تقلُّبات الصحافة الجزائرية في سنتَين
في مقابِل الأخبار الكاذبة وخطابات الكراهية، لم نقرأ ولم نسمع ولم نشاهد على وسائل الإعلام الجزائرية، طيلةَ سنتَين مِن الحَراك الشعبي، أيّ تحقيقٍ أو ريبورتاج أو بورتريه جادّ حول قضايا تناولَتها وسائلُ إعلامٍ أجنبية وأثارت ردود فعلٍ صاخبة في الجزائر.

“شعاراتٌ تُمجِّد وحدة الوطن وتُؤيِّد تلاحُم الشعب مع جيشه”… بهذه العبارات عنونَت “وكالةُ الأنباء الجزائرية”، يوم الإثنين الماضي، برقيةً مقتضَبة حول عودة المتظاهِرين إلى شوارع عددٍ مِن المُدن الجزائرية للمطالَبة بتغيير جذري للنظام، بالتزامُن مع الذكرى الثانية لانطلاق الحَراك الشعبي.
لم تُكن البرقيةُ خبراً عن المظاهرات بِقدر ما كانت تعليقاً عليها؛ إذْ لم تُخصِّص للحدث سوى بضع كلمات تجاهَلت المطالِب والشعارات التي رفعها المتظاهِرون وحوَّرَتها إلى “ترسيخ قيَم نوفمبر”، و”تمجيد وحدة الوطن” و”تأييد تلاحُم الشعب مع جيشه”، بينما أفردت فقراتٍ كاملةٍ للحديث عن “خروج بعض الأشخاص حامِلين ومُردِّدين بعض الشعارات المعادية للخطّ الوطني”، و”اكتشاف حيازة بعض الأشخاص لأسلحة محظورة”، قبل أن تنخرِط، بلُغةٍ خشبية، في القول بأنَّ الجزائر “مِن بين البلدان الرائدة التي عرفت كيف تُسيطر على تداعيات جائحة كورونا”، وبأنّها “بلد رائد في ضمان مستوى معيشي محترَم ولائق”.
تُذكِّر هذه المعالَجةُ بسلوك المنظومة الإعلامية الجزائرية التي ظلّت تُروّج، طيلة سنوات حُكم الرئيس السابق عبد بوتفليقة، لفكرة أنَّ الخروج إلى الشارع تُشكِّل تهديداً أمنياً على البلاد. وعند بدء الحَراك الشعبي في الثاني والعشرين مِن فبراير/ شباط 2019، عمدت إلى تجاهُله تماماً.
ورغم أنَّ المظاهرات انطلقت بعد صلاة الجمعة وجابت شوارع مُدُن عديدة وجرى تناقُل صوَرها عبر الشبكات الاجتماعية وعددٍ من وسائل الإعلام الأجنبية، فإنَّ الصحافة الجزائرية، في معظمها، لم ترَها إلّا بعد أن تلقّت إيعازاً في نهاية اليوم، ولم تبدأ بتغطية المظاهرات إلّا في الجمعة الثانية.
كلُّنا بوتفليقة
عند إعلان بوتفليقة، ترشُّحه لولاية رئاسية خامسة، عبر رسالةٍ منسوبة إليه في العاشر مِن فبراير/ شباط قبل سنتَين، كانت المؤسّسات الإعلامية تعملُ ضمن شعارٍ موحَّدٍ مضمونه “كلُّنا بوتفليقة”؛ فقد خصَّص التلفزيون الحكومي والفضائيات الخاصّة نشراتٍ عند الثالثة مِن بعد ظُهر ذلك اليوم لقراءة رسالة الترشُّح كاملةً، بينما أطلَّ السوادُ الأعظم مِن الصُّحف الحكومية والخاصّة، في اليوم التالي، بعناوين تدعمُ الترشُّح.
يُمكنُ الإشارة، هنا، إلى صحيفة “الشروق اليومي” التي خصّصت كامل صفحتها الأولى لإِعلان الترشُّح؛ حيثُ كتبت بالخطّ العريض على لسان بوتفليقة: “مِن أجلِكم نواصِل”. وقبل ذلك، في الثالث مِن الشهر نفسه، عنونَت على صفحتها الأولى بالخطّ العريض أيضاً: “بوتفليقة رجُل الإجماع”، مع عناوين فرعية مِن بينها: “خمسة دوافع تفرض خيار العهدة الخامسة”.

(صحيفة “الشروق اليومي”، عدد الثالث من فبراير 2019)
ولم يُخفِ المدير العام للصحيفة الراحل تأييده الشخصي وتأييد مجمعه الإعلامي لترشُّح بوتفليقة؛ إذ قال علي فوضيل في حوارٍ نشرته “الشروق اليومي” في الثالث عشر من الشهر نفسه (لا يتوفَّر العددُ في أرشيف موقع الصحيفة) إنّ مؤسّسته “اختارت” المرشَّح بوتفليقة، لأنّها لم تجِد مِن بين بقية المرشّحين من يُضاهيه، وهو كلامٌ يُظهِر وكأنَّ دور الإعلامُ هو الاختيار بين المرشَّحين لمساندةِ واحدٍ منهم.
أمّا صحيفة “الحياة”، فقد اختارت عنواناً أقلَّ مهنيةً وأكثر فجاجةً هو: “كلُّنا بوتفليقة”.
كان ثمّةَ بعضُ الاستثناءات؛ مثل صحيفة “ليبرتي” التي يملكها رجل الأعمال إسعد ربراب، والتي أرفقت عنواناً يتحدّث عن ترسيم الترشُّح بصورةٍ للرئيس المريض، وصحيفة “الوطن” التي وصفت الإعلان بـ”الترشُّح المخيف”.
مع ذلك، يبدو مِن الصعوبة بمكان فصلُ موقف الصحيفتَين عن الضغوط التي تعرّضتا لها منذ 2009، وعن ارتباطهما بشبكات سياسية واقتصادية متعارِضةٍ مع شبكات نظام بوتفليقة السياسية والاقتصادية.
بين شخصَين
مع بدء تغطية مظاهرات الحَراك، انتقلَت وسائل الإعلام مِن الدعاية لاستمرار بوتفليقة في الحُكم واختزال الدولة في شخصه وتشويه وتخوين كلّ منتقديه والتخويف مِن التغيير، إلى مغازلة الثورة الشعبية. غير أنَّ ذلك لم يستمرّ طويلاً؛ إذ سرعان ما عادت وسائل الإعلام إلى التعتيم على الحَراك وإقصاء الأصوات المعارِضة للسلطة القائمة، مع جرعاتٍ إضافية مِن الأخبار الكاذبة ومِن خطابات التخوين والكراهية.
ومثلما اختُزلت الدولة سابقاً في شخص بوتفليقة، برز توجُّه نحو اختزال مؤسّسة الجيش في شخص قائده الراحل، أحمد قايد صالح، مع إضفاء لمسةٍ مِن “القداسة” عليه.
هكذا، باتت الحقيقة هي الضحية الأولى؛ فطيلة سنتَين مِن عُمر الحَراك لم نقرأ ولم نسمع ولم نشاهد أيّ تحقيقٍ أو ريبورتاج أو بورتريه جادّ عن الفساد أو عن الحَراك الشعبي والفاعلين فيه، وهي، للمفارقة، المواضيع ذاتُها التي تناولَتها وسائلُ إعلامٍ أجنبية وأثارت ردود فعلٍ صاخبة في الجزائر.
عاد الإعلام إلى التعتيم على الحَراك مع جرعاتٍ إضافية مِن خطابات التخوين والكراهية
لم يزِد ما فعله الحَراك الشعبي على أنْ كشف حقيقة المنظومة الإعلامية التي لم تتحرَّك لمغازلة الشارع إلّا حين فعل قائد الأركان الراحلُ ذلك؛ حيث انقلبت بسُرعةٍ على شبكات نظام بوتفليقة – التي أنتجَت وموّلَت هذه المنظومة -، لتشرَع في حملات كراهية واسعةٍ ضدّ الرئيس السابق ومحيطه، ضاربةً بكلّ القيَم المهنية عرض الحائط.
وبالسرعة نفسها، انخرطَت تلك المنظومة في حملة تضليل وكراهية استهدفت، هذه المرّة، السياسيّين والناشطين الذين عارضوا توجُّه السلطة الفعلية إلى تنظيم انتخابات رئاسية في “أقرب الآجال”، والتي كان قايد صالح يُكرِّر في خطاباته بأنّها ستُمثِّل حلّاً لأزمة تسبّبت فيها “العصابة” التي حكمت البلاد. وبلغت تلك الحالةُ مداها مع اقتراب الانتخابات؛ حيث باتت حملات التشهير والكراهية تستهدف منطقةَ القبائل بوجه خاص.
مِن جهةٍ أُخرى، كانت بعض وسائل الإعلام المرتبطة بما تبقّى مِن شبكات الجنرال خالد نزار والفريق محمد مدين (توفيق) تُصرُّ على أنَّ الحلّ يكمن في مغادرة قايد صالح منصبه، وهو خطابٌ لم يلبث أن تراجَع مع اشتداد التضييق على الإعلام.
أمّا الإعلام العمومي، فقد انتقلَ، وبِسرعة فائقة من قراءة رسائل الرئيس السابق إلى نشر خطابات قائد الأركان وتخصيص صفحاتٍ وساعاتٍ لشرح خطاباته.
وهكذا، باتَ الإعلام، عند شريحةٍ واسعة مِن الجزائريات والجزائريّين، متَّهَماً بالتآمرُ ضدّ الشعب.
أخبار كاذبة
قبل ثمانيةٍ وأربعين ساعةً، مِن “استقالة” بوتفليقة في الثاني مِن إبريل/ نيسان 2019، بثّت كلُّ القنوات التلفزيونية الخاصّة خبراً مجهول المصدر مفادُه أنَّ الرئيس السابق دخل في غيبوبة، وهو الخبر الذي تصدَّر واجهات غالبية الصحف في اليوم التالي.
سيتبيَّن لاحقاً أنَّ الخبر عارٍ عن الصحّة، وربما كان نشرهُ مُندرجاً ضمن “حربٍ نفسية” تهدف إلى الدفع بقبول بأيِّ شيء للمرور إلى مرحلة ما بعد بوتفليقة، خصوصاً أنَّ حملةً إعلامية رافقته كان عنوانها “الشعب يُفوِّض الجيش”. وكان ذلك واحداً مِن أخبار كاذبة كثيرة جرى نشرُها في تلك المرحلة، بهدف استمرار فرض منظومة التعيين التي سبق أن عيّنت بوتفليقة قبل قرابة عشرين عاماً.
وبدا ذلك جزءاً مِن مسار فرضِ مرشَّحٍ بعينه في انتخابات الثاني عشر مِن كانون الأوّل/ ديسمبر 2019 التي دعا إليها قائد الأركان، وهي الانتخابات التي ستجري بمساندة جميع الأجهزة الحزبية التي ساندت عبد العزيز بوتفليقة منذ 1999، وستشهد عزوفاً شعبياً كبيراً تُؤكّده الأرقام الرسمية، كما ستُؤدّي إلى خروج مظاهراتٍ حاشدة تُندّد بالمسار المفروض والنتيجة التي أسفر عنها.
لكنّ وسائل الإعلام كانت مصرّةً على أنَّ “الجزائر تنتخب” وعلى أنَّ “الجزائر تنتصر”، وهُما الشعاران اللذان رفعتهما خلال الانتخابات وبعدها، في استمرارٍ واضح لممارسة الدعاية ونشر الأخبار الكاذبة.
ثمّةَ تجارُب قليلة ظلّت متمسّكةً بمهنيتها واستقلاليَتها رغم ما يُكلّفها ذلكِ من ثمن
اليوم، وبعد سنتَين مِن انطلاق الحَراك، لا تزال الاخبار الكاذبةُ منتشرةً بأشكال مختلفة عبر وسائل الإعلام التقليدية والشبكات الاجتماعية، ولا تزال المنظومة الإعلامية تعمل بالأدوات نفسها وضمن القوانين نفسِها. ويبدو الهدفُ مِن محاولات التضليل تلك تحويل الأنظار عن القضايا الحقيقية.
ضمن هذه المنظومة، يلعب ممارِسُ المهنةِ دور المخبِر، أو الشرطي، أو القاضي، أو المحامي، أو الملحق الإعلامي، أو العون الإشهاري، أو الدبلوماسي، أو الإمام، أو المناصِر، أو المناضِل، أو غيرها مِن الأدوار، لكنّه قليلاً ما يُؤدّي دوره كصحافي.
فضلاً عن ذلك، ثمّة خلطٌ واضح بين مفهومَي الدولة والسلطة، وبين الأشخاص والمؤسَّسات، وبين الأفكار وخطابات الكراهية، وبين الإعلام والدعاية، وبين الأخلاقيات المهنية والرقابة الذاتية.
وبالتأكيد، فإنَّ ثمّةَ استثناءات تتمثّل في بعض التجارُب الفردية التي ظلّت متمسّكةً بمهنيتها واستقلاليَتها، رغم ما يُكلّفها ذلكِ من ثمن.
ونتيجةً لهذا الواضع، بتنا أمام مشهدٍ تنتشر فيه الأخبار الكاذبة وخطابات الكراهية والعنصرية والجهوية والمساس بالكرامة الإنسانية، ويُساء فيه لقواعد مهنة الصحافة، ويُنتهَك حقُّ الجمهور في الإعلام. وما مِن شكٍّ في أنَّ هذا التراكُم يُنذِر بانهيار مصداقية وسائل الإعلام؛ بحيث قد لن يُصدّقها أحدٌ حتى وإن بثّت أو نشرت أخباراً صحيحة، وهو وضعٌ غير سويّ يدعو إلى التعجيل بتفكيك المنظومة الإعلامية التي ربما لن نبالِغ إن قلنا إنّها باتت تُشكِّل خطراً على الأمن القومي والنسيج الاجتماعي.

صحافي وأكاديمي جزائري، يُدرِّس في “كلية الإعلام والاتصال” بالجزائر العاصمة. مِن إصداراته: “الصحفي والمراسل الصحفي في الجزائر” (2009) و”الاتصال التقليدي في الجزائر” (2010)، كما شارك في كُتب جماعية مِثل: “الإعلام والتحوُّل الديمقراطي في المنطقة العربية (2017).