حبيب عبد الربّ سروري: قلقٌ من تسطيح الروح البشرية
رواية ديستوبية تنطلق من فكرة تسطيح الروح البشرية بسبب هيمنة الآلة وسطوتها على الإنسان، هكذا يصف الروائي اليمني عملَه الأخير "جزيرة المطفّفين"، في هذا الحوار الذي يتحدّث فيه، أيضاً، عن الرياضيات، والذكاء الاصطناعي، والهجرة، وعن وطنه الأم...

كتبَ الشعر في سنّ مبكرة، ونشر أُولى قصائده في مجلّة “الحكمة” اليمنية، وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة. غادرَ اليمن سنة 1976 إلى فرنسا، حيث يقيم إلى اليوم، ليُكمل دراسته الجامعية، متتبِّعاً شغفه بالرياضيات التطبيقية، إلى أن حاز شهادة بروفيسور في علم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي. لكنّ نشأته في مدينة عدن، داخل أسرةٍ تهتم بالأدب، ستترك أثرها في كتاباته الفكرية التي يتداخل فيها الماضي والحاضر، الطفولة والمستقبل، المتعة والخوف، والوعي بالعالم ومتغّيراته.
عقب مشاركته في ندوة بعنوان “كتّاب المهجر: التحدّيات والصّعاب” ضمن “معرض الشارقة الدولي للكتاب” مؤخَّراً، وعلى هامش حفل توقيع روايته “جزيرة المطففين”، الصادرة حديثاً عن منشورات المتوسط بإيطاليا، كان لـ”رحبة” هذا اللقاء معه.
في روايتك الأخيرة “جزيرة المطفّفين” راهنيةٌ تتعلّق بمتغيّرات العالم، من خلالِ حيّ تلتقي فيه متناقضات عدّة، ونشعر بمخاوف تتعلّق بسطوة الذكاء الاصطناعي وانهيار القيم الإنسانية؟
هي رواية بانورامية، ترسم صورة للعقود القادمة من البشرية بشكلٍ مكتمل. العرب في غالبية الروايات الاستباقية غير موجودين، وهُم، بالنسبة إلى الغرب، خارج التاريخ. لذلك، حاولتُ أن أُموضعهم في العالم القادم، من خلال ديستوبيا تحذيرية لا تتعلّق بالتنبّؤ، وإنما تنطلق من فكرة تسطيح الروح البشرية، بسبب هيمنة الآلة وسطوتها على الإنسان. هذا خوفٌ قديم يتجدّد مع كل انتقال تكنولوجي جديد. بودلير، مثلاً، عبّر في منتصف القرن التاسع عشر عن مخاوفه من اختراع الكاميرا واعتبرها نهاية الحضارة، والأمثلة كثيرة. أمّا الآن، فالموضوع أعقد بكثير ممّا سبق، لأنّ تحالُف قوى المال والتكنولوجيا أصبح مهيمناً بشكل كامل على حياتنا.
تحالُف قوى المال والتكنولوجيا أصبح مهيمناً بشكل كامل على حياتنا
تأتي الرواية من هذا القلق، ومن سؤال: هل يمكن أن تعيش الميثولوجيا والتكنولوجيا في تناغم؟ صحيح أنه قلقٌ يتعلّق بانحرافات الذكاء الاصطناعي، لكن من الصعب أن تكتب رواية بانورامية من دون معالجة ما يحدث في الواقع من أوبئة ولجوء وحروب وصراعات. والسياق الحالي، بمختلف متغيّراته، يحتاج إلى أدوات معرفية وفنية مختلفة وأكثر من رؤية واحدة لفهم هذه الظواهر والانحرافات.
هي، إذن، بشكلٍ ما إحدى روايات “نهاية العالم”، مصاغة بطريقة لا تغفل الواقع، مع وجود العرب في عمق مأساتها؟
لي رواية استباقية هي “حفيد سندباد” (2016). لكنّ نهايتها كانت أقلّ ديستوبية، حيث تخلص إلى نوع من التناغم، الذي تحدّثتُ عنه، بين الميثولوجيا والتكنولوجيا. أمّا “جزيرة المطفّفين” فنهايتها ديستوبية بامتياز، بما يوضّح الخطر الحقيقي للتكنولوجيا على الحياة البشرية. بحكم أيضاً أنّ العالم خلال السنوات العشر الأخيرة تغيّر، والذكاء الاصطناعي منذ 2016 دخل مرحلة جديدة، واستطاعت الآلة أن تهزم الإنسان في الكثير من الحالات.
هل كلما زاد تحالف قوى المال والتكنولوجيا تراجعت القيم الإنسانية، كما نرى اليوم من قضايا اللجوء والعنصرية والحروب والصراعات المتنامية؟
هذا فعلاً في قلب ما يحدث. اليمين المتطرّف يتوسّع ويتقوّى بشكلٍ كبير في أوروبا وغيرها من القارّات. والقيم الإنسانية في تشظٍّ دائم. والعجيب أنّه، ورغم توحُّد العالم مالياً وتكنولوجياً مع ثورة الاتصالات والمعلومات، تزداد الحدود وطأةً، وتكبر الموانع يوماً بعد يوم. وقد فاقم انتشار جائحة كوفيد 19، خلال السنتين الماضيتين، تلك الأزمة، ودخلنا فترة قاتمة. “جزيرة المطفّفين” هي ابنة هذه الفترة.
كأنك تصيغ، هنا، دياليكتيكاً خاصاً بالرواية؟
تماماً، لأنّني أرى أنّ هذه الديستوبيا الموجودة في الرواية مبرَّرة؛ فالعالَم موحَّد في مدينة اسمها “الأطلس” تنمحي فيها حدود الاتصالات والتبادلات المالية، في مقابل التشظّي والتشتّت الموجود بين الحي “أ” والحي “ي”. وهو ما يعكس هذه المفارقة. هناك دائماً فعلٌ وردّة فعل على الأشياء التي تحدث من حولنا، وهذا جزء من الطبيعة الإنسانية.
بين الأدب والذكاء الاصطناعي كيف تحقّقت المعادلة لدى الكاتب حبيب عبد الرّب سروري؟
هذا الأمر ارتبط ببيئة الولادة، فأنا من عائلة أدبية، نشرتُ أُولى قصائدي وأنا بعمر الرابعة عشرة في أهمّ مجلّة يمنية آنذاك، واسمها “الحكمة”. وهذا فجّر في العائلة فرحاً أسطورياً لا يزال أثره بداخلي إلى الآن. كنتُ أعشق الكلمة والشعر، وحفظتُ قصائد عديدة من مدوّنة الشعر العربي القديم، تلك الأبيات، والتي أستطيع وصفها بالأرقام الخيالية، ما زالت تتجوّل إلى اليوم في ذاكرتي. في المقابل أحببتُ الرياضيات بشكل طبيعي ومن دون تدخّل أيّ أحد. أذكر أنّني، في سنوات الدراسة المبكرة في اليمن، كنتُ أملك دفتراً كتبتُ فيه براهين جديدة لم تكن موجودة في المقرّر الدراسي. كنت أعتبر ذلك أمراً عادياً، لكنّ مدرّسي العراقي القادم من أميركا ذُهل وتنبّأ لي بمستقبل كبير. هكذا كانت المسألة متوازيةً بين حبّ الأدب بجذوره العائلية، وحبّ الرياضيات الذاتي.
رغم ثورة الاتصالات والمعلومات، تزداد الحدود وطأة وتكبر الموانع يوماً بعد يوم
لمّا وصلتُ إلى فرنسا، تطلَّب الأمر ردم تلك الهوّة في فارق المستوى التعليمي. وهنا كان حبّي للرياضيات أقوى، ومثّل لي تحدياً في الوصول إلى أعلى الدرجات. كنت، أثناء الدراسة الجامعية، أكتب أنصاف قصائد من دون نشر، لكن أقرأ كثيراً. حين نلتُ درجة البروفيسور الجامعي سنة 1992، كانت قد تراكمت لديّ الكثير من المسوّدات غير المكتملة، والتي – وإن ظلّت مجرّد مسوّدات – جعلتني أؤمن بكوني كاتباً منذ البداية. استطعتُ بعدها ترتيب أوقاتي، وبدأت في الكتابة بشكل منتظم بالتوازي مع التدريس، فقد كان من الصعب ممارسة شغفين في الوقت نفسه أثناء الدراسة.
الرياضيات، في كلّ الأحوال، ليست بعيدة عن الأدب والكتابة. ما رأيك؟
بالفعل، الرياضيات لغة. الأدب لغة. ولغات الكمبيوتر كذلك. تتقاطع هذه اللغات فيما بينها، خاصّة لغات الذكاء الاصطناعي التي تبحث عن كيفية جعل ما هو موجود في الدماغ يُقال بأفضل طريقة ممكنة، ودون تكلّف، عكس اللغات القديمة، أي أنها تعتمد في تعبيراتها على التصريح المباشر، وما تعرفه تحديداً عن السؤال أثناء البحث عن الإجابة المناسبة.
حبّي للكمبيوتر ولغته قادمٌ من حبّي اللغوي والتحليل اللفظي والنحوي. ومن الأشياء التي استهوتني في تلك العلاقة المتشابكة بين الأدب والرياضيات والذكاء الاصطناعي، هي ذاكرتي من الطفولة حين كان الوالد يطلب منّا إعراب صفحة من القرآن كلّ يوم. كأنه انتقال بأثر رجعي حين أفكّر مثلاً في أن يقوم الجهاز بعملية الإعراب تلك آلياً. لكن ذلك يتطلّبُ جهداً كبيراً في ظلّ اتساع المدلولات اللغوية للكلمة الواحدة.
لم يكن المهجر عندي مكاناً للحنين، بقدر ما كان حافزاً للإبداع والتعلّم
سؤالك ذو شجون، يعيدني بطريقةٍ ما إلى الألغاز الشعرية التي تتطلب ذكاء وحسابات ذهنية. “لي عمّةٌ وأنا عمّها/ ولي خالةٌ وأنا خالها/ فأمّا التي أنا عمٌّ لها/ فإن أبي أمّهُ أمّها/ أبوها أخي وأخوها أبي / ولي خالةٌ وكذا حكمها”. في ذلك الزمن كان الأمر يتطلب ورقة وقلماً ورسماً بيانياً لإيجاد الحلّ، أمّا اليوم، في لغات البرمجة التصريحية الراقية جدّاً، يكفي برمجة المعارف التقليدية عن العلاقات العائلية، مثل علاقة الأخوَة والعمومة وتفعيل مدخلات الجهاز للحصول على الإجابة المنطقية. هناك لذّة لا نهائية بين الماضي الأدبي والحاضر العلمي.
في مداخلتك بندوة “كتّاب المهجر، التحديات والصعاب”، ركّزتَ على مفهوم التحديات والمتمثّلة في إشكالية اللغة، والمستوى التعليمي، وأفق الإبداع والحرية. كيف تعاملتَ مع هذه العناصر الثلاثة في بلد إقامتك؛ فرنسا؟
رؤيتي، ربّما، كانت مختلفة عن الآخرين؛ فالمهجر بالنسبة إليّ لم يكن يوماً مكاناً للحنين والنوستالجيا للوطن الأمّ، بقدر ما كان حافزاً مهمّاً للإبداع والتعلّم، أو بالأحرى المكانَ الطبيعي للكاتب؛ مكانٌ يفتح للكاتب آفاقاً متعدّدة في الكتابة، تظلّ على علاقة بالجذور. فكلّ منظر يشاهدُه يذّكره بمنظر قديم في الذاكرة، قد يكون أفضل وقد يكون أسوأ، ولكن التيار يمرّ بانتظام بين المكانَين مجسِّداً فرصة وجودية عظيمة.
أنا مثلاً، جئت شاباً شبه أمّي بالرياضيات الحديثة، وبعد خمسة عشر سنة تحوّلتُ إلى بروفيسور جامعي، في أقلّ فترة زمنية، وفي تخصّص صعب هو الرياضيات التطبيقية والكمبيوتر والذكاء الاصطناعي. وهذه فرص لا تُمنح إلّا في بلدان يسود فيها القانون والاختيار حسب الكفاءة، وليس حسب العرق أو الأيديولوجيا، أو غيرها من المعايير غير المعرفية واللا إنسانية.

من الندوة
هل هو نوع من المصير الحتمي لكلّ كاتب يطلب الحرية؟ وكيف تعيش علاقتك باليمن اليوم؟
أعيش كلّ هموم بلدي الراهنة. أتحدّث وأكتب عن اليمن بانتظام، ولا أعيش على ذكريات الماضي فقط، لأنّني لم أنقطع عن زيارة البلد إلّا بعد بداية الأحداث سنة 2014. فعلاً غادرتُ منذ زمن بعيد، لكنّني لم أتوقّف عن الكتابة وإبداء الرأي في الأوضاع المتردّية وما يعيشه الشعب اليمني من أزمات. وهذه الكتابة لم تكن لتُتَح لي لو بقيتُ هناك، في ظلّ القيود السياسية والدينية والاجتماعية، وأيضاً في ظلّ نفاق عام يجعل من بعض الكتابات التي تأتي من الداخل مشوّهةً، يرتدي أصحابُها أقنعة مزيّفة تُواري حقيقة الواقع، بسبب القمع والديكتاتورية وانعدام الحرية.
ماذا عن مدينتك الأُولى؛ عدن؟
أشتاق إلى الكثير من الأشياء. لم أزر عدن منذ ثماني سنوات، وكنت قبلها أذهب مرّتَين أو ثلاثاً في السنة، في زيارات عائلية وأنشطة أدبية وسياحية. وإن كنتُ اليوم أرى أنّ الأفق مسدود، إلّا أنّ الأمل موجود وقوي. أستطيع القول إنّه لم يمُت بعد.
على ماذا تعمل حالياً؟
أدبياً، أختبر مواضيع جديدة لم تأخذ شكلها النهائي في ذهني. لكن خلال شهرين أو ثلاثة، ستكتمل عندي الصورة مع تفاصيلها لخوض عمل روائي جديد. كما أنّني أكتب دائماً في المجال الفكري مواضيعَ مرتبطة بالتجديد والابتكار، بالماضي وبثقافتنا العربية، وسبل التغيير والانفتاح والتفاعل، وهذا هوسي الأكبر.
سيرة
حبيب عبد الرّب سروري كاتبٌ وروائي يمني، من مواليد مدينة عدَن عام 1956، وهو أستاذٌ جامعي في علوم الكمبيوتر بقسم هندسة الرياضيات التطبيقية (كلية العلوم التطبيقية، روان، جامعة النورماندي، فرنسا) منذ 1992.
صدر له في الرواية: “الملكة المغدورة” (1988)، و”دملان”، ثلاثية روائية (2009)، و”طائر الخراب” (2011)، و”عرق الآلهة” (2008)، و”تقرير الهدهد” (2012)، و”أروى” (2013)، و”ابنة سوسلوف” (2014)، و”حفيد سندباد” (2016)، و”وحي” (2018)، و”جزيرة المطفّفين” 2022. ألّف العديد من الكتب الفكرية، كما كتب في القصة القصيرة والشعر. حاز عدّة جوائز أدبية، وتُرجم عددٌ من أعماله إلى لغات أجنبية.
عن ندوة أدباء المهجر
“كتّاب المهجر، التحدّيات والصّعاب” عنوان ندوة أُقيمت ضمن فعاليات “معرض الشارقة الدولي للكتاب” في دورته الحادية والأربعين (من 3 إلى 13 نوفمبر/ تشرين 2022)، وتناولت قضايا الهجرة والهوية والإبداع، بمشاركة خمسة من كتّاب المهجر؛ هم، بالإضافة إلى حبيب عبد الرّب سروري المقيم في فرنسا، كلٌّ من: الشاعر العراقي محمد مظلوم (سورية)، والشاعر السوري مروان علي (ألمانيا)، والقاص الفلسطيني مازن معروف (أيسلندا)، والكاتبة اللبنانية سونيا بوماد (النمسا)، بالإضافة إلى رئيس “نادي القلم النمساوي” هيلموث نيدرلي.
أدار الندوة مدير تحرير مجلّة “الناشر الأسبوعي”، الشاعر الأردني علي العامري، والذي أبرز، خلال تقديمه للمشاركين، أهمية ما يؤلّفه كتّاب المهجر، انطلاقاً من تجاربهم الخاصّة وعلاقة كتاباتهم بجذورهم وأوطانهم الأصلية، واتصال ذلك بقضايا المهجر المعاصرة، كالعنصرية والتهميش والاندماج، وإشكاليات الهوية واللغة.

شاعر وصحافي جزائري، من مواليد 1979. بالإضافة إلى الكتابة الصحافية والمتابعات الأدبية والفنّية عبر عدد من الجرائد والمجلّات الثقافية الجزائرية والعربية، يشتغل بين الإذاعة والنشر والتحرير منذ 2007. صدرت له خمس مجموعات شعرية.