“تمهيدات”: نزع الأسطرة عن الجنس
(من مقدّمة الفيلم الوثائقي)

“تمهيدات”: نزع الأسطرة عن الجنس

تلقي المخرجة الفرنسية، جولي تالون، أسئلتها عن الجنس على مراهقين في معاهد فرنسا بين الرابعة عشرة والثانية والعشرين، فنتوقّع أن يتلعثم المتحدّثون أو تحمرّ وجوههم وهُم يجيبون عنها. لكن، وفي ما عدا استثناءات قليلة، تأتي الردود هادئة وواثقة، بل عالمةً وتفصيلية.

الثامنة عشرة هي السنّ التي اتّخذها المشرّعون، في معظم بلدان العالم، كحد أدنى للتعرّض إلى الحياة الجنسية، سواء في الواقع أو عبر الشاشات. هذه هي السن التي اختارت المخرجة الفرنسية جولي تالون (1973) التحرُّك بالقرب منها في فيلما الوثائقي “تمهيدات” (Préliminaires) لمعرفة كيف هو الجنس في تمثُّلات المراهقين اليوم، أي في بداية ثالث عقود القرن الحادي والعشرين. كيف يُمارَس في الواقع وفي الخيال، وكيف تدور العلاقات داخله، وأيَّ دور يلعبه في انتقال المراهقين إلى مراحل جديدة من أعمارهم؟ وكيف يديرون هذا العالم بعيداً عن وصاية الكبار؟

الشريط من إنتاج قناة “إي أر تي” الألمانية الفرنسية (العرض الأول كان في يونيو/ حزيران 2021)، يأتي ضمن سلسلة وثائقية بعنوان “وجهاً لوجه مع الحياة”. ولعلّنا نفهم من هذا العنوان الجامع أنّ وراء كلّ فيلم من السلسلة رغبةٌ في كشف مستور ما، ولا شكّ أن “تمهيدات” يذهب بهذه المقولة إلى أقصى غاياتها.

تقوم بنية الشريط (65 د) على الحوارات. تُلقي المخرجة أسئلتها (دون أن تظهر)، وتتلقّى ردود المشاركين من المراهقين والمراهقات (معظمهم بوجوه مكشوفة). أسئلة نتوقّع أن يتلعثم المتحدّثون وهم يجيبون عنها، أو أن تحمرّ وجوههم. لكن – وفي ما عدا استثناءات قليلة – تأتي الردود هادئةً وواثقة، بل عالمةً وتفصيلية. لكن الأهم من كلّ ذلك هو أنّ المراهقين كانوا يتحدّثون عن الجنس باعتباره موضوعاً ككلّ المواضيع، إنه موضوع مطروح للنقاش وكفى، يمكن تقديم شهادة شخصية إذا طُلب من أحدهم/ إحداهن، من دون أن يكون في ذلك إحراج من أي نوع.

يتحدّث المراهقون عن الجنس باعتباره موضوعاً مطروحاً للنقاش وكفى. لقد انتهت أسطورته إلى الأبد ربّما

هكذا تلفتنا تالون إلى التحوّل الرئيسي في علاقة الشباب بالجنس. لقد أصبح عادياً، وربما تافهاً. لقد انتهت أسطورته، بات مبتذلاً عبر الوصول السهل إلى المواقع الإباحية، وعبر شبكة مجهولة تتحرّك في شبكات التواصل الاجتماعي يؤثّثها أبناء ما قبل الثامنة عشرة بلغة مشفّرة، لها مفرداتها وتراكيبها واستعاراتها.

نهاية أسطورة الجنس تتجلّى، أيضاً، في أغلبيةٍ من المراهقين تعتبر دخول الحياة الجنسية مبكّراً أمراً في منتهى البساطة. يقول أحدهم مازحاً: “أن تقوم بالجنس أشبه بنيل شهادة الباكالوريا… لن تغادر المعهد قبل الحصول عليها”. كان من الواضح أنّ المخرجة تسطّر على ما لاحظته من غياب تلك الحمولة الذهنية التي عادةً ما ترافق كلّ حديث عن الجنس، يغيب ذلك التأثيم وذلك الخجل وتلك الرغبة في إخفاء كلّ ما يتعلّق بما هو حميمي وذاتي.

لكنّ الشريط الوثائقي لا يفتأ ينبّه إلى الوجه المظلم من هذا الواقع، حيث يُقدّم بعضَ الشهادات عن عمليات الابتزاز التي تطال كثيرين (بنات وفتياناً) بسبب عدم تسييج الحياة الحميمية. أكثر من فتاة، خلال الشريط، أشارت إلى أنّ صديقها سرّب صورها العارية، وبعضهنّ تحدّث عن تجربة أن تتعامل مع زملاء في الفصل سبق لهم جميعاً أن شاهدوهنّ عاريات بسبب مثل هذه التسريبات.

هنا يأخذ الفيلم بُعداً ديستوبياً، كما في أكثر من موضع. أن تكون العيّنات التي أخذَتها المخرجة عشوائية أو منتقاة بعناية، لا يُغيّر ذلك شيئاً من عدّة مقولات في الشريط. يمكننا أن نلتقط، ضمن حدس إحصائي، بأنّ مَن هم دون العشرين باتوا يعتبرون علاقة مثلية (ذكرية أو أنثوية) أمراً عادياً للغاية، وأكثر من ذلك يعرفون موقف الأجيال السابقة وأحكامها تجاه مثل هذه العلاقات، كما نجدهم يتحدّثون من دون حرج عن ميولاتهم وما استعاروه من مشاهداتهم للأفلام الجنسية.

 

تفتح المخرجة بعض القضايا المعقّدة (فكرياً)؛ من بينها النزعة الذكورية التي تحكم الخطاب الجنسي، لفظاً وممارسة. وسنجد من المراهقين والمراهقات المستجوَبين إجابات في غاية الرصانة، لا بل إنّهم يُرفقون تناولهم لمثل هذه الموضوعات باستعمالات دقيقة لمفاهيم النظريات الجندرية.

لم تكن جولي تالون تكتشف موضوعها في هذا الفيلم. كان من الواضح أنّها تعرف النتيجة التي ستصل إليها، وهي التي سبق أن أنجزت فيلماً سابقاً بعنوان “قُبلة مؤكّدة” (2000) صوّرت فيه حكايات القبلة الأولى عند الشباب. في قرابة عشرين عاماً تغيّرت أشياء كثيرة، كان شباب الوثائقي السابق أقرب إلى الحشمة والارتباك، وقد استعملت المخرجة تقنية الكلوز- آب (الصورة المقرّبة) لإخفاء معالم المشاركين، في حين أنّ المتحدّثين في “تمهيدات” ظهروا بوجوه مكشوفة في الغالب وبأريحية وطيب خاطر.

عادةً ما يُقال إنّ عشرين عاماً من عمر المجتمعات لا يعني الكثير، ولكن فيلم تالون يقول عكس ذلك. لقد تغيّر الكثير جدّاً خلال عقدَين. يُخبرنا الفيلم بأنّ علاقة من هم دون العشرين بالجنس مختلفة عمّا نعرف مع الأجيال السابقة جميعها، وحين تتغيّر العلاقة بالجنس، فإن علاقة الإنسان بالعالم تكون قد تغيّرت.

يقول الفيلم الوثائقيُّ ذلك في مجتمع يترك الباب مفتوحاً للحديث في كل المواضيع، ومنها الجنس، فماذا نقول عن مجتمعات لا تدري شيئاً عن تحوّلاتها العميقة؟ المجتمعاتَ العربية نعني، وهي التي تجيء في المراتب الأولى في نسب مشاهدة المحتوى البورنوغرافي، كما في قضايا الابتزاز بالصور العارية الطافحة على مواقع التواصل الاجتماعي.

كاتبة وناشطة مدنية من لبنان. من مواليد عام 1994. تقيم حالياً في كندا حيث تدرس العلوم السياسية.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!
قصص قريبة