعب في نادي كوسموس الأميركي، أي في بلد لا يملك من ثقافة كرة القدم إلّا رغبة الرأسمالية في ابتلاع كلّ شيء وتحويله إلى دولارات. ربما جلبت نجومية بيليه، ولاعبين آخرين دخلوا التجربة، أنظار متابعي كرة القدم إلى بلاد العم سام، ولكن التجربة فشلت في تحقيق هدفها بتوطين كرة القدم في الولايات المتحدة، ولم يبدأ تحقيق ذلك إلّا حين نظّمت الأخيرةُ كأس العالم 1994، وقد اتخذت من بيليه أحد سفرائها.
منذ كان كان لاعباً، كلما دُعي بيليه إلا ولبّى. في 1967، استدعته أنظمة أفريقية في عز جبروت طغاتها فأتى مع فريقه سانتوس إلى أبيدجان وكنشاسا وداكار ليلعب كرة القدم ويُخرس صخب الجماهير وأنين المضطهدين إلى حين. وكلّما زار بلداً استقبله كبار قادتها، وكأنهم يعترفون به ملكاً، وهي مباركة أُخرى لا شك أنها غذّت هي الأُخرى أسطورته.
أغمض بيليه عينيه بعد أيام من تتويج ملك جديد لكرة القدم، فبعد فوز الأرجنتين بكأس العالم، حقّق ميسي كلّ الألقاب في مسيرته. ويبدو أن الملك الجديد سائر على خطى سلفه البرازيلي، ليكون تتويجاً داخل الخطوط المرسومة للمستطيل الأخضر. كثير من الملوك يحملون عدّة تيجان، ولكنهم لم يكسبوا معارك ذات معنى، لأنّهم لم يخوضوها أصلاً.

كاتبٌ مِن مواليد الجزائر عام 1995، يكتب القصّة القصيرة ويهتمُّ بالثقافة وبقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، يُقيم في فرنسا حيث يتابع دراسته في علوم الكمبيوتر وتقنية المعلومات.