
“بينالي الشارقة”.. عن الإرث المنسي للمجتمعات المهاجرة
تُضيء الأعمال المعروضة، ضمن فعاليات "بينالي الشارقة"، على الحقائق الاجتماعية والسياسية المرتبطة بالمجتمعات الأصلية في علاقتها مع الأرض والمناخ والتهجير، إضافة إلى قضايا الهوية والتراث والذاكرة والفقدان والعنف الممارَس ضدَّ المهاجرين والنازحين.
ثلاثةُ أعمال لثلاث فنّانات مُعاصرات تُعرض، حالياً، في مبنى “مصنع كلباء للثلج” و”ساحة المريجة” ضمن “بينالي الشارقة” الذي انطلقت فعاليات دورته الخامسة عشرة في السابع من فبراير/ شباط الجاري وتتواصل حتى الحادي عشر من يونيو/ حزيران المقبل، تحت شعار “التاريخ حاضراً”.
وحازت الفنّانات الثلاث، وهُنّ الكولومبية دوريس سالسيدو، والمغربية الفرنسية بشرى خليلي، والإيرانية هجرة وحيد، “جائزة البينالي” لهذا العام.
وإلى جانب أعمالهن، يحتضن المبنى أعمالاً لعدد من الفنّاني المشاركين في “البينالي”؛ وهُم: ريبيكا بيلمور، وإبراهيم مهاما، ودوريس سالسيدو، وعبد الرحيم سالم، وكاهورانجياريكي سميث، وإينوتيق ستورتش، وناري وارد، إضافةً إلى أعمال “نادي باك خواتين للرسم”.
تُضيء الأعمال المعروضة على الحقائق الاجتماعية والسياسية المرتبطة بالمجتمعات الأصلية في علاقتها مع الأرض والمناخ والتهجير، بالإضافة إلى الهوية والتراث والتقاليد الشعبية، وتتناول ثيمات الذاكرة والفقدان والعنف الممارَس ضدَّ المهاجرين والنازحين من مناطق متعدِّدة في جنوب العالم.
كما تتعامل الأعمال، التي تستخدم وسائط فنّية مختلفة، من تركيب ورسم ونحت وفوتوغرافيا وصوت وأداء، مع القضايا المتعلّقة بالعرق والفقر وثقافة الاستهلاك والتدهور البيئي، مستعينةً بالثراء الأرشيفي المحلّي لكلّ بلد، خصوصاً في مراحل الاستعمار وما بعده، راصدةً الآثار السلبية لتلك المراحل والجهود الجماعية لمقاومة الظلم.
فراغٌ عصيّ على الوصف
تَستخدم الفنانة الكولومبية دوريس سالسيدو (1958) أغراضاً عادية لإنجاز أعمالها؛ مثل الملابس والأثاث، لتُعيد إنتاج فراغٍ عصيّ على الوصف، يُخلّفه فقدان قريب أو حبيب، إلى جانب اعتمادها على ظروف نشأتها إبّان فترة الاضطرابات السياسية في كولومبيا، في محاولةٍ منها لمنح المكتومين والمستضعفين صوتاً يعبِّر عنهم.
في عملها التركيبي الحائز على “جائزة بينالي الشارقة” في دورته الحالية، والذي جاء بعنوان “مجتثّ” (2020 – 2022)، يظهر البحث المديد للفنّانة في أشكال العنف التي يتعرّض لها المهاجرون والنازحون واللاجئون ومعاناتهم الدائمة باعتبارهِم فائضاً سكانياً مهدّداً بالزوال في عالمٍ تتقلّص فيه الموارد الطبيعية، وتتزايد التجاوزات المتطرّفة ضدّ السكّان الأصليّين؛ إذ تصبح الهجرةُ القسرية شرطاً حتمياً للبقاء.

“مجتثّ” لـ دوريس سالسيدو
يتألف العمل من 804 شجرات ميتة منحوتة على شكل منزل متهالك وغير صالح للسكن، يعكس مظهراً خارجياً راديكالياً يُبرز الانتقال القسري للناس جرّاء التدمير البيئي الذي خلّفته الرأسمالية، كما تتلاعب الفنّانة في عملها بمواد عضوية لإنتاج قطعة فنّية ضخمة بنبرة تهكّمية، تنقلب من عمل صارخ إلى آخر مقلق، خامل، وعنيف.
أقلّياتٌ سياسية واجتماعية
توظّف الفنانة المغربية الفرنسية بشرى خليلي (1975)، الحائزة بدورها، جائزة البينالي، الفيديو والأعمال التركيبية والمطبوعات لتُعاين نضال مجتمعات السكّان الأصليّين والمهاجرين في سبيل نيل حقوهم، في تتبُّع لصدى هذا النضال في وقتنا الحاضر، وتُبرِز خطابات المقاومة كما ترويها الأقلّيات السياسية والاجتماعية المستقلّة التي أخفاها نموذج الدولة القومية.
أمَّا تأمّلاتها حول التاريخ وتحوّلاته، فتؤكّد على انغماس الحاضر في اليوتوبيا، وغياب الصوت الفردي الذي يعوّضه صوت جماعي جديد يتحلّى بالوعي السياسي.
في “ساحة المريجة”، تعرض الفنّانة عملها التركيبي متعدّد الوسائط: “الدائرة” (2023)، والذي يعرض الفصل الثاني من مشروع مستمرّ يتقصّى إرث حركة العمّال العرب في المهجر، وفرقتها المسرحية “العاصفة”.

“الدائرة” لبشرى خليلي
نشَطت الحركة في باريس بين 1972 و1978، وضمّت عمّالاً من شمال أفريقيا وطلّاباً فرنسيّين متضامنين مع قضيتهم، بهدف رفع الوعي حول الظروف المعيشية القاسية للمهاجرين في فرنسا عن طريق المنشورات والعروض الأدائية والتسجيلات الصوتية.
ويركز العمل على قصّة “كمال جلالي”؛ وهو اسم مستعار لعضو مجهول في المسرحية، شكّل ترشُّحه للانتخابات الرئاسية عام 1974 في فرنسا دعوةً لملايين العمّال غير المسجّلين والمحرومين من التصويت لتأدية دورهم كمواطنين فاعلين.
نداءٌ تضامُني
تتنوّع أعمال الفنّانة الإيرانية هَجرة وحيد (1980) بين التركيبي والتشكيلي وفنّ الفيديو، لنقل إشكاليات علاقة الأمن بشبكات السلطة الضاغطة على حياة الناس، في معاينة تغريبة المهاجرين المتضرّرين من الإرث الاستعماري وعنف الدولة.
وتتّسم ممارسات الفنانة بلغة بصرية ونهج شعري متفرّدين؛ إذ تصوغ من العادي والمألوف ما هو عميق ومشهدي، كما يظهر في عملها الحائز “جائزة بينالي الشارقة” في دورته الحالية، والذي يحمل عنوان “دندنة 2” (2023)، سعياً منها إلى استكشاف الدندنة بوصفها وسيلة لتأمّل الصيغ الراديكالية للجمعي في مقابل التمثيل الصوتي للفرد.

“دندنة 2” لهَجرة وحيد
تتحوّل الدندنة هنا إلى نداء تضامني واسع النطاق يستكشف الانتماءات العرقية والدينية واللغوية. وقد نُفّذ العمل التركيبي داخل غرفة صوتية مخروطية تستعرض سبع أغانٍ كانت مفصلية في الانتفاضات الشعبية التي قادتها النساء والحركات الاجتماعية الجماهيرية، وكذا النضالات المناهضة للاستعمار في الأميركيّتين وأفريقيا وآسيا.
ورغم القمع والحظر اللذين تعرّضَت لهما هذه الأغاني والأنماط الموسيقية، إلّا أنّها لا تزال محطّ تداوُل واسع بين النساء، ويتوارثنها جيلاً بعد آخر.
في مصنع الثلج
افتُتح مبنى “مصنع كلباء للثلج” خلال الدورة الحالية من “بينالي الشارقة”، بعد أن قامت “مؤسّسة الشارقة للفنون” بترميمه وتجديده وتحويل مرافقه إلى مساحات فنّية واجتماعية وقاعات للعرض تحتضن أعمال عدد من الفنّانين المشاركين في البينالي٫
بُني المصنع في السبعينيّات، قبل أن يُصبح موقعاً صناعياً مهجوراً في الأطراف الجنوبية للمدينة. استُخدم المبنى ذو الهيكل الخرساني الوحشي المحاط بسقف معدني مقوّس كطاحونة لأغذية الأسماك، ومستودعاً لتخزين الثلج. وأصبح المصنع ضمن مرافق “الشارقة للفنون” عام 2015؛ حيث استُخدم كأحد مواقع “بينالي الشارقة” في دروته الثانية عشرة، ثمّ خضع لأعمال تحديث بإشراف وتصميم “شركة أركيتكتوس 51-1” التي تتّخذ من مدينة ليما، عاصمة بيرو، مقرّاً لها، ليضمّ مساحات عرض، ومرافق سكنية مؤقّتة، ومطعماً على شكل خيمة، وممرّاً مظلّلاً.

“مصنع كلباء للثلج” في الشارقة، 2023
يقع المبنى – الذي يتوزّع على مساحة 20 ألف متر مربّع – جوار خور كلباء ومحمية أشجار القرم، في منطقة غنيّة بتنوّعها البيئي والحيوي في الشارقة، وعرفت عمليةُ تجديدهِ أقلّ حدّ ممكن من التدخّلات؛ حيث تُشكّل الإضاءة الطبيعية التي توفّرها نوافذ المبنى المرتفعة مساحة مثالية للأعمال التركيبية الكبيرة والعروض الأدائية، فيما يضمّ الهيكل المجاور له ستّ شقق ومساحة مجتمعية للعموم، أمّا المبنى المقابل، والذي تبلغ مساحته 200 متر مربع، فجرت إعادة توظيفه كورشة عمل للفنّانين.
ويأتي المشروع ضمن مشاريع أُخرى أطلقتها المؤسَّسة في السنوات الأخيرة للحفاظ على تراث البيئة المعمارية، وإنشاء مساحات تسمح بعرض الفن المعاصر والتقاء المجتمع المحلّي؛ إذ تشمل المشاريع السابقة، كلاً من: “مبنى الطبق الطائر” (2020)، و”الغرفة الماطرة” (2018)، و”استوديوهات الحمرية” (2017)، والمباني الفنية في ساحة المريجة (2013).

شاعر وصحافي جزائري، من مواليد 1979. بالإضافة إلى الكتابة الصحافية والمتابعات الأدبية والفنّية عبر عدد من الجرائد والمجلّات الثقافية الجزائرية والعربية، يشتغل بين الإذاعة والنشر والتحرير منذ 2007. صدرت له خمس مجموعات شعرية.