تأتي الأشياء من تلقاء نفسها

شعر الطفل بالحزن قليلاً، حسنًا، ما يتوهم أنه حزن، حتى لا يزعج والدته، ولكنه لا يشعر بأي شيء. تجمّدت الأم في مكانها، أمام الجثة الصغيرة، بليك، ينفد صبره، سحبها من ذراعها "أمي، هيا بنا، لا فائدة من البقاء هنا، لقد مات، هيا نذهب سأتأخر عن كرة القدم".

تأتي الأشياء من تلقاء نفسها
هيرفيه لو تيليه، تصوير: أوليفيه ديون

نالت رواية L’anomalie (“الشذوذ” أو “النشاز”) للكاتب الفرنسي هيرفيه لو تيليه، نهاية شهر نوفمبر 2020، جائزة غونكور، أشهر جائزة أدبية فرنسية. جرت أجوال الاحتفال هذا العام في ظروف استثنائية في غياب الأضواء والطابع البروتوكولي المعتاد. 

الرواية الصادرة عن “غاليمار” هي الثامنة في رصيد هيرفيه لو تيليه (1957)، والذي درس الرياضيات قبل أن يتخصّص في اللسانيات إضافة لدخوله تجارب صحافية كثيرة. إضافة للرواية كتب أيضا في المسرح والقصة القصيرة، وقد كانت الأخيرة الجنس الأدبي الذي قدّمه للجمهور.

هنا ترجمة لمقطع من روايته المتوّجة بـ”الغونكور” مؤخرا:

الإقدام على قتل شخص ما، لا يقتضي منك شيئًا. يتعيّنُ عليك فقط أن تُلاحِظ، تُراقِب، تفكّر قليلاً. وفي اللحظة التي تحفر فيها الفراغ؛ أجل، تحفر الفراغ، يجب أن تتصرّف ليتقلّص الكون، يتقلّص حتى يُختزَل في فوّهة بندقية أو حدّ سكين. هذا كل شيء. لا تطرح على نفسك أسئلة، لا تدع أحدًا يُرشدك.عن طريق الغضب،اختر البروتوكول، تصرّف بطريقة منهجية.بليك يُحسِن هذا الصنيع، ومنذ فترة طويلة. لا يعرف متى بدأ يعرف ذلك لأوّل مرة؛ بعد ذلك تأتي الأشياء من تلقاء نفسها.

بليك يصنع حياته من موت الآخرين. من فضلك، لا داعي لدروسك الأخلاقية. إن أردنا مناقشة الأخلاق، فهو مستعدٌّ للإجابة، وعن طريق الإحصائيات. لأنه – وبليك يعتذر- عندما يقوم وزير صحّة بتخفيض ميزانية، بإزالة ماسح ضوئي هنا، وطبيب هناك، ووحدة للعناية المركّزة،سيُلغي وجود آلاف المجهولين. مسؤولٌ، غيرُ مذنب، وجهٌ معروف. أمّا بليك، العكس تمامًا. وعلى أيّ حال، ليس له أن يبرّر، فهو لا يكترث بالأمر.

القتل ليس ميلاً أو نزعة، إنه سلوك؛ حالة ذهنية إن شئت. بليك، يبلغ من العمر أحد عشر عامًا ولا يسمّى بليك. إنّه الآن بجانب أمه، داخل سيارة بيجو، وسط الطريق بالقرب من مدينة بوردو. لم تكن تقود السيارة بتلك السرعة الكبيرة، التي جعلتها تصدم كلبا كان يعبر الطريق، بالكاد شعرا بالصدمة، بدأت الأم تصرخ، كبحت فرامل السيارة بقوّة شديدة، انعرجت السيارة، وتوقف المحرك. “ابق في السيارة عزيزي، يا إلهي ابق في السيارة” بليك لم يطعها، سيتبع أمه.

إنه كلب من نوع كولي، رمادي اللون، الصدمة حطمت صدره، الدماء تسيل منه، لكنه لم يمت، إنه يئن، يبدو وكأنه أنين طفل. تركض الأم في كل الاتجاهات، مذعورة، وضعت يديها على عيني بليك، تتلعثم بكلمات غير مفهومة، تريد الاتصال بسيارة إسعاف.

“لكن يا أمي، إنه كلب، مجرد كلب”. كان الكلب يلهث على الإسفلت المتصدّع، جسده المنحني المكسور اتخذ زاوية غريبة، بدأت فرائصه ترتعش، إنه يحتضر أمام عيني بليك، وهو يشاهد بفضول، كيف تغادر الحياةُ الحيوان الجريح. لقد انتهى.

شعر الطفل بالحزن قليلاً، حسنًا، ما يتوهم أنه حزن، حتى لا يزعج والدته، ولكنه لا يشعر بأي شيء. تجمّدت الأم في مكانها، أمام الجثة الصغيرة، بليك، ينفد صبره، سحبها من ذراعها “أمي، هيا بنا، لا فائدة من البقاء هنا، لقد مات، هيا نذهب سأتأخر عن كرة القدم”.

القتل هو أيضا مهارة من المهارات؛ اكتشف بليك أن لديه كل ما يحتاجه عندما خرج مع عمه تشارلز للصيد. ثلاث طلقات، ثلاثة أرانب، موهبة حقيقية فعلاً. إنه يسدّد بسرعة وبدقّة، ويعرف كيف يتعامل مع أسوأ البنادق الفاسدة. تسحبه الفتيات نحو الحفلات الشعبية، مهلاً، من فضلك، أريد زرافة، أريد فيلاً، نعم، تفضل، مرة أخرى! سرعان ما يشرع في توزيع الدمى الناعمة، وألعاب الفيديو، ويصير مُرعبًا في ميادين الرماية، قبل أن يقرر القيام بذلك بحذر.

يحب بليك أيضًا ما يعلمه العم تشارلز من ذبح الغزلان وتقطيع الأرانب. دعونا نتفاهم مع بعضنا البعض قليلا: أبدًا لا يشعر بالسعادة وهو يقتل، أو يجهز على حيوان مصاب. إنه ليس منحرفًا. كلا، ما تبهجه الحركة الفنية، الروتين الخالي من العيوب الذي يبدأ مع قوّة التكرار.

يبلغ بليك من العمر عشرين عامًا، وتحت اسمه الفرنسي جدًا، ليبوسكي، فارساتي، أو مارتان، التحق بمدرسة فندقية في بلدة صغيرة تقع في جبال الألب. لم يكن اختيارًا مفروضا عليه، حذار، كان بإمكانه فعل أي شيء، كما أنه كان يحب الإلكترونيات والبرمجة، وكان موهوبًا في اللغات، خاصة اللغة الإنجليزية، ثلاثة أشهر من التربص في لندن، كانت كافية لكي يتحدث بها بطلاقة أو يكاد. لكن ما يفضله بليك قبل كل شيء هو: الطهي، كان يستغل لحظات الفراغ ليتفنّن في إعداد وصفة طبخ، كان الوقت يمرّ بمهل، حتى بين صخب المطبخ المحموم؛ ثوان طويلة من الهدوء، وهو يشاهد الزبدة تذوب في المقلاة، يقللّ من البصل الأبيض، يصنع منفوخا بالخبز. يحب بليك الروائح والتوابل،يحبّ ترتيب الألوان والنكهات على طبق. ربما كان الطالب الأكثر ذكاءً في المدرسة، لكن اللعنة، ليبوفسكي (أو فارساتي، أو مارتان)، لو كنت فقط لطيفًا قليلاً مع الزبائن، فلن يضرّك ذلك في شيء. إنها صنعة لخدمة، أجل خدمة، هل تسمع، ليبوسكي (أو فارساتي، أو مارتان)!

ذات مساءٍ، داخل حانة، أخبره رجل مخمور جدًا أنه يريد قتل شخص ما. لا شك أن سببًا وجيها حمله على ذلك، شيء يتعلق ربما بمنصب عمله، بامرأة ما، لكن بليك، لم يكترث للأمر.

– هل ستفعلها أنت من أجل المال؟

– أنت مجنون، يجيب بليك. مجنون تمامًا.

– سأدفع لك مبلغا معتبرًا.

المبلغ الذي اقترحه ثلاثة أصفار. ضحك بليك.

– لا، أنت تمزح؟

احتسى بليك شرابه بمهل، أخذ كل وقته. انهار الرجل على الحانة، قام بهزّه.

– اسمع، أعرف شخصًا يقوم بذلك، إذا كان الضعف.

لم ألتق به، غدًا سأخبرك كيف يمكن الالتقاء به، لكن قبل ذلك، يجب أن لا تكلمني عن الأمر إطلاقا، هل اتفقنا؟

في تلك الليلة، اختار اسم بليك. وليام بليك، (الشاعر الانجليزي) الذي قرأ أشعاره بعد أن شاهد فيلم “التنين الأحمر”، بطولة أنتوني هوبكنز؛ ولأنه أحب بيتا شعريا يقول: “وأنا أقفز نحو هذا العالم الخطير: عاجز، عاري الثياب، صائح، مثل شيطان مختبئ داخل سحابة”. ثم أن كلمة بليك، تعني أسود.

المستهدف كان رجلا في الخمسينيات من العمر، حصل بليك على صورته واسمه، لكنه قرر أن يناديه بـ كين. نعم، مثل زوج باربي. اختيار جيد: كين، هكذا لن يمنحه وجودًا تمامًا.

يعيش كين بمفرده، يبدو أمرا إيجابيا، حدّث بليك نفسه، ماذا لو كان رجلاً متزوّجًا ولديه ثلاثة أطفال، من الصعب خلق الفرصة. لا يترك لنا موت طبيعي مع هذه السنّ، سوى خيارات قليلة: حادث سيارة، تسرّب غاز، أزمة قلبية، حادثة سقوط… تخريب مكابح، العبث بقيادة، ليس لبليك دراية حقيقية بالأمر، ولا يعرف كيفية استخدام كلوريد البوتاسيوم لإحداث سكتة قلبية؛ والاختناق بالغاز، لا يشعر به هو أيضًا. فليتجه إذًا للإسقاط؛ هناك نحو عشرة آلاف حالة وفاة في السنة، معظمهم من كبار السن. عسى أن لا يكون كين رياضيًا، القتال معه غير وارد.

يعيش كين في شقة ذات غرف ثلاث، بالطابق الأول في مقصورة بالقرب من آنماس. هكذا قضى بليك ثلاثة أسابيع وهو يراقب ويضع الخطط.

كاتبٌ ومترجم جزائري، صدرت له مجموعة قصصية بعنوان “صوب البحر”. مِن ترجماته إلى العربية: “ياسمينة وقصص أُخرى” لإيزابيل إيبرهاردت، و”تاريخ الجنوب الغربي الجزائري” لخليفة بن عمارة، و”ديسمبر 1960 بوهران” لمحمد فريحة، و”صديقتي القيثارة” لصافية كتّو.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة