حين انتصرنا بعد “خلي بالك من زوزو” بسنة واحدة
لِمَ نجح هذا الفيلم هذا النجاح الكبير الساحق، مستمرا في دور عرض الدرجة الأولى لمدة 54 أسبوعا، وكان قابلا للاستمرار لولا بداية حرب أكتوبر 1973. كيف نجح في ذلك رغم نقد المنتقدين واعتباره أداة لإلهاء الشعب بعد هزيمة 67.
فجأة يحدث أمر ما يلفت الأنظار. أمرٌ يغيّر الحال من حال إلى حال، وكم من رواية أو ديوان شعر نُشر، أو لوحة فنان عُرضَت، أو قطعة موسيقية شنّفت الأذن، فتغيرت الذائقة الفنية الأدبية، وجعلت ما بعدها مختلفاً نسبياً عما كان قبلها، بناء على الفن الذي شع في الصدور وهز القلوب وأنار في العقول. وإن لم يقم العمل الفني الناجح بتبديل أساسي في تلك الأمور الفنية، فإنه يكون على الأقل قد أضاف جديدا، أو قد ألغى ما ظُن سابقا أنه من الضروري تواجده.
ربما في مصر يمكننا أن نستشهد بفن محمود مختار في النحت، وفن سيد درويش في الموسيقى، وفن أم كلثوم في الغناء، وفن نجيب محفوظ في الأدب. وفن حسن فتحي في العمارة الخ. ونأتي للسينما..
غيري من الراصدين المحنكين يكتبون عن البدايات، ويكتبون عن الكثير من المجيدين الذين قدموا إبداعاتهم، ويعطونهم حقهم في الإشادة، جيلا بعد جيل، لكني سأتكلم عن فيلم أثر تأثيرا كبيرا في السينما المصرية، وكان مفاجأة ليس فقط للجمهور بل كان مفاجأة لمن قاموا بخلقه.
فيلم أخذ حقه انتشارا واسعا بين الناس، وكان نقطة تحول للفنانين الذين شاركوا فيه، بداية من الإنتاج والإخراج، للسيناريو للأغاني للتمثيل الخ. إنه فيلم “خللي بالك من زوزو”. رائع بحق وحقيق. فيلم يستحق أن يرصد بأكثر من زاوية، ويأتيه الأكاديميون ليغوصوا في أعماقه، ويشرحوا لنا.. لِمَ نجح هذا الفيلم هذا النجاح الكبير الساحق؟ وكيف كان حال المصريين وقتها؟ والفيلم تم اختياره رقم 79 من قائمة أفضل 100 فيلم مصري. وبقي مستمرا في دور عرض الدرجة الأولى لمدة 54 أسبوعا، وهو رقم قياسي لم يقترب منه أي فيلم آخر حتى الآن، فالفيلم هو أكثر الأفلام المصرية شعبية. وكان قابلا للاستمرار لولا بداية حرب أكتوبر 1973.
في تلك الأيام، كال “النقاد المحترمين” الاتهامات على فيلم “خللي بالك من زوزو”، غِيرة على الوطن، وغيرتهم صادقة، لكنهم مخطئون في رأيهم، فالفيلم لم يلهي الشعب عن حالة الحرب، ولا الفنون بكل أنواعها تلهي أي شعب عن البناء، حتى لو كان هذا الشعب في حالة هزيمة، وأرضه محتله مثلما كانت مصر, والدليل أننا انتصرنا في حرب أكتوبر 1973، أي بعد الهزيمة بست سنوات، وبعد خللي بالك من زوزو بسنة واحدة.
نعذر من هاجموا الفيلم، فقد اشتعلت قبلها بقليل مظاهرات الطلبة متأثرين بهزيمة 67، واعتراضهم لهزلية محاكمات قادة الهزيمة. أي أن الجو كان مكهرباً. لذلك فعدد كبير من الطلبة ثاروا ضد فيلم “خللي بالك من زوزو”، بنفس الحجة التي أعلنها النقاد الذين هاجموا الفيلم، وأيضا في رأيي كان الطلبة على خطأ، نتيجة للحماس المتوقد في قلوبهم والغضب العارم في صدورهم.
كنتُ مشاركا في حربَيْ الاستنزاف والعبور، رتبتي كانت رفيعة المقام، عريف مقاتل. أي بشريطين على الذراع واللهم يبعد عنّا الحاسدين (لم أنل الشريطة الثالثة لأسباب لا داعي لذكرها). في ليلتنا الثانية بعد العبور، كنا على كثيب رملي. وفي الفجر التالي سنتقدم وندخل معركة نتوقعها حامية الوطيس ستأخذ أرواحا، ولا أحد منا يعرف هل سيكون من ضمن الشهداء أم سيكون من ضمن المصابين، أم سيكون من ضمن الذين ستكتب لهم الحياة؟
حفرنا سريعا حُفرا برميلية تقينا من شظايا مدافع إسرائيلية من نوع أطلقنا عليه لقب (أبو جاموس)، اسم مرح، بل اسم ضاحك ساخر. مدفع من مدافع أبو جاموس قرر أن يقذفنا بدانة ثقيلة كل حوالي عشر دقائق، غرضه الخبيث، أن يجبرنا على الاستيقاظ فلا ننام، وندخل معركة الفجر المقبل ونحن مرهقين.
ساعة ساعتين والدانات تضايقنا وأزيز الشظايا يتطاير فوقنا. أنا وعدد منّا تعبنا من الجلوس القرفصائي داخل الحفر. صعدنا وحفر كل منا مستطيلا عمقه لا يزيد شبرين وتمدد على ظهره فيه. أعيننا على السماء السوداء. نلعن إسرائيل ومدفعية أبو جاموس، ونمزح سويا رغم انفجارات القنابل الوبيلة وشظايا الموت التي تصرخ صرخاتها السريعة المريعة. فجأة وجدتني أدندن بصوت عال بأغنية من أغنيات عبد الوهاب القديمة، فإذا بزميلي الشهير سيد ذُنب (ذُنَب، أن ذُنْبَجي، أي مكار بخباثة فيدفع اثنين أو أكثر ليتشاجرا معا) يشاركني الغناء!
دانة تنفجر قريبا منّا فنغني.. (أهون عليك تزيد ناري، ولساني يشكي لك ترحم حالي) مع تحوير الكلمات لتكون لعنات على أبو جاموس وعلى إسرائيل، وقتها لم أكن قد اكتشفت أنني أديب.
زملاءنا يضحكون ويشاركون في تركيب كلمات ساخرة مناسبة، أغنية ثانية وثالثة والشظايا موسيقى متطايرة، ثم نتعب والنوم غلاب، رغم أن أبو جاموس (ابن الـ..) مستمر.
وخلال سبع سنوات الحرب، كانت القوات المسلحة تقيم حفلات الترفيه للجنود، ومسابقات معرفية مفرحة. وفي كل مناسبة، سواء كانت مناسبة دينية أو وطنية، تصل للجنود نوعية معينة من الحلوى. أليس كل هذا نوع من منح البسمة للمقاتلين الباقين في ظروف صعبة؟
أليست إجازاتنا كمقاتلين، نوع من الترفيه لنستمر قادرين على التدريب الجدي المستمر، ولنكون في حالة بدنية ونفسية عالية وقت الحرب؟ المرح، الفرح، البهجة، البسمة، الضحك الخ، أي الفرفشة. ينابيع تصب في الفرد وفي الشعب كله قوى معنوية تتحول لقوى مادية، خاصة الشعب الذي تلقى هزيمة قاسية وعليه أن يفيق منها، ليأخذ بأسباب النصر، على هذا الشعب أن يتقوى بالأمل والعمل والتفاؤل، والتفاؤل يأتي من ينابيع عديدة منها الفنون، والفنون متنوعة عديدة منها الكوميديا، والكوميديا تعني البهجة والسعادة، أي الفرفشة، أليس كذلك؟
وهنا لا أنسى أبداً الشعب المصري الذي يبهج نفسه ويعزي نفسه ويقوي نفسه، بالتنكيت على كل الظروف وحتى على نفسه! والنكتة وحتى لو كانت مأساوية العمق، فهي تبعث على الضحك وتخفف من عمق المأساة التي يتم التنكيت عليها. إنها نوع من الكوميديا السوداء، كوميديا هي فتحات تسمح بانطلاق سخونة الكبت الداخلي إلى الخارج، فتساعد على التحمل والمواصلة بدون انهيار.
لهذا كان قرار الجماهير أن تحيي الفيلم وتشجعه وتحتفي به، قرار الجماهير هذا، لم يكن رفضا لقرار النقاد ولا رفضا للحماسة الزائدة من الطلبة، فهم في غالبيتهم لم يقرأوا لهؤلاء النقاد، وأصلا لا يعرفوهم! وبالطبع لم يسمع النقاد من جهتهم عن حماسة طلبة الجامعة ضد الفيلم.
* أسطر من كتاب “رائعة.. خللي بالك من زوزو” الذي صدر هذه الأيام عن “دار بدائل”
كاتب مصري نوبي، من مواليد الإسكندرية عام 1944. من إصداراته: “النوبة تتنفّس تحت الماء”، و”ليالي المسك العتيقة”، و”أحضان القنافذ”، و”الصحوة النوبية”، و”الشاي المر”، و”ثلاث برتقالات مملوكية”، و”كديسة”.