حكاية دستور مشترَك بين الجزائر وليبيا

قطَعَ مشروعُ الوحدة بين البلدَين أشواطاً إلى الأمام. وبدا أنَّ الطرفَين استفادا مِن تجربة الوحدة التونسية الليبية التي مُنيت بالفشل؛ إذ طَرحا مشروع دستور اتحادي للنقاش "الجماهيري". غير أنَّ انتفاضة الخامس مِن أكتوبر/ تشرين الأوَّل 1988 ستنسف المشروع برمّته.

حكاية دستور مشترَك بين الجزائر وليبيا
(بن جديد والقذّافي خلال زيارةٍ للأخير إلى الجزائر يوم 1 نوفمبر 1979 - تصوير: دانيال سيمون)

في مطلع 1974، أعلَنَ الرئيسان التونسي الحبيب بورقيبة (1903 – 2000) والليبي معمّر القذافي (1942 – 2012)، في ختام قمّة جمعتهُما في “حومة السوق” بجزيرة جربة التونسية، قيام وحدةٍ اندماجية بين بلدَيهما، فأصبحَ الأوّلُ رئيساً لدولةٍ جديدة تحمل اسم “الجمهورية العربية الإسلامية”، والثاني نائباً له.

 

في ساعة

قبل ذلك بسنتَين فقط، كان بورقيبة يسخر مِن أحلام القذّافي بوحدة عربية. في مُذكّراته “نصيبي مِن الحقيقة” (2007)، يذكُر محمد مزالي (1925 – 2010)، الذي تولّى الوزارة الأولى في تونس بين سنتَي 1980 و1986، حادثةً طريفة جمعَت بين الرجُلين عام 1972؛ حين استقبَل الرئيسُ التونسيُّ “العقيدَ” في مدينة حمّام الأنف (16 كلم جنوبي شرقي تونس العاصمة)، فألقى الأخيرُ بالمناسبة خطاباً في “قاعة البالماريوم” تحدّث فيه بإطنابٍ عن الوحدة العربية، فلم يكُن مِن بورقيبة – الذي كان يستمع مِن غرفة نومه إلى الخطاب عبر الراديو – سوى أن استقلّ سيّارةً مِن قصر قرطاج واتّجه إليه مُسرعاً وانتزع الميكروفون من يده، وخاطبه قائلاً: “العرب لم يكونوا موحَّدين أبداً. إذ الوحدة تحتاج إلى قرونٍ لتتحقَّق إذا سلكنا الطريق الصحيحة”1.

غير أنَّ ما كان بورقيبة يرى أنّه يحتاج قروناً لتحقيقه، سيتحقّقُ في أقلَّ من ساعة؛ وهي كلُّ ما استغرقَته المحادثة التي ستجمعه بالقذّافي في جربة بتاريخ الثاني عشر مِن يناير/ كانون الثاني 1974، ولن تنتهي إلّا وقد أصبح رئيساً، على نحوٍ مفاجئ، لبلدٍ أكبرَ مساحةً وأكثر غنىً.

عُرض على بومدين الانضمام إلى الوحدة فردَّ بأنَّ الجزائر لا تمتطي القطار وهو يسير

سيُثير الإعلان، الذي لم تسبقه أيّةُ دراسة أو تشاوُر ولم يُعلَم أحدٌ في تونس وخارجها بشأنه، حفيظةَ الجزائر التي سرعان ما أصدرت بياناً شديد اللهجة ندّدت فيه بالوحدة، ووصفتها بالخطوة المرتجلة والمتسرّعة والمصطنعة. وحين عُرض على الرئيس الجزائري حينها، هوّاري بومدين (1932 – 1978) انضمام بلاده إلى الدولة الجديدة، أجاب: “الجزائر لا تمتطي القطار وهو يسير”2.

وعلى خلاف الوحدة بين مصر وسورية التي استمرّت قرابة ثلاث سنوات (1958 – 1962) تحت اسم “الجمهورية العربية المتحدّة”، لم تستمرَّ الوحدة بين تونس وليبيا طويلاً، بل إنّها لم ترَ النور مِن الأساس؛ إذْ لم يتجاوز الأمرُ حدود الإعلان عن دولة جديدة بشعب واحد ودستور واحد وعلَم واحد ورئيس واحد وجيش واحد ومؤسّسات موحّدة وعواصم ثلاث (طرابلس شتاءً وقرطاج صيفاً والقيروان عاصمةً شرفية).

كان مقرَّراً المصادقةُ على “إعلان جربة” بعد إجراء استفتاءٍ على مشروع الوحدة في كلّ مِن البلدَين، لكنَّ ذلك لم يحدُث؛ ليس فقط بسبب عدم احتواء الدستور التونسي نصّاً حول إجراء استفتاء مِن هذا النوع، بل أيضاً بسبب رفضه مِن قبل عددٍ غير قليل مِن الشخصيات التونسية، وفي مقدّمتهم الوزير الأوّل التونسي آنذاك الهادي نويرة ووسيلة بورقيبة (خلال إعلان الوحدة كان الأوّل في زيارة رسمية إلى إيران والثانية في زيارة إلى سورية والكويت). وقبل نهاية يناير/ كانون الثاني 1974، كان بورقيبة قد تخلّى عن الفكرة تماماً، وهو ما أدّى إلى توتُّر العلاقات الدبلوماسية بين تونس وليبيا.

 

اتحادٌ فَحرب

كان القذّافي يرى نفسه الخليفة المقبِل للرئيس المصري جمال عبد الناصر (1918 – 1970) في “زعامته” على العالَم العربي؛ وهو أمرٌ لم يكُن ليُحقِّقه مِن دون وحدةٍ عربية عمل بكلّ جهده لتحقيقها، وهو الذي قال خلال زيارةٍ له إلى الجزائر عام 1970 (أي بعد سنةٍ من انقلابه على الملك محمد إدريس السنوسي): “لا وُجود لمغرب ولا لمشرق، بل هناك أُمّة عربية تسعى لوحدتها مِن المحيط إلى الخليج”3.

وقبل مشروع الوحدة التونسية الليبيّة الفاشل، سعى “العقيد” إلى الوحدة مع مصر. كانت الخطوة الأُولى في هذا الاتجاه هي التوقيع في ديسمبر/ كانون الأوّل 1969 على “ميثاق طرابلس”، والذي أعلن تأسيس ما سُمّي “الجبهة القومية العربية”. أمّا الخطوة الثانية فستتمثّل في انضمام سورية إلى البلدَين في إبريل/ نيسان 1971، وإعلان القذّافي ومحمد أنور السادات (1918 – 1981) وحافظ الأسد (1930 – 2000) قيام “اتحاد الجمهوريات العربية”.

أعلن القذّافي وأنور السادات وحدة بلديهما عام 1971 ثم دخلا في حرب بعد ستّ سنوات

ظلّ “الاتحاد” مجرَّد حبر على ورق بسبب التقارُب بين مصر وإسرائيل، والذي سينتهي بتوقيع الطرفَين على “اتفاقية كامب ديفيد” عام 1978. لكن قبل ذلك، ستشهدُ العلاقات الليبية المصرية توتُّراً غير مسبوق، بدأ بطرد القذّافي قرابة مئتين وخمسين ألف عاملٍ مصري مِن بلاده وتنظيمه مسيرةً إلى الحدود المصرية تنديداً بتقارُب القاهرة وتل أبيب، وتطوَّر الأمرُ إلى مواجهةٍ عسكرية بين البلدَين في يوليو/ تمّوز 1977، انتهت بعد أربعة أيام بتوقيع الجانبَين على اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية هوّاري بومدين.

 

إلى الجزائر

بعد أن لقيَت “الجمهورية العربية الإسلامية” مصير “اتحاد الجمهوريات العربية”، ستتّجه أنظار القذّافي إلى الجزائر. هذه المرّة، تبدو الظروف مواتيةً أكثر مِن أيّ وقت مضى لطرح الفكرة على الجزائريّين: رحل بومدين الذي لم يكُن ليُرحِّب بأيّ اقتراحٍ من “العقيد” في هذا الاتجاه، وخلَفَه الشاذلي بن جديد (1920 – 2012) ابتداءً من فبراير/ شباط 1979. إضافةً إلى ذلك، كانت البلاد تتّجه على نحوٍ محموم إلى أزمةٍ اقتصادية خانقة بسبب تهاوي أسعار النفط. بلغت الأزمة أوجها عام 1986 مع انهيار أسعاره إلى ما دون عشرة دولاراتٍ للبرميل الواحد، وكانت الوحدة مع ليبيا لتكون بمثابة “طوق إنقاذ”.

قطَعَ مشروعُ الوحدة أشواطاً إلى الأمام. وبدا أنَّ الطرفَين استفادا من تجربة الوحدة التونسية الليبية التي أُعلن عنها بشكلٍ متعجِّل؛ إذ طَرحا مشروع دستور اتحادي للنقاش “الجماهيري” في سبتمبر/ أيلول 1988. غير أنَّ انتفاضة الخامس مِن أكتوبر/ تشرين الأوَّل مِن العام نفسه ستنسف المشروع برمّته.

يرى بعضهم في انتفاضة الخامس مِن أكتوبر 1988 بالجزائر مؤامرةً لإجهاض الوحدة مع ليبيا

ومِن اللافت أنَّ قطاعاً مِن السياسيّين والباحثين في الجزائر، مِمّن يرون في تلك الانتفاضة الشعبية مؤامرةً على “مكتسبات ثورة التحرير” وعلى “جبهة التحرير الوطني” (الحزب الحاكم والوحيد حينها)، يَربطون بشكلٍ مباشر بين أحداث أكتوبر ومشروع الوحدة مع ليبيا؛ حيثُ يعتبرون أنَّها مِن بين الأسباب التي دفعت بتيار في السلطة “تغريبيٍّ” و”مُعادٍ للوحدة العربية” إلى افتعال الأحداث بهدف إجهاض المشروع. وهذا التيار يُقابِله تيارٌ آخر متحمِّسٌ لفكرة “الوحدة العربية”؛ ويُمثّله على وجه الخصوص كلٌّ من محمد شريف مساعدية وعبد القادر حجّار.

ضمن هذا الطرح، يُورِد الباحث والمناضل في الثورة الجزائرية محمد العربي الزبيري (1941) مشروع الوحدةِ مع أسباب كثيرة لما يُسمّيه “أسبوع الإجهاض”، ويعني به أحداث أكتوبر.

يقول الزبيري في كتابه “المؤامرة الكبرى أو إجهاض الثورة” (1989): “كانت (الجزائر) تسعى بمعيّة الجماهيرية إلى إنجاز وحدة مغاربية من شأنها أن تحرم أوروبا الموحَّدة ِمن سوق أساسية لترويج منتوجاتها ومصدرٍ هام لما تحتاجه بعض مصانعها من مواد أساسية”. و“حينما اتّسع المسعى ليشمل المغرب الأقصى وتونس وموريتانيا زيادةً عن الجزائر والجماهيرية، وعندما أُحيلت بالفعل وثيقة الاتحاد الجزائريةُ الليبية إلى القواعد الشعبية في البلدَين تُناقشها وتُثريها، أصبَح مُستعجَلاً الانتقال إلى العمل الميداني وإحداث ما يمكن أن يُركِع الجزائر ويوقف العمل الوحدوي الذي تكمُن فيه قوّة المنطقة وكذلك أمنُها واستقرارها واستقلالها الحقيقي”4.

وفي معرض سرده لنتائج انتفاضة أكتوبر 1988، مِن وجهة نظره، يُضيف: “تبخّرت آمال الوحدة الجزائرية الليبية واختفى مشروع الدستور الوحدوي الذي أنزلَته الثورتان إلى الجماهير الشعبية للمناقشة والإثراء بتاريخ 20 سبتمبر 1988، والذي كان مِن المفروض أنْ يقود إلى تكوين نواة صلبة تتشكّل حولها وحدة المغرب العربي كخطوة أساسية في طريق الوحدة العربية”5.

 

دستور الاتحاد

لا تتوفّر الكثير مِن المعطيات حول هذه الوثيقة التاريخية، التي تحمل عنوان “مشروع دستور الاتحاد بين الجماهيرية والجزائر”، سوى أنّها صدرت في شكل كتابٍ من ثلاثة وثلاثين صفحةً عن “قطاع الورق والطباعة” في “مطابع الثورة العربية” بطرابلُس الغرب. ليس ثمّة إشارةٌ إلى تاريخ الطبعة. كما أنها تختَتم بعبارة “حُرّر في” مِن دون ذكر مكان وتاريخ تحريرها.

أسفلَ العبارة مِن جهة اليمين، يردُ اسمه الشاذلي بن جديد متبوعاً بصفته: “الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني رئيسُ الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية”، وعلى يساره اسم معمّر القذافي “قائدُ ثورة الفاتح العظيمة في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى”. غير أنَّ الاسمَين لا يُتبعان بتوقيعَيهما. وليس معروفاً أيضاً مَن هي الأسماء التي تولّت صياغة النصّ وتحريره.

مشروع دستور الاتحاد بين الجماهيرية والجزائر

(غلاف “مشروع دستور الاتحاد بين الجماهيرية والجزائر”)

يبدأ “مشروع دستور الاتحاد بين الجزائر والجماهيرية” بديباجة مِن تسع صفحاتٍ تُوضِّح فكرة الاتحاد والتزاماته ودوافع “تأسيسه”، وتَختتم بعبارة “إنَّ الشعب العربيَّ في الجزائر وليبيا يُقرّر إقامة اتحاد على الأُسس الدستورية التالية”.

ويتضمّن المشروع تسعين مادّةً موزّعةً بين ثلاثة فصول؛ الأوّلُ بعنوان “الأسُسُ العامّة للاتحاد”، ويضمُّ فرعَين هما: “المبادئ الأوّلية”، و”الحريات الأساسية وحقوق المواطن وواجباته”.

ومِن بين المواد التي يتضمّنها هذا الفصل: “الشعب في دولة الاتحاد جزءٌ مِن الأمّة العربية”، و”نظام الحُكم في دولة الاتحاد نظام ديمقراطي اشتراكي”، و”اللغة العربية هي اللغة الرسمية في دولة الاتحاد”، و”لِدولة الاتحاد علَمٌ وشعار ونشيد…”، و”لِدولة الاتحاد عاصمة واحدة يُحدّدها مجلس رئاسة الاتحاد”، و”الانضمام إلى الاتحاد مفتوح أمام كلّ الأقطار العربية التي ترتضي العمل بأحكام هذا الدستور”.

أمّا الفصل الثاني، فيحمل عنوان “اختصاصات الاتحاد ومؤسّساته وماليته”، ويضمُّ ثلاثة فروع هي: “اختصاصات الاتحاد”، و”مؤسَّسات الاتحاد”، و”مالية الاتحاد”. أمّا الفصل الثالث فيحمل عنوان “أحكام عامّة”.

يقترح مشروع الدستور للدولة التي لن ترَى النور تسميةَ “اتحاد المغرب العربي”، وهي – للمفارقة – التسمية التي سيحملها اتحاد البلدان المغاربية الذي سيُعلِن عنه قادة كلّ من موريتانيا والمغرب وليبيا والجزائر وتونس في السابع عشر من فبراير/ شباط 1989 في مدينة مراكش المغربية، وسيظلُّ يُراوح مكانه منذ ذلك التاريخ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع

1 محمد مزالي، نصيبي من الحقيقة، ط 1 (القاهرة، دار الشروق، 2007) ص 557.
2 السابق، ص 558.
3 نفسه، ص 556.
4 محمد العربي الزبيري، المؤامرة الكبرى أو إجهاض الثورة، ط 1 (الجزائر، 1989) ص 31.
5 السابق، ص 188.

كاتب وصحافي جزائري ومؤسّس موقع “رحبة”. من مواليد 1983. بدأ الكتابة الصحافية مدوّناً في 2005، قبل أن يعمل في عددٍ من المؤسّسات الصحافية الجزائرية والعربية، بين الصحافة المكتوبة والإذاعة والتلفزيون. صدرت له مجموعة قصصية في 2008، ورواية في 2013.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
  • إيزونطار رؤوف
    03 إبريل 2021 | 06:51

    مبادرة مشرفة
    أتمنى لك التوفيق والنجاح مستقبلاً إن شاء الله

قصص قريبة