جيلبار النقّاش: كيف نُهرّب تاريخ تونس
بينما حاول أغلب من بقي من رفاقه أخذ موقع في اللعبة السياسية بعد ثورة 2011، حرص الكاتب والسياسي اليساري، الذي تمرّ اليوم ذكرى رحيله الأُولى، على أخذ مسافة من السلطة، وظلّ يرفض كلَّ مصالحة مغشوشة بين الشعب التونسي ومن امتصّوا دماءه خلال عقود الاضطهاد.

في يناير/ كانون الثاني 1492، سقطَت غرناطة في يد الإسبان، وحزم أجداد جيلبار النقّاش (1939 – 2020) ما خفّ من أمتعتهم ليغادروا الأندلس مع المغادرين مِن عرب وأعاجم وصقالبة ومولَّدلين ويهود شقّوا طريقهم إلى المغرب الأقصى عن طريق مضيق جبل طارق.
ومِن إسبانيا إلى المغرب ثمّ الجزائر، واصلَت العائلة اليهودية ترحالها جيلاً بعد جيل طيلة أربعة قرون، ليستقرّ بها الأمر، مع نهاية القرن التاسع عشر، في تونس وقد وقعت تحت الاستعمار الفرنسي.
بين جدران بيت صغير في “شارع لُندرَه” (لندن كما يسمّيها التونسيّون) في تونس العاصمة، وُلد جوزيف جيلبار النقّاش. وكان لا يزال يتهجّى كلماته وخطواته الأولى في باحة المنزل حين رحل والده، الذي كان يعمل في مقهى بمدينة المرسى، إثر غارة جوّية أثناء الحرب العالمية الثانية سنة 1943. كان ذلك قبل عام واحد من خروج الطفل لاكتشاف العالَم والدراسة في “معهد كارنو”؛ حيث سيحصل على شهادة الباكالوريا في العام الذي ستوقّع فيه البلاد بروتوكول استقلالها الذاتي (سنة 1956).
في المدرسة، كان جيلبار تلميذاً مجتهداً، ساعدته قراءاته المتنوّعة على فهم فترة دقيقة من تاريخ تونس الحديث وهي تناضل ضد الاستعمار. لم يتجاوز الخامسة عشرة مِن عمره، حين شارك في أهمّ محطّات النضال الوطني، قبل أن يلتحق سنة 1954 بـ”الحزب الشيوعي التونسي”؛ النواِة الأولى للشيوعية في البلاد.
بينما كان الحبيب بورقيبة (1903 – 2000) يحاول تأطير المقاوَمة المسلّحة بيد، والتفاوض مع الفرنسيّين باليد الأُخرى، كان الشيوعيّون في تونس يخوضون نقاشاتهم الفكرية الأُولى ويطوّعون مفردات ماركس ولينين لحيثيات المسألة الوطنية، ومن ثَمّ أخذت النقاشات تتمحور حول قضيّتَين مع إحراز البلاد استقلالها: تتعلَّق الأُولى بمواجهة النظام الجديد المتشكِّل آنذاك مع انتخابات “المجلس الوطني التأسيسي”؛ خصوصاً بعد أن لاحقَ بورقيبة “الحزب الشيوعي” مخافةَ أنْ يترشّح عن طريقه أنصار خصمه السياسي صالح بن يوسف للانتخابات، والثاني مرتبطٌ بانقسامٍ ما هو إلّا انعكاس لاختلاف اليسار الفرنسي حول دعم استقلال الجزائر، من دون أن ننسى ما أنتجه صراع ستالين وتروتسكي من جدالات بين شيوعيّي العالم.
سرعان ما اكتشف أنّ الشعارات الاشتراكية التي رفعتها الدولة لم تكن سوى إعادة إنتاج لممارسات المعمِّرين
بعد حصوله على الباكالوريا، التحقَ النقّاش بـ”المعهد القومي للزراعة” في باريس، والذي تخرّج منه مهندساً زراعيّاً سنة 1961، ليعود إلى تونس ممتلئاً بأحلام الشباب والرغبة في أنْ يُسهم من موقعه في بناء الدولة الوطنية الحديثة في بلد يبدو في أمسّ الحاجة إلى خبراته؛ حيث أنّ خمسةً وثمانين في المئة من اقتصاده يقوم على الفلاحة.
غير أنّ تلك الأحلام لن تستمرّ إلى أبعد من الأسبوع الثاني من عمله في وزارة الفلاحة التونسية؛ حيث اكتشف أنّ كلّ الشعارات التي ترفعها الدولة في إطار تجربة “التعاضُد” ذات التوجّه الاشتراكي لم تكن، في حقيقة الأمر، سوى إعادة إنتاج للخيارات الفلاحية القديمة التي كان المعمِّرون ينتهجونها، ولكن بأيد تونسية هذه المرّة.
سيجد الشاب الحالِم نفسَه في “الثلّاجة” بمجرَّد أنْ يُعبِّر عن رأيه في السياسات الفلاحية “الجديدة”. والثلّاجةُ تعني، في النظام الإداري التونسي، مكتباً بارداً في آخر أروقة الإدارة تضع السُّلطةُ فيه كلَّ مَن ترى فيه مصدر إزعاجٍ لها، لتُبعده عن دوائر القرار. تَقدّم بطلب نقله إلى “مشروع التنمية الريفية المندمجة” الذي تُشرف عليه “منظّمة الأغذية والزراعة” (فاو) ليُشرف فيه على مجموعة من الدراسات الاقتصادية التي بقيت على رفوف الرجل القوي للنظام وقتها، أحمد بن صالح (وزير الاقتصاد والتربية ومكلّف بحقائب أُخرى)، والذي رفض لقاءه والاستماع إلى مقترحاته.
ما حدث مع النقاش يلتقي مع ما بدأ يتبلور لدى شريحة واسعة من شباب اليسار التونسي من إدراك بأنّ النظام غير قابل للإصلاح من الداخل، فالمُشكلة ليست اقتصادية أو تقنية بقدر ما هي مشكلةٌ سياسية. وكانَ ميلاد “حركة آفاق” (تجمُّع الدراسات والعمل الاشتراكي) سنة 1963 في باريس مُعبِّراً عن هذا الوعي اليساري الجديد الذي أخذ يتشكّل في تونس، خصوصاً بعد حظر “الحزب الشيوعي” وإعلان نظام الحزب الواحد عام 1962.
لم تكن “حركةُ آفاق” معارِضةً للنظام البورقيبي فحسب، بل كانت لها مواقف متحفِّظة مِن الأحزاب الشيوعية التقليدية والاتحاد السوفييتي الذي اعتبرَه بعضُ المنتمين إليها “إمبرياليةً اشتراكية”. كان من الطبيعي أن تصطدم هذه الرؤى مع نظام متصلّب، وفي 1967، قرّر أعضاء “آفاق” إعادةَ بناء الحركة والتوجُّه إلى العمل السرّي.

(جيلبار النقّاش في طابع بريد تونسي صدر في ديسمبر 2021)
في العام نفسه، اعتُقل النقّاش ليلتحق بحلقات التعذيب التي كانت تُدار في أقبية وزارة الداخلية، ويُحكَم عليه في سبتمبر/ أيلول 1968 بالسَّجن ستّة عشر عاماً بتهمتَي “تكوين وفاق سرّي”، و”العمل على الإطاحة بنظام الحُكم”. سيقضي سنتَين من العقوبة ثمّ يخرج في إطار “عفو رئاسي” بمناسبة عيد الاستقلال سنة 1970. لكنّه سُيحاكَم مرّةً أُخرى سنة 1972 ويصدر ضدّه حكمٌ بالسَّجن سنةً واحدة، قبل أن تجري العودة إلى اعتماد عقوبته الأصلية بعد تراجُع بورقيبة في أبريل/ نيسان 1973 عن العفو الذي أصدره بحقّه، وهي تقلُّبات عاد إليها بكثير من السخرية في روايته الشهادة “كريستال” التي صدرت بالفرنسية عام 1982.
لن يخرج النقّاش من السجن إلّا في الثالث مِن أغسطس/ آب 1979، بعد حصوله على إطلاق سراح مشروط إثر تدهُور حالته الصحّية بسبب التعذيب وإضرابات الجوع المتتالية.
وممّا يرويه في “كريستال” (التي كتبها في السجن على أغلفة علب السجائر التونسية الرخيصة التي تحمل هذا الاسم)، أنّ تجربة التعذيب لم تكن مفاجئة بالنسبة إليه، إلى درجة أنّه عندما مثل أمام حاكم التحقيق بعد تعذيبه، لم يُخبره بما تعرّض إليه من اضطهاد جسدي ونفسي إلّا في نهاية التحقيق حين ذكّره محاميه بذلك. وممّا يرويه أيضاً، أنّه وبينما كان معلَّقاً في سقف غرفة التعذيب، تذكّر جدّته وهي تسأله عن نتائج الدراسة وتعليق اسمه مع الناجحين: “علّقوك؟”.
في حصص التعذيب، كان النقّاش يُحاول أيضاً أنْ يفهم كيف يتحوّل الإنسان العادي إلى جلّاد يبتدع كلّ الأساليب الممكنة لإذلال أخيه الإنسان، بل إنّه وصل في بعض الأحيان إلى التعاطف مع بعض جلّاديه الذين كانوا يشعرون بالألم وهم يُعذّبونه “تطبيقاً للتعليمات”.
“تكلّم ولا تُعذِّبنا معك!” هكذا كان يقول الجلّاد وهُو يهوي بهراوته على جسده. وفي الليالي التي كان يسكر فيها “الكوميسار” المكلَّف بالإشراف على تعذيبه، لم تكُن أمنية النقّاش أن ينشغل هذا بسكرته أو بأغنية تشغل باله أو بفتاة تتملّك قلبه، فهذه أمور شبه مستحيلة، وإنّما كانت أمنيته ألّا يتعتعه السُّكر فيختار العصا الأكثر إيلاماً.
روى شهادته عن السجن في روايته “كريستال” التي كتبها على علب سجائر تونسية رخيصة تحمل هذا الاسم
بين “بيوت الصابون” (غرف التعذيب كما يُسمّيها السجناء) و”الديسّات” (الغرفة 17 في السجن المدني 9 أبريل)، عاش النقّاش تجربته السجنية التي حوَّلها إلى مادة ثقافية- نضالية في كتاباته لاحقاً، كما حوّل رفاقه إلى شخصيات أدبية، مثل محمد بن جنّات، ونور الدين بن خذر، ومحمد صالح فليس، ونوري بوزيد، وعمّار الزمزمي العربي، ومحمد الشريف الفرجاني، وفتحي بالحاج يحيى.
في 2009، عندما هدمت السلطات التونسية “السجن المدني 9 أفريل” لطمس آثار الانتهاكات الحقوقية التي وقعت فيه، بكى الكثير من نزلائه السابقين. كان ذلك الهدم محاولةً لمحو تاريخ وذاكرة. وقد قاومت الكتابة وحدها ذلك المحو.
يمكن القول إنّ جيلبار النقّاش الكاتبَ وُلد في سنوات الألفين. تراجعَت هالةُ “كريستال” وبدأت تظهر مؤلَّفات تكدّست في مكتبه من دون أن تجد من ينشرها. ظهرت “السماء فوق السقف: قصص وقصائد من السجن وخارجه” (2005)، و”ماذا فعلتَ بشبابك؟ مسيرة معارض للنظام البورقيبي” (2009). وبجهود صديقه الناشر محمد الأمين النصيري، رأت مؤلّفاته تلك النور عبر إصدارات “دار شامة”، وتُوّجت بوصول “كريستال” إلى العربية عام 2018.
وبينما حاول أغلبُ من بقي من رفاق سنوات الجمر أخذ موقع في اللعبة السياسية الجديدة بعد ثورة 2011، بدا جيلبار النقاش معزولاً، وحرص على أخذ مسافة من كل شيء، من السلطة ومن اليسار، من الماضي والحاضر. رفض كل مصالحة مغشوشة بين الشعب التونسي ومن امتصّوا دماءه طيلة عقود من الاضطهاد.
حفظت له هذه المواقف مكانة اعتبارية لدى الأجيال الجديدة، فظهر في أفلام وثائقية عدّة، ومنذ أيام صدر طابع بريدي يحمل صورته، كأنّما يوجد إجماع على أنه صاحب السردية الأكثر أمانةً عن منعرجات تونس الحديثة؛ فكما هرّب شهادته عن السجن في أوراق السجائر، هرّب روايته عن تونس عبر حدسه أين ينبغي أن يقف الانتماء السياسي.

شاعر ومُترجِم تونسي مِن مواليد 1994. صدر له في الشعر: “أرض التوليب والجلّنار”، و”حجرٌ يؤوّلُ ظلّه”، وفي النقد: “السيري وقلق الهوية الأجناسية في التأمّل الشعري”، وفي الترجمة من الفرنسية: “آموك، سُعار الحب” لستيفان زفايغ، و”الفراديس المصطنعة” لشارل بودلير.