“ديبا”.. لماذا قررّ بيير نورا أن يوقف الجدل؟

في الوقت الذي يفترض أن تحتفل المجلة بعيد ميلادها الأربعين، وأن يجري الاحتفاء بصمودها ضمن المشهد الفكري الفرنسي، ظهر مؤسّسها ليعلن - في مقال نشره على صفحات مجلة أُخرى - بأن "ديبا" قد انتهت إلى الأبد.

“ديبا”.. لماذا قررّ بيير نورا أن يوقف الجدل؟
توقّفت المجلّة في عيد ميلادها الأربعين (رسم: لوريندو فِليسيانو)

في 1980، أطلق المؤرخ الفرنسي بيير نورا – وكان في قمة أمجاده المعرفية آنذاك – مجلة جديدة بعنوان “ديبا” (جدل) سرعان ما استقطبت جزءاً هاماً من أبرز الأقلام وتحوّلت إلى مرآة حقيقية للحياة الفكرية والسياسية. في سبتمبر 2020، وفي الوقت الذي يفترض أن تحتفل المجلة بعيد ميلادها الأربعين، وأن يجري الاحتفاء بصمودها وحفاظها على موقعها ضمن المشهد الفكري، ظهر المؤسّس بيير نورا (1931) ليعلن – في مقال نشره على صفحات مجلة أخرى – بأن “ديبا” قد انتهت إلى الأبد.

كان العدد الأخير من المجلة الفصلية قد قدّم إشارة بنوايا نورا، حيث جرى تخصيصه إلى مراجعة شاملة لأربعة عقود. كما نقرأ في افتتاحية نورا: “وُلدت ديبا منذ أربعين عاماً، وهو ما يعني أنها وُلدت في عالم غير العالم الذي نعيش فيه الآن”. لم يصرّح وقتها علانية بأن ذلك العدد هو الأخير، ليُبقي من بقي من قرّاء المجلة في انتظار عدد جديد، لكن نورا ظهر وحده هذه المرة، ناعياً مشروعه بالقول: “هذه الصيغة من المنشورات، والتي هي منغرسة في الثقافة الفرنسية منذ قرنين، قد تجاوزها الزمن في سياق حضارة تسودها النزعة الرقمية”.

لكن لماذا لم يفكّر نورا في تحويل المجلّة إلى الصيغة الرقمية؟ علماً أنه في حل من ذلك أيضاً، حيث أن الناشر (مؤسسة غاليمار) لم تعلن عن نيتها غلق المجلة – كما فعلت مع عدة مشاريع أخرى – لأسباب متعلقة بتكلفة الطباعة أو التوزيع. لقد كانت “ديبا” تمثل رأسمالاً رمزياً يغطّي كل الخسائر المادية المتوقّعة.

كأن نورا اختار أن يسجّل موقفاً وهو في خريف العمر.. أن يعلن عن غربته في العالم، وخيبة أمله في استفادة المجتمع من جهود المثقفين. لم يكن هذا الموقف ليكون مسموعاً لو ضمّنه المؤرخ الفرنسي أحد مقالته، يحتاج ذلك إلى حدث ما يلفت الانتباه إليه، وهو ما فعله بإعلان توقّف المجلة.

يسجّل نورا أيضاً موقفاً ضد التكنولوجيا، فلا يرى أن “ديبا” يمكن أن تذوب في الرقمي، إنها لو فعلت ذلك فهي برأيه تفقد هويّتها ومنطقها وتخون العقد المعنوي الذي يربطها بمتابعيها لو سمحت لنفسها بالانتقال إلى صورة جديدة، وكأنه يؤمن بأن “الجدل” ينبغي أن يختار محامله التي توصله إلى الناس. لكنه في المقابل يبدو مستسلماً للمصير الجديد للعالم الذي ابتلعته التقنيات الحديثة.

يأتي ظهور نورا مشحوناً بالرمزيات، فهو لم يعد منذ سنوات مشرفاً مباشراً على المجلّة بحكم عامل السن، حيث ترك مقاليد التحرير لصديقه مارسيل غوشيه، واكتفى في الأعوام الماضية بالمساهمة بمقال كأي كاتب آخر. عاد نورا مثل رجل دين يحضر يوم النزع ويصاحب الأنفاس الأخيرة للميت، بل إنه هو من قرّر هذا الموعد لـ”ديبا”، فكأنه أراد أن يكون مصير المجلة بين يديه في النهايات كما كان الأمر في البداية.

(غلاف العدد الأول)

يستمد هذا القرار بعداً رمزياً أيضاً من مسيرة نورا نفسها، فإضافة إلى المكانة التي حظي بها كمؤرّخ كان أحد أبرز صنّاع الكتاب في فرنسا حيث أشرف على عدّة سلاسل، ويعود له الفضل في تحويل الكتب الأكاديمية إلى كتب جيب، وبالتالي إيصالها إلى شريحة موسّعة من القراء، وهو مشروع خاضه مع عدّة ناشرين، حتى أن أحد المشتغلين بالتاريخ الثقافي، فرانسوا دوس، يعتبر أن أهم منعطف عرفته العلوم الإنسانية في فرنسا هو إقدام بيير نورا على ضخّها ضمن منظومة النشر الجماهيري في سيتينيات القرن الماضي، ويكفي هنا أن نشير إلى أنه كان “القابلة” التي سهرت على ولادة أعمال مرجعية مثل “أركيولوجيا المعرفة” لميشال فوكو، و”مراحل الفكر السوسيولوي” لـ ريمون آرون، و”كتابة التاريخ” لـ ميشيل دو سيرتو.

مع السلاسل الفكرية، كانت مجلة “ديبا” مشروعاً طموحاً آخر لدى نورا لإيصال الفكر إلى أبعد مدى ممكن. كانت الفكرة الأساسية هي تمرير معارف العلوم الإنسانية من علم الاجتماع إلى العلوم السياسية ضمن ما يشغل الناس، لا ما يشغل الباحثين. لقد فتح هذا الطرح الباب أمام خروج البحث العلمي من الجامعة إلى صخب الحياة العامة، وفي ذلك نجح المشرفون على المجلة بشكل لافت خصوصاً في ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي مع اعتراف بأن المجلة نجحت في رسم تحوّلات العالم بل وتوقّع بعضها بشكل مبكّر.

هل توقّع نورا ورفاقه أن تنتهي “ديبا” في أربعة عقود، هم الذين توقّعوا انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة. كان المشروع في بداياته غاية في التفاؤل، مؤمناً بالانفتاح إلى ما لانهاية، ثم هاهو يصل إلى طريق مسدود رغم أن المثقفين لا يزالون ملتفين حوله، لكن العالم قد تغيّر من حولهم بشكل قاطع فلم يعودوا قادرين على التعرّف على أنفسهم في المرآة التي اصطنعوها لأنفسهم. لذلك، لا معنى أن تتواصل “ديبا” إذا كان المثقف قد بدأ يشعر بأنه لم يعد ينتج المعنى.

كاتب صحافي وباحث من تونس، مقيم في فرنسا حالياً. يعمل منذ 2015 محرّراً في صحيفة “العربي الجديد”.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة