جامعة الدول العربية… “قِمّة” الانفصال عن الواقع
قمة عربية سابقة

جامعة الدول العربية… “قِمّة” الانفصال عن الواقع

انتهت "قمة عربية" أخرى تاركة ذات الأثر السلبي، فحتى وهي تدين العدوان على غزة، لا أحد يتوقّع أن تحقّق من ذلك شيئاً. المعلومة التاريخية الجافة (أو لعلّها الساخرة) تقول إن الجامعة العربية هى أقدم منظمة دولية قامت في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية.

حين كان القادة العرب مجتمعين في الرياض، كانت آلة الحرب الإسرائيلية تتوغّل أكثر في الدم الفلسطيني. انتهت القمة ببيان ختاميّ أدان بوضوح “العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وجرائم الحرب والمجازر الهمجية الوحشية واللاإنسانية التي ترتكبها حكومة الاحتلال الاستعماري”. ربما تشفي المفردات صدور كثيرين لكننا نعرف أن السقف الذي لا يفكّر أحد في تخطّيه.

يحدّثنا تاريخ جامعة الدول العربية كيف تداولت على مواقع القرار في الوطن العربي أجيال من النخب العربية، كانت درجة وعيها ومقدار شجاعتها وتمكنها عوامل رئيسية في مصير المنطقة. تجاوز عمر جامعة الدول العربية نصف قرن، وحين نظرت في مرآة شعوبها وجدت في عيونها الخيبة، لقد باتوا ينظرون لها جميعا مثل طلل قديم يتحدث عن أمجاد ووعود ولا يقدم غير الخصومات وقلة الحيلة..

المعلومة التاريخية الجافة (أو لعلّها الساخرة) تقول إن جامعة الدول العربية هى أقدم منظمة دولية قامت في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد تكونت يوم 22 مارس 1945 أي قبل منظمة الأمم المتحدة بشهور وقبل انتهاء العالم من فصول الحرب الكبرى. تكونت في أول الأمر من سبع دول عربية (الدول التي كانت تتمتع بالاستقلال السياسى وقتذاك) هى: مصر- سوريا – شرق الأردن – لبنان – العراق – اليمن – المملكة العربية السعودية.

شيء من التاريخ

في سنة 1944، وبينما كان عدد قليل من الدول العربية يتلمس الاستقلال، مثل مصر والعراق وسوريا ولبنان، أخذت النخب السياسية تتطلع إلى تحقيق الحلم الذي يخامر كل أبناء الوطن العربي هو تحقيق الوحدة. ففي ذلك العام دعا رئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس باشا كلا من رئيس الوزراء السوري جميل مردم بك والرئيس اللبناني بشارة الخوري للتباحث معهما في القاهرة حول فكرة إقامة جامعة عربية لتوثيق التعاون بين البلدان العربية المُنضَمّة لها. وكانت هذه أول مرة تثار فيها فكرة الجامعة العربية بهذا الشكل من الحس العمليّ والوضوح، وهي الفكرة التي أثنى عليها حاكم الأردن في حينه الأمير عبد الله مما جعلها تتقدم نحو التنفيذ.

لكن مناخ اللحظة التاريخية، دس عددا من النوايا السيئة خلف هذه التطلعات الجيدة. ففي مصر كان الملك فاروق يتوق إلى الخلافة بعد أن بقي كرسيها شاغرا إثر انقلاب مصطفى أتاتورك عليها في تركيا. نفس هذا الحلم ولكن بوعي مختلف كان يخامر الأسرة الهاشمية، فأبناء الشريف حسين دخلوا لعبة الشطرنج بتحالفات دولية معلنة وسرية لكي يوطدوا أقدامهم في الملك ويحكموا المنطقة، ومن وراء ذلك يستعيدون الوصاية على البقاع المقدسة التي كانت الأسرة السعودية تبسط عليها حمايتها. وهكذا فإن حلم الوحدة كان يخفي طموحات لدى كل طرف حاول أن يخفيه لحين بعث هيكل “جامعة الدول العربية” والذي تصور كل طرف أن السيطرة عليه تعني السيطرة على العالم العربي.

ورغم أن النوايا تظل دفينة في الصدور، فإن الخلافات الصغيرة كانت تبدو مثل زلات لسان لها دلالاتها. فمنذ بزوغ الفكرة، اختلفت الدول المؤسسة في التسمية، اذ اقترح الوفد السوري تسمية “الاتحاد العربي”، واقترح الوفد العراقي تسمية “التحالف العربي”، إلا أن الوفد المصري قدم التسمية “الجامعة العربية” لما رأى منها من ملائمة من الناحية اللغوية والسياسية، وتوافقاً مع أهداف الدول العربية. ثم نقح الاسم ليصير “جامعة الدول العربية”.

شيء من الطموحات

على الورق، جامعة الدول العربية هي منظمة إقليمية تقوم على التعاون الإرادي بين الدول الأعضاء، ففي ديباجة الميثاق “الجامعة قد قامت تثبيتاً للعلاقات الوثيقة، والروابط العديدة بين الدول العربية، وحرصاً على دعم هذه الروابط، وتوطيدها على أساس احترام استقلال تلك الدول وسيادتها وتوجيهها لجهودها إلى ما فيه خير البلاد العربية قاطبة، وصلاح أحوالها، وتأمين مستقبلها، وتحقيق أمانيها وآمالها، واستجابة للرأي العام العربي فى جميع الأقطار العربية”.

المادة 8  تؤكد على “أن تحترم كل دولة من الدول المشتركة فى الجامعة نظام الحكم القائم فى دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدول، وتتعهد بألا تقوم بعمل يرمى إلى تغيير ذلك النظام فيها”، ومن اختصاصات الجامعة:- 1- صيانة استقلال الدول الأعضاء. 2- التعاون فى الشؤون الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والصحية، وغيرها. 3- النظر فى شئون البلاد العربية ومصالحها. 4- تحرير البلاد العربية غير المستقلة. 5- التعاون مع الهيئات الدولية لكفالة الأمن والسلام وتنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.

حتى لما جاء الربيع العربي صائحا ومزمجرا لم ينجح في إيقاظها

وأول وثيقة تخص الجامعة كانت بروتوكول الإسكندرية، والذى نص على المبادئ الآتية: 1- قيام جامعة الدول العربية من الدول العربية المستقلة التى تقبل الانضمام إليها، ويكون لها مجلس تمثل فيه الدول المشتركة على قدم المساواة. 2- مهمة مجلس الجامعة هى: مراعاة تنفيذ ما تبرمه الدول الأعضاء فيما بينها من اتفاقيات وعقد اجتماعات دورية لتوثيق الصلات بينها والتنسيق بين خططها السياسية تحقيقاً للتعاون فيما بينها وصيانة استقلالها وسيادتها من كل اعتداء بالوسائل السياسية الممكنة والنظر بصفة عامة فى شئون البلاد العربية. 3- قرارات المجلس ملزمة لمن يقبلها فيما عدا الأحوال التى يقع فيها خلاف بين دولتين من أعضاء الجامعة ويلجأ الطرفان إلى المجلس لفض النزاع بينهما. ففى هذه الأحوال تكون قرارات المجلس ملزمة ونافذة. 4- لا يجوز الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين من دول الجامعة كما لا يجوز إتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية أو أى دولة من دولها. 5- يجوز لكل دولة من الدول الأعضاء بالجامعة أن تعقد مع دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها اتفاقات خاصة لا تتعارض مع نصوص هذه الأحكام وروحها. 6- الاعتراف بسيادة واستقلال الدول المنظمة إلى الجامعة بحدودها القائمة فعلاً.

بعد ذلك تم عقد عدة اتفاقيات لتعميق وترسيخ التعاون العربى المشترك، منها: 1- اتفاقية تسهيل التبادل التجاري. 2- التعريفة الجمركية الموحدة. 3- إنشاء المؤسسة العربية للإنماء الاقتصادى. 4- اتفاقية الوحدة الاقتصادية. 5- اتفاقية الدفاع العربى المشترك.

ربّما أطلنا هنا ولكن ليس ذلك من أجل إرهاق القارئ وإنما كي نتيح له عقد المقارنات بين واقع جامعة الدول العربية وأهدافها. ففي صائفة 2013 مثلا، وبدل توفير حلول تمنع تدويل المسألة السورية، هرولت جامعة الدول العربية للموافقة على التدخل العسركي في الأرض السورية قبل الاتحاد الأوروبي وقبل حلف الناتو.

وكذلك تقرأ عن وحدة اقتصادية ونحن نعرف ما يدور من تضارب مصالح بين الدول العربية. وفي المحصلة، لا تستطيع هذه الجامعة سوى تكوين الهيئات واللجان ذات الأسماء الجميلة وذات المحتوى الفارغ.

شيء من السياقات

رغم الخلافات والخصومات والتي رأيناها في خلفية المشهد التأسيسي، فإن منظمة الجامعة العربية وضعت أقدامها بقوة في التاريخ العربي. أحبتها الشعوب وخاصة ذلك الجيل الذي آمن بها وحققها. وكانت سنوات تولي عبد الرحمان عزام للأمانة العامة (1945-1952) سنوات مضيئة للجامعة، ثم حملتها أكف القومية العربية التي انتصرت في مصر عبر تيارها الناصري. لكن الجامعة العربية، تلقت الصفعات تلو الأخرى مما سيفقدها توازنها تدريجيا، كانت معظم هذه صفعات في سياق دولي شرس وكذلك من جراء حسابات صغيرة وأنانية الدول الأعضاء وزعاماتها.

أولى الصفعات كانت نكبة 1948 بهزيمة الجيوش العربية في حرب فلسطين، والتي أفضت إلى تأسيس كيان الصهيوني مما قطع الطريق أمام أحد أهم عناصر الوحدة العربية وهو الامتداد الجغرافي. وليس خافياً أن الكيان الصهيوني سيعمل على تفتيت كل توجّه وحدويّ بما أن تحقيق الوحدة يعني ضمنياً زوال إسرائيل، وبذلك فإن صعود دولة الاحتلال كان يعني بالضرورة خفوت نجم الجامعة العربية.

لا ننسى أيضا أن الجامعة قامت في زمن بقي فيه عدد غير قليل من الدول العربية منقوصة الاستقلال أو أنها لا زالت تتهجى حروف السيادة الكاملة على ترابها. ولكن عند هذه النقطة كانت تدخلات الجامعة في الجانب الإيجابي أكثر، وخاصة في قضية الجزائر التي استمرت حتى الستينات من القرن الماضي وهو مازاد من شعبية الجامعة وتضاعفت الثقة فيها. لكن تطور المشهد الجيوسياسي الدولي زعزع كل شيء داخل البلاد العربية، فالطموحات الأمريكية المتقدمة في منطقة الشرق الأوسط، وانقسام العالم لمعسكرين كانا من العوامل التي هزت أسس الجامعة العربية، خاصة وأن العالم العربي وجد نفسه قد انقسم بين القوتين العظمى: أمريكا والاتحاد السوفياتي. فانبرى منشطرا وتجسد ذلك في القمم العربية والتي ستتحول إلى استعراضات خطابية وتصفية حسابات زعاماتية صغيرة.

الهيكل ظل مستمرا وقممه ظلت تمثل مهرجاناً سنوياً يحرص الجميع على تنظيمه

قلنا إن المنظمة استفادت من النزعة القومية التي حكمت مصر، غير أن صعود القومية انبنى أساسا على فكرة زعامة جمال عبد الناصر ولم تجد الوقت الكافي لكي تتجسد في مؤسسات، لذلك لم تستفد الجامعة العربية كثيرا على مستوى موقع القرار من المد القومي. ثم كانت وفاة جمال عبد الناصر الغامضة والمفاجئة صدمة أخرى تلقتها الجامعة.

مكانة عبد الناصر ستتحول إلى معركة عربية داخلية. ثم جاءت ضربة موجعة من مصر – التي اعتبرت قلب الأمة العربية – حين وقع الرئيس أنور السادات على اتفاقيات السلام مع إسرائيل واضعا الجامعة العربية على هامش التاريخ، مما جعل بقية الأعضاء تقصي مصر من شرف الأمانة العامة وانتقل مقر الجامعة العربية إلى تونس.

أما رصاصة الرحمة، فستطلق في بداية التسعينات حين قرر صدام حسين غزو الكويت، وبذلك نزعت كل خرقة عن عجز الجامعة العربية عن الفعل والتسوية، لتراها الشعوب العربية جسدا بلا روح. ثم حين ستنفتح الأرض العربية مرة أخرى على التدخل الأجنبي وبقوة الغزوة الأمريكية تحت غطاء حلف التحالف الدولي وفي سياق العولمة الوليدة لم تستطع الجامعة أن تمنع التدخل الأجنبي، بل إنها انخرطت في منظومة تبرير تهديم العراق.

رصاصة الرحمة التي قتلت الحلم العربي، قابلها مزيد الإيمان والتشبث بشكلية وجود الجامعة العربية. فالهيكل ظل مستمرا وقممه ظلت تمثل مهرجاناً سنوياً يحرص الجميع على تنظيمه. فما سر هذا التشبث؟

في الحقيقة، كادت “القمة” تنسينا بقية جبل الجليد الذي يمثّل معظم أدوار الجامعة، ففي أروقتها المسكونة بالشكليات والبروتوكولات والروتينيات هناك عشرات الاتفقيات والتسويات. لقد ظلت الأنظمة محتاجة لقرارات الجامعة العربية وخاصة لعدد من الاتفاقيات خاصة المتعلقة بالجوانب الأمنية التي كانت في الحقيقة تدعيما لمواقع الأنظمة في السلطة.

شيء من المقارنات والمفارقات

سبق أن أشرنا أن الجامعة العربية هي أقدم المؤسسات ذات الطابع الإقليمي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. لم تنفعها هذه الأسبقية في شيء، بل أنها تقبع في آخر التنظيمات من حيث الفاعلية الملموسة.

عادة ما تقوم الاتحادات الدولية على أساس الجغرافيا أو اللغة أو العرق أو الدين. ينعم العالم العربي بتقارب على مستوى كل هذه العناصر، كل هذا لم يشفع امام إرادة التخريب التي نخرته.

أقرب الأمثلة دلالة، هو الاتحاد الأوروبي وهي فكرة بدأت في الخمسينات، بين دولتين طالما تحاربتا هما ألمانيا وفرنسا وبلغتين مختلفتين. في غضون نصف قرن تحققت الوحدة الاقتصادية بين أكثر من عشرين دولة مختلفة الأعراق والألسن. وكلما سطع نجم الاتحاد الأوروبي، كأنما يقابله انطفاء في الجامعة العربية.

تقهقرت  المؤسسة العجوزة وأصبحت الاتحادات الفرعية المنبثقة تحت غطاء الجامعة العربية أكثر فاعلية، وأقرب لتصورات التكامل الإقليمي رغم أنها جميعا لازالت تعاني من إشكاليات الجدية والتفعيل مثل اتحاد دول المغرب العربي، ومجلس التعاون الخليجي.

في لحظتها هذه، تبدو المؤسسة تائهة، انقلبت بها الظروف والسياقات حتى أنها تحولت إلى هيكل يخنق أحلام الشعوب العربية. لقد انحصرت في دورها الديبلوماسي الخفيف، وترهلت تماما مختنقة بدهون البيروقراطية لتفقد بالتالي ارتباطها مع الواقع، وجاءت الاعتداءات على الإنسان العربي في أرضه لتكشف عجزها أكثر. حتى لما جاء الربيع العربي من الشوراع صائحا ومزمجرا أمام جدرانها السميكة لم ينجح في إيقاظها، ولا حتى القصف الإسرائيلي الذي دكّ قطاع غزة على ما يبدو…

أستاذ متقاعد. يهتم بالتاريخ والعلوم الجيوسياسية خصوصاً، وينفتح على جميع المعارف والأشكال التعبيرية لتغذية كتابة تستطيع أن تواجه العالم بالفهم المناسب.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة