“بينالي الشارقة 16”.. أحمال الإنسان المرتحِل في عالم متغيّر
مجموعة من أعمال البينالي

“بينالي الشارقة 16”.. أحمال الإنسان المرتحِل في عالم متغيّر

تضم الدورة السادسة عشرة من بينالي الشارقة أكثر من 650 عملاً فنياً، من بينها 200 تكليفاً جديداً مخصصاً للعرض في مواقع مختلفة على امتداد إمارة الشارقة في الفترة الممتدة من السادس فبراير/ شباط الجاري وتتواصل حتى الخامس عشر من يونيو/ حزيران المقبل، تحت عنوان "رِحالُنا".

خالد بن صالح - الشارقة

“رِحالُنا” هي الثيمة الناظمة للنسخة الـ 16 من بينالي الشارقة 2025، والتي تُقدِّم من خلالها القيّمات الخمس أعمالاً لفنّانين جمعتهم صيَغُ تعاونٍ فنِّي، وتناغمٍ إبداعي وإن تفرَّد كلّ عملٍ بذاته؛ تُعرض عبر 17 موقعاً بكلّ من مدينة الشارقة ومنطقة الحمرية على الخليج العربي والذيد في المنطقة الوسطى وصولاً إلى كلباء على المحيط الهادي. وتسعى هذه الأعمال إلى تفكيك مركزية المعرفة والفكر، بمنحِ المتلقي منصّة متعدّدة الأصوات والتأويلات، ترسمُ خرائط ثقافية بصرية تعبِّر بعمقٍ عن عالمنا المعاصر والمتغيّر.

استهلال البيان التقييمي للبينالي "رِحالُنا"

استهلال البيان التقييمي للبينالي “رِحالُنا”

تشرف إذاً على هذه الدورة من البينالي خمسُ قيّماتٍ هُنّ: علياء سواستيكا، أمل خلف، ميغان تاماتي كيونيل، ناتاشا جينوالا، وزينب أوز؛ ركَّزن من خلال أعمال الفنانين المشاركين على استكشافِ أحمالِ الإنسان خلال رحلاته الحياتية، وكيف ينقل هذه الأحمال إلى العالم من حوله، عبر الترحال والتهجير والنفي واستعادة الأمكنة والمشاعر المضطربة التي تتواطأ مع المساحات التي ليست له أو لا ينتمي إليها، وكيف يتفاعل ثقافياً مع تلك الأمكنة خالقاً جسراً يربط بين أزمنةٍ متعدِّدة وقصصِ وصورِ الإرث الثقافي المتناقلة عبر الأجبال، مجترحاً أسئلة شائكة من قبيل: ما الذي نحمله عندما يحين وقت السفر، الهروب، أو الانتقال؟ ما هي المسارات التي نخوضها عندما ننتقل بين الأراضي وعبر الزمن؟ ماذا نحمل عندما نبقى؟ وماذا نحمل عندما ننجو؟

عملت القيّمات معاً، وكل واحدة بشكلٍ منفرد، لتطوير مشاريعهن بصفتهن حامِلات لأساليب متنوعة، ممّا أتاح لهنّ مساحة للاستماع والدعم المتبادل. وستبقى المنهجيات التقييمية المتنوعة بدءاً من الإقامات الفنية والورش والإنتاج الجماعي، وصولاً إلى الكتابة، والتجارب الصوتية، والمنشورات المصاحبة الشاملة؛ حاضرة باستمرار في أجواء البينالي، وستشجّع على إجراء حوارات نقدية مستمرة وبناء أشكال متطوّرة من السرديات بوجهات نظر وجغرافيات ولغات متعددة.

حور القاسمي، رئيس مؤسسة الشارقة للفنون، نوار القاسمي مدير مؤسسة الشارقة للفنون. (القيّمات من اليسار إلى اليمين) ناتاشا جينوالا، ميغان تاماتي كيونيل، زينب أوز، علياء سواستيكا، و أمل خلف. - تصویر معتز موعد.

حور القاسمي، رئيس مؤسسة الشارقة للفنون، نوار القاسمي مدير مؤسسة الشارقة للفنون. (القيّمات من اليسار إلى اليمين) ناتاشا جينوالا، ميغان تاماتي كيونيل، زينب أوز، علياء سواستيكا، و أمل خلف. – تصویر معتز موعد.

 

قضايا راهنة

في كلمتها الافتتاحية أبرزت الشيخة حور القاسمي، رئيس مؤسسة الشارقة للفنون، “أهمية المقاربة الفنية للبينالي في نسخته الجديدة، والتي تقدِّمُ صياغات بصرية وجمالية، تتصادى مع ما يحدث حولنا، متلمِّسة سبيلاً مغايراً ومبتكراً للتّعبير عن مواقفنا الجذرية والراسخة على الصعيد الإنساني والوجداني إزاءَ ما نعيشه ونعايشه من أحداث جسامٍ تشهدها المنطقة على مرأى من العالم كلّه”. مجدِّدة طرحها لأسئلة ثيمة هذه الدورة: “تُرى ما الذي تنطوي عليه رِحالُنا إذا ما تناءت بنا الدروب؟ وكيف يمكن لهذه الأحمالُ أن تؤسِّس لأمكنة جديدة عامرة بالذكريات والآمال؟ وهل يمكننا أن نستشرف من خلالها مستقبلنا؟”

وأضافت رئيس مؤسسة الشارقة للفنون: “إن تنوع المنهجيات التي جمعتها القيّمات الخمس يوفّر للجمهور فرصة التعمق في حوارات تحفّز النقاش الفكري، وتسعى إلى الربط بين السياق المحلي والسرديات العالمية التي تعالج قضايا مثل الهوية، الحركة، التغيير واستكشاف التجارب الجماعية المشتركة”.

 

مفاهيم جديدة ومتجذرة

في حوار قصير لـ رحبة كشف الفنان التشكيلي إسماعيل الرفاعي، مدير قسم الترجمة والمحتوى العربي بالمؤسسة، عن “مواجهة صعوبة صياغَة ثيمة ناظمة للبينالي جديدة ومُبتكَرة، تجمعُ أولاً أعمالاً بخلفيات ومرجعيات مختلفة للقيّمات المشرفات على المعارض والفعاليات، وثانياً من خلالِ الفنانين الذين جسّدوا هذه الرؤية (رِحالُنا) في أعمالهم التي تعكس هجراتِ وتغريباتِ الجماعات والأقليات عبر التاريخ، وفي الجذور الأولى لتجارب الشعوب والأمم العابرة للأزمنة والأمكنة، مع وجود نقاط تقاطع لها علاقة بالمنجز الإبداعي والجمالي ككل”.

وعن سؤال استناد الكثير من الفنانين في أعمالهم على تراث وذاكرة إمارة الشارقة ومكانها الجغرافي، أجاب الرفاعي، أن “هذه الأعمال وَجدت صيغةَ محاكاةٍ إبداعية تفاعلية مع المكان، كبنيان أو كروح تتماهى مع هذا الحيّز الجغرافي، ما يعكس ميزة البناء على مكوّنات الهوية والأصالة والصدى الثقافي والتاريخي للمدينة، والجمع بين التاريخ والمعاصرة ضمن سيرورة ومعاينة يومية لمنظومة كبيرة من المفاهيم التي لها علاقة بالمباني والبيوت والساحل والتجارة والتجوال وآبار المياه؛ تكلّلت بإنجاز 80 تكليفاً فنياً في تناغمٍ مع المكان واقتراح رؤى ومفاهيم فنية جديدة حوله”.

"من الأرض والسماء" لـ لورنا سيمبسون

“من الأرض والسماء” لـ لورنا سيمبسون

ما هي النواة المرجعية للأعمال الفنية التي تُصنَّف ما بعد حداثية؟ عن هذا السؤال أبرز المتحدّث أن “هذه الأعمال من تراكيب ولوحات تشكيلية وموسيقى وأفلام ونحت وفوتوغرافيا وصوت وأداء؛ كلُّها تنطلق من أصالة الوجود الإنساني وطريقة تفاعله مع العالم، وأن الكثير ممّا نعيشه اليوم فقد بوصلته تجاه القيَم والمعايير الإنسانية، وبالتالي أشكال التعبير الفني والإبداعي، هي ملاذ الإنسان المعاصر، وربّما الحصن الوحيد، في ظلّ العسف والقتل والتهجير اليومي. لذلك لم يكن سهلاً نحت مفردة (رِحالُنا) توائم هذه المرجعية، لأن الإنسان إذا انتقل من مكانٍ إلى آخر، لا يحمل معه فقط الأشياء المادية، إنما هناك أشياء غير مرئية لا تُعد ولا تُحصى من مخزونه الفكري وذكرياته ومشاعره وهي أحمالٌ أثقل ترافقه أينما حلّ وأينما أقام”.

أمام هذا التدفق الهائل واللانهائي للمفاهيم الطارئة والسطحية والعنيفة المنتشرة في العالم ولا تُقيم اعتباراً إلَّا للعابر والمستهلَك، كيف يقدِّم الفنانون أعمالاً مغايرة تعبّر عن ثقافة وقضايا شعوبهم الراهنة؟ يجيب إسماعيل الرفاعي: “ربما نون الجماعة الموجودة في كلمة (رِحالُنا) تحيلنا إلى المنطلقات الأولى لكلّ فنان، ربما كلّ قيِّمة طرحت سؤال الحياة الأول، كيف أنَّ الرموز والطلاسم والشعائر التي كانت تُتلى على مرِّ العصور، يعادُ لها الاعتبار الآن وجدانياً وفنياً، كيف تؤثّر الجدّات وحرفهن وحكاياتهن على صياغة مشروع فنّي متكامل، وطريقة رؤية مختلفة للعالم، هذه الثيمات راسخة وتشكل حيّزاً واسعاً ومتجدِّداً للإبداع الفني. أستطيع القول -بخبرة ربع قرن في العمل بالبينالي- أنني في كل دورةٍ أتعلم شيئاً جديداً، فأنت هنا أمام إرث كبير من الغناء القديم، وهذه الأصوات والتراتيل والطقوس تهزك بعمق، وتمضي بك في رحلاتٍ داخلية مترامية، من اكتشافات وحكايات وسرديات وأشعار. وهو ما تحاول أن تقدِّمَه الأعمال وعروض الأداء والأفلام الفنية ضمن منظومة متكاملة من برامج التعاون والطباعة والمِنح والتكليفات”.

في رحبة يهمنا أن نطرح سؤال التصنيف والمفاضلة بين الفنون وكيف يتعامل معها البينالي؟ وهو ما أجاب عليه الفنان التشكيلي إسماعيل الرفاعي، بأن “ما بين الصيغة الاستبدالية، أي فنون تحلّ مكان فنون أخرى، وما بين صيغة المؤازرة فإن البينالي يستند إلى هذه الأخيرة بحيث يجد الزائر نفسه أمام أطياف وأساليب تعبيرية متنوعة ومتعددة، لكنها تأتي ضمن فسيفساء متكاملة تجعل من العروض فرصة للتأمل وطرح الأسئلة. وربما هذا ما يفتح أمامه بوابة جديدة للاكتشاف والبحث ومقاربة جوانب غير مألوفة لديه”.

 

تجارب للتعبير عن التضامن والغضب

تعكس المشاريعُ التقييمية لبينالي الشارقة 16، مفهوم “حملِ التغيير”، وما يقدّمه من إمكانات تكنولوجية، اجتماعية، روحية أو طقسية. وفي لحظات التحول هذه، تُشكّلُ المشاريع مُجتمعةً فضاءً رحباً للتجارب والتعاون، حيث تُكتب قصصٌ مختلفة، لفهم الإخفاقات واللحظات المظلمة، وفسح المجال أمام إظهار اللطف والتعبير عن الغضب، وخلال تقديم الأعمال في جولة الأسبوع الافتتاحي للبينالي عبر مواقع العرض، اتفقت القيِّمات الخمس بأنّ “هذه المشاريع لا تنطلق من موضوعٍ واحد، بل تستند إلى تساؤلات مفتوحة، مثل: ما الذي يعنيه أن تحمل معك منزلك، تراث أجدادك، وتوجهاتك السياسية؟”، إذ تتلاقى هذه الروح الاستقصائية مع الأساليب الفنية التي تعتمد على سرد قصص التغيير والارتحال، والروابط بين الأجيال، والحزن والطقوس، واستراتيجيات التعليم التجريبية، والمعرفة بالتضاريس البرية والبحرية وغيرها.

"قصة نهر نيوزيلندي" لـ مايكل باركوهواي

“قصة نهر نيوزيلندي” لـ مايكل باركوهواي

وعليه، تمَّ تأطير البينالي كمساحة لفهم عدم اليقين الجماعي لدينا داخل مساحات غير مألوفة مع البقاء متجاوبين مع المواقع التي نسكنها أو ننتقل إليها. وهكذا جاء نهج القيِّمات، حيث تركز عليا سواستيكا على العمل الجماعي والتعاون، مستكشفةً كيف تشكل هياكل السلطة الذكريات، في تقاطع الشعر والسياسة. يؤكد عملها على أهمية معرفة المرأة والخبرة الروحية في تطوير الفهم البشري. أمّا أمل خلف فتستمد الإلهام من ممارسات العرافة وتأثير الأصداف في المجتمعات الساحلية، باستخدام القصص والأغاني والنبوءة والاستشعار كطقوس للتعلم الجماعي والحزن والتنظيم في أوقات الاضطرابات السياسية والبيئية. في حين تركز ميغان تاماتي كيونيل على وجهات نظر الأمم الأولى، وخاصة فيما يتعلق بالأرض والمكان. يبرز مشروعها عدم الثبات وقابلية الإخفاق والتوق البشري لتصور مستقبل جديد. من جهتها ناتاشا جينوالا استخدمت آبار المياه القديمة لاستكشاف موضوعات الذاكرة والأجداد، وصنع الحياة في الأماكن، والتجمع بين الأجيال، خاصة في مواجهة الدمار والخسارة. بينما تتناول زينب أوز التحولات المجتمعية والاقتصادية الناجمة عن التقدم التكنولوجي والعلمي السريع، وتفحص هذه التغييرات من خلال سياقاتها التاريخية.

شاعر وصحافي جزائري، من مواليد 1979. بالإضافة إلى الكتابة الصحافية والمتابعات الأدبية والفنّية عبر عدد من الجرائد والمجلّات الثقافية الجزائرية والعربية، يشتغل بين الإذاعة والنشر والتحرير منذ 2007. صدرت له خمس مجموعات شعرية.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة