تحية إلى عبد الله العروي: في رعاية المفاهيم
أي ثقافة هذه التي لا تذكر أعلامها إلّا بأخبار الموت؟ أي ثقافة هذه التي تُقلق سكينة أهل الفكر والأدب في شيخوختهم؟ شئنا، هنا، أن نتذكّر العروي كما يليق به، أن نتذكّره مفكّراً ومؤّرخاً ومبدعاً. يستحقّ الرجل منّا أن نتذكّره من دون مناسبة.

لم تمض سوى بضعة أسابيع على انتشار إشاعة رحيل المفكّر والمؤرّخ المغربي عبد الله العروي (1933) حتى راج خبرٌ شبيه أوّل أمس. وبعد أن تزدحم مواقع التواصل بالناعِين، نجد موجة مضادة من التفنيد، تليها موجة أُخرى تتضمّن دعوات إلى التريّث في نقل هذا النوع من الأخبار. في السنوات القليلة الماضية، حدث الأمر ذاته مع أسماء ثقافية كثيرة، مثل مظفّر النوّاب ونوال السعداوي.
نرتاب فنقول إن وراء الأمر سرّاً، ولكننا ننظر حولنا فنرى حجم اللامعنى الذي يحيط بنا، فنعترف لأنفسنا بأن التتفيه الذي دنّس الحياة كلّها من الطبيعي أن يدنّس الموت أيضاً. لكن، يبقى السؤال وارداً: أي دلالة لهذا النوع من “الأخطاء الشائعة”؟
ألا يجدر بنا التفكير في منظومة تناقُل الأخبار في البيئة العربية اليوم؟ ما أسهل أن يستمع أحدهم إلى حكاية في أي مكان، أو أن يُفبركها، حتى تتحوّل إلى خبر منشور في مواقع إلكترونية، ومن ثمّ على صفحات التواصل الاجتماعي.
وأبعد من ذلك، علينا أن نلاحظ غياب مفكّر في حجم عبد الله العروي عن متداول الحياة الثقافية العربية، لينحصر حضوره في الفترة الأخيرة في شائعات رحيله.
أي ثقافة فقيرة هذه التي لا تذكر أعلامها إلّا بأخبار الموت؟
أي ثقافة جاحدة هذه التي تُقلق سكينة أهل الفكر والأدب في شيخوختهم؟
شئنا، هنا، أن نتذكّر العروي كما يليق به. أن نتذكّره مفكّراً ومؤّرخاً ومبدعاً، خارج الضجيج المُسقَط حوله. يستحقّ العروي منّا أن نتذكّره من دون مناسبة… أن نستحضر مشاريعه الفكرية الكبرى، وأن نلقي له تحيّة من القلب نعبّر له فيها عن امتنان القارئ العربي.
1- الصورة كما التقطها المفكّر
إذا نظرنا إلى قائمة مؤلّفاته، فقد بدأ عبد الله العروي مفكّراً، بغضّ النظر عن تكوينه الأكاديمي أو طموحاته المعرفية، فأوّل أعماله كتاب “الأيديولوجية العربية المعاصرة”، وقد صدر بالفرنسية أوّلاً في 1967. ربما نربط كتابة هذا العمل بأثر “نكسة 67” على المثقّفين العرب الذين عاصروها، وقد فتحت بالفعل الباب لموجة نقد ذاتي شاملة، لكن كتاب العروي ينطلق – كما يشير ضمن مقدّمته – من سياق آخر؛ إنه محاولة تحديد أين نحن، كعرب، في العالم، بعد مرور عقد على الأقل من الاستقلال.
يُحلّل صاحب “العرب والفكر التاريخي” الوضع العربي من منظورات عدّة تتحرّك على أرض الواقع. يقترح نموذجاً نظرياً يقرّب به الصورة، فيختزل التيارات الكبرى في ثلاث شخصيات مفهومية هي: الشيخ ورجل السياسة (الليبرالي) وداعية التقنية، وهؤلاء يتعايشون كما أنهم يمثّلون ثلاث مراحل من الوعي العربي، وثلاث مستويات من العلاقة مع الغرب.
من أبرز ما يلاحظه العروي في هذا الكتاب أنَّ تلقّي الفكر الغربي محكوم بعدّة عوائق، من ذلك أنه يلاحظ أن العرب حين أخذوا أرسطو، ورغم أنهم نقلوه بأمانة، فقد جعلوه على شاكلتهم، وذلك ما يحدث مع ماركس في الزمن الحديث، وهذا النوع من العلاقات يحجب المفكّرين ويمنع العرب من الاستفادة منهم. كما يرى في موضع آخر من عمله أنَّ الماركسية تمثّل الأيديولوجيا الغالبة عربياً على الرغم من كونها مضطهدة في كل البلدان.
يقدّم العروي في “الأيديولوجية العربية المعاصرة” أيضاً مشهداً شاملاً للمنتج الثقافي العربي في النصف الأول من القرن العشرين، من الفولكلور إلى الأدب، وهناك تتجلّى “الأيديولوجيا” التي يعيش بها العرب المعاصرون، أي تلك التزييفات (الضرورية) لتبرير واقعهم كما هو. بالنسبة للعروي يبدأ الحضور الحقيقي في العالم عند إنتاج وعي نقدي مقابل “الأيديولوجيا”.
ضمن الخانة الفكرية يمكن أن نضع أعمالاً أُخرى للعروي مثل “أزمة المثقّفين العرب” و”ثقافتنا في ضوء التاريخ” و”العرب والفكر التاريخي”. لكن المشروع الفكري سيتجّلى أيضاً في سلسلة أعمال تناول فيها المفاهيم التي يجدر بالثقافة العربية أن تعرفها بشكل جيّد وعميق وهي تتداولها.
2- سلسلة المفاهيم
إذا كانت المسيرة التأليفية للعروي قد بدأت في 1967، فإنها انحصرت في الكتابة بالفرنسية حتى 1981؛ حين صدر كتابُه “مفهوم الحرية”، وسيخصّص كل عقد الثمانينات لمشروع تأصيل أهم المفاهيم التي تتحرّك على خارطة الوعي العربي، فكان: “مفهوم الدولة”، و”مفهوم التاريخ”، و”مفهوم الإيديولوجيا”، و”مفهوم العقل”، ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة آخر مؤلّفاته “نقد المفاهيم” (2018) وإن أخذ هذا العمل بنية أُخرى حين راجع العروي مجموعة من الأفكار التي دارت حولها مؤلّفاتها السابقة.
نفهم “مشروع المفاهيم” حين نعرف الهدف منه. وقد كتب العروي في مقدّمة “مفهوم الحرية” بأنّ هدفه ليس التوصّل إلى “صفاء الذهن ودقّة التعبير فحسب، بل لأننا نعتقد بأنّ نجاعة العمل العربي مشروطة بتلك الدقة وذلك الصفاء”، وهو بذلك يعبّر عن عناية بالمفاهيم تفتقدها الثقافة العربية، ولعل فقدان هذا النوع من الحسّ المشترك أحد أسباب التأخُّر الحضاري.
في مجموعة الأعمال هذه، نقف على ملاحظات رشيقة كثيرة يلتقطها العروي مثل قوله بأن مفردة الحرية من أكثر كلمات المعجم حضوراً في الحياة العامة، من السياسة إلى اليومي، لكن دلالاتها غير مضبوطة وتستهلكها النزعة الشعاراتية ولا تقدّم مقولات الفلسفة عنها شيئاً ملموساً.
ويلفتنا في كتاب “مفهوم التاريخ” إلى أن “المؤرّخ المحترف يشمئزّ اشمئزاراً كلّما كُلّم في مسألة مفهوم التاريخ، ويقول: هذا من اختصاص الفلاسفة”. كما يلتقط في “مفهوم الدولة” أن “الدولة سابقة عن كل على التساؤلات حول الدولة”، ويأمل في “مفهوم الأيديولوجيا” أن نستعمل هذا المفهوم “في الحدود اللائقة به”، وفي آخر أعمال المشروع، “مفهوم العقل”، نقرأ ما يشبه جوامع الكلم وهو يقول: “يتأصّل عقل الفعل في نقض عقل الاسم”.
3- أكثر من تاريخ المغرب
وُضع “مجمل تاريخ المغرب” لقارئ أجنبي بما أنه قد صدر في فرنسا وبلسان روسو في 1970. يوحي ذلك بأنه عمل تعريفي يكتفي فيه العروي بمسح تاريخ بلاده. لكنّ الكتاب ينهض بعمل أكثر خطورة، إنه يحاول أن يمدّنا بمفاتيح الميكانزمات التي يمشي على إيقاعها تاريخ المغرب، وهو في الأثناء يجيب على قراءات تاريخية استشراقية للمنطقة دون أن ترتفع نبرة صوته.
لكن، عن أي مغرب يتحدّث؟ كمؤرّخ، يراعي العروي مصادره فيساير الإخباريّين في تصوّرهم عن المغرب، إنه مجال أقرب إلى ما نسميه اليوم بالمغرب العربي منه إلى المغرب الأقصى. بالتالي فإن العروي يؤرّخ لكتلة جيوسياسية مترابطة، فملامح تاريخ تونس والجزائر يمكن تبيّنها على الرغم من أنّ الكتاب يركّز على تعاقب الدول في فاس ومرّاكش وغيرها من عواصم المغرب.
من أبرز ما قدّمه العروي في هذا الكتاب تفسيره للتسلسل التاريخي للاستعمار الفرنسي لشمال أفريقيا حين يطرح تساؤلاً قلّما يجري الانتباه إليه: ما الذي جعل فرنسا تغزو الجزائر في 1830 ثم تنتظر نصف قرن كي تستعمر تونس، ومن ثمّ تنتقل إلى المغرب بعد بضعة عقود؟
يثبت العروي أن قراءة التاريخ من داخل الجغرافيا خطأ منهجي، حيث أنّ الإجابة عن هكذا سؤال تقتضي الخروج من إطار المغرب والذهاب لمعرفة واقع فرنسا العسكري والسياسي والاقتصادي. وحين يتتبّع المؤرّخ المغربي هذه الخيوط سيجد أن الدخول في مرحلة ضمّ استعماري جديدة لم يكن متاحاً إلّا بعد هضم “الفريسة” الأولى فالثانية. لو أن هذا الوعي بالآخر كان حاضراً عند نخب القرن التاسع عشر، هل كانت تونس والمغرب ستعرف مصير الجزائر؟
4- المتأمّل في التاريخ الصغير
في مدوّنته، لم يكتف العروي بالكتابة التاريخية والفكرية، بل إنه حمل نزعة تجريبية في الأشكال. كان يبدو وكأنه يضيق بالقنوات المكرّسة لنقل المعرفة في صيغة كتب تعتمد البناء المنهجي والحجاج فعبَر نحو الرواية والسيرة والمذكّرات.
من اليسير أن ننتبه إلى أنّ نفس المشاغل قد نقلها العروي إلى أجناس كتابة مختلفة؛ فـ”أوراق: سيرة إدريس الذهنية” هي في النهاية سيرة جيل منشغل بنفس منظومة القضايا التي نعرفها لدى العروي، لكن بمفردات جديدة؛ حيث ننتقل من مفاهيم الأيديولوجيا والعقل والتاريخ إلى معجم الوجدان والضمير والوطن والعاطفة.
سيلفتنا مثلاً أن العروي راكم في الرواية ما لم ينجزه بعض من كرّسوا لها كلّ مشوارهم؛ فكانت “اليتيم” و”الغربة” و”الآفة” و”الفريق”. لم يحظ هذا التراكم بكثير من التفاعُل، على عكس أعماله الفكرية على الأقلّ، وهو ما يسحب من هذه المجموعة من الأعمال توصيف المشروع.
لكن أهم ما تقدّمه هذه المؤلّفات المكتوبة ظاهراً خارج دائرة الفكر والتاريخ هو أنها ترسم سياقات دقيقة لأشهر أعماله، وتبقى يومياته “خواطر الصباح” أكثر الأعمال التي يمكن أن تلعب هذا الدور. إنها بشكل ما التاريخ الشخصي للمؤرّخ.
يبدو العروي في مثل هذه الكتابات وكأنه يأخذ قسطاً من الراحة حين يذهب إليها، فيلوذ بها من مشاريعه الكبيرة بآلياتها المفاهيمية الضخمة وضجيجها السجالي. لعلّه استفاد من المسافة التي تتيحها هذه الكتابات البسيطة من المسار الرئيسي. وفي كلّ هذه التجارب، لم يتخلّ العروي عن صرامة النقد – ضد الواقع وضد النفس – وعن جِدّية التماس المعرفة وحسن تركيبها في مشاريع.