روزا لوكسمبورغ: رسالة عن تجربة التفكير بشكل مختلف
(روزا لوكسمبورغ في طابع بريدي ألماني )

روزا لوكسمبورغ: رسالة عن تجربة التفكير بشكل مختلف

تمرُّ اليوم الذكرى المائة والخمسون لولادة المُنظّرة الماركسية (1871 - 1919). ماذا نعرف عنها أكثر من صورتها كأيقونة نضالية تُستعاد بانتظام؟ خارج هذا المناخ الاحتفالي، تتحدّث روزا عن نفسها وعن العالَم بعدها.

عزيزاتي، أعزّائي،

إذا كنتم اليوم تحتفلون بذكرى ميلادي المئة والخمسين، فأنتم على مسافة كافية لفهم الكثير ممّا حدث. حين قُلتُ: “الحرية هي دائماً حريةُ من يفكّرون بشكل مختلِف”، لم أكن أعرف أنّني صوّبت بكل تلك الدقة نحو صدور المتشبّثين بما هو قائم، رعاة الرجعية ومستعملي أدوات القمع، في أوانها وفي غير أوانها.

لم تنطلق مني رصاصة، ولكن الرعب كان قد دبّ في أفئدتهم. هؤلاء لا يملكون القُدرة على الانتصار. يُعوّلون بادئ الأمر على إخفاقكم كي ينتصروا، وحين لا تنكسر إرادتكم لا يتورّعون في استدعاء الجريمة، معتقدين بأنهم يُلغون خصومهم من التاريخ.

يكفي ألّا تنطلي عليكم أكاذيبهم، وأكاذيب أسيادهم، حتى تُغيظوهم. يكفي ألّا تصدّقوهم، وألّا تنصتوا إلى تبريرات جرائمهم، حتى تصلوا إلى بداية الطريق.

يُمكن أن نبدأ من المشهد الأخير، لأنه يُكثِّف كلّ العنف وكلّ الحقد وكلّ الغطرسة والحرص على أن تسير الأمور كما تريد الإرادة الضيّقة للرجعيّين. قالت مارغيريت فون تروتا مُتحدّثةً عن فيلم أخرجَته عنّي، إنها حين كانت تُصمّم المشهد الأخير منه، مشهد الاغتيال، وَجدَت أنّني قُتلت بطريقة ألمانية بامتياز؛ القتل ثلاث مرّات: ضربُ الجمجمة من الخلف بعقب بندقية، رصاصةٌ في الجبين، ثم إلقاءٌ من جسر في مجرى قناة “لاندفير”.

أتساءل، ولعلّكم تتساءلون مثلي: لماذا كانت الجريمة بكلُّ ذلك العنف؟

أعتقد أنّني جسّدتُ الكثير ممّا لا يحبّ القتلة أن يروه واقعاً ماثلاً أمامهم. يكرهون من لديه القدرة على الانتصار بالفكرة والكلمة والتأثير، هُم من أَثقلت أكتافَهم نياشينُ قتل المتظاهرين ورجالٍ من شعوب أُخرى لم يلتقوا بهم إلّا على الجبهة. يكرهون أن يصدع أيُّ صوت بالدفاع عن حقوق الناس. لا يرون تلك الحقوق إلّا باعتبارها سلباً لامتيازاتهم.

كنتُ أعتقد أنّهم يعتبرونني مجرّد مثقّفة مُزعجة، واكتشفتُ أنّهم يرون فيَّ خطراً على رؤيتهم للعالم. أكثر من كوني مثقّفة – فمِن المثقّفين هناك كثيرون – يُخيفُهم أنّني امرأة. هذا في حدّ ذاته اعتداء علهم. امرأة واقفة تحت الإنارة في مسرح التاريخ، ذلك أيضاً لا يحتملونه. صرتُ النقيض الذي ينبغي تصفيته كي تُفتح الطريق لخياراتهم وتنتصر على أرض الواقع.

في ذلك المشهد الأخير، سترون كثافة العنف الذي بات يسكن البلد الأرقى علمياً وفلسفياً وموسيقياً. كانت تلك الجريمة إشارة مبكّرة إلى ما سيحدُث في تاريخ ألمانيا. كرة العنف التي لا تفتأ تتقدّم بسرعة مجنونة، وكلّما تقدّمَت تضخّمَت أكثر، إلى أن دمّرَت كلّ شيء.

من هُم القتلة؟ لم أكن أعرفهم… ولا يهمُّ أن أعرفهم…

يُقال إنّهم أفلتوا من كلّ عقاب. ومن عاش منهم قال إنه لم يندم على شيء.

هُم ليسوا أنصار القيصر الذي كان يُطاردنا ويفتك بتنظيماتنا السرية لأنها تهدّد عرشه. لقد تخلّى القيصر عن الحكم حين حاصرَته الثورة الألمانية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1918. سيذكُره التاريخ فقط بأنه آخر أباطرة ألمانيا. تردّدتُ على سجونه طويلاً، وظلّت المعركة ضمن قواعد اللعبة المعروفة.

قتَلَتي كانوا من أبناء الزمان الجديد، بعضُهم ناضل في نفس الصفوف ولنفس القضية. هم أيضاً دخلوا المعارك لافتكاك السلطة من أيادي الرجعية. بعضُهم رفاق يحملون نفس الشعارات، ومعهُم ضبّاط يعتقدون أنّهم يعرفون مصلحة الشعب والأمّة والبشرية، وما عليهم سوى وضع بنادقهم في خدمة هذه المصالح. حين التقى هؤلاء بهؤلاء، اكتشفوا المصالح المشتركة التي تجمعهم، ووقتها وجدوا أن الثوريّين الحقيقيّين هُم آخر حجر عثرة في طريقهم.

لقد أوكل عددٌ من الجنود لأنفسهم – بمباركة سياسية – مهمّة سحق الثورة. قالوا: لا بدّ من قطع رؤوسها؛ ومِن دون أخذ مهلة تفكير أو تحكيم ضمير أو قانون، بدأوا في التنفيذ.

يعتقد هؤلاء الجنود – وهم ثملون بشعارات القومية – أنَّ كلّ من دعا إلى الثورة وشارك فيها قد طعن ألمانيا في الظهر، طعنها وهي تخوض معارك الحرب الكبرى على جبهتَين. حين لمس ذلك السياسيون الصاعدون على أنقاض دولة القيصر، تحوّل أولئك الجنود إلى أداة جريمة لن أكون ضحيّتها الوحيدة، بل مجمل الثورة، وكلّ أمل قريب فيها.

الثورة الألمانية، يا له من حلم راودني! راوَدَت ماركس وإنغلز. راودَت كلّ مَن شارك في الوقوف ضد الطغاة والطبقة المهيمنة. الثورة الألمانية: لا يحمل هذا التعبير الكثير من المعنى اليوم. لا نُثبّت اسم الثورة إلّا إذا نجحَت. لم تُخفق الثورة في ألمانيا، لقد أنجزَت الكثير، لكنها بُترت.

بُترت لأنه يوجد من يريد منها أن تكون مثل قطار يصل به إلى محطّة محدّدة، بعد ذلك ستصبح خطراً إذا سارت إلى نقاط أبعد خارجة عن سيطرته.

تصوّروا معي لو أنّ الثورة في ألمانيا قد اكتملت. كان عالَم اليوم سيكون مختلفاً. لن أستطيع الادّعاء بأنه كان سيذهب إلى الأفضل؛ فالثورات التي نجحت لم تُحقّق من ذلك شيئاً. أتحدّث عن الثورة كما تخيّلتُها، الثورة وقد أُرفقت بالقيم التي تحميها من كلّ انحراف. كان ذلك ممكناً في ألمانيا، كان هناك قاعدةٌ شعبية واسعة يمكن أن تساهم في الحكم من دون أن تغالطها طغمة من المتحزّبين وتجعل التنظيمات الضيّقة في موقع أعلى من الشعب. ماذا لو جرى تصريف طاقة الشعب الألماني في بناء عالم جديد يُجسّد طموحات الشعوب؟

لم يكن ذلك الحلم ببعيد. لكنه قُصف بالمدفعية الثقيلة منذ أن تبلور في الأذهان. حتى في روسيا التي سقط القيصر عن عرشها في 1917، ظلّوا ينتظرون أخبار ألمانيا. نجاح الثورة الألمانية يعني أفق تأسيس عالَم جديد، لا مجرّد نظام جديد. وأكثر من ذلك، ستُعفي كلَّ الماركسيّين مِن متاهة إعادة التأمُّل في نظريات المؤسِّس، فمِن غير المعقول أن تنجح الثورة في روسيا، وهي الأقلُّ تطوُّراً رأسمالياً، ولا تبلغ أشواطاً متقدّمة في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا.

على عكس القرن التاسع عشر، بدأت ألمانيا تسحب مركز الثقل الرأسمالي إليها. ماذا لو صارت كل هذه المقوّمات تحت يد الشيوعيّين؟ لكن هل الهدف هو أن تصير تحت أيدي الشيوعيّين، أم إلى الشعب برمّته؟ لا أحد من الرفاق تُعجبه مثل هذه الملاحظات التي لا أتردّد في إطلاقها. وحين أرى عنف ردودهم، أفهم أنهم لا يريدون إلا نصف ثورة…

حين آلت الأمور في روسيا إلى رفاق لينين، خضتُ سجالاً حول دور التنظيمات في الثورة، لقد جعلوا منها حجاباً مضروباً بين الناس وإدارة البلاد. قرّروا أن يتقاسموا الكعكة في ما بينهم، وبقي الشعب حيث كان، حتى وهو ثمل في حفلة انتصاره على القيصرية.

حين نذهب بالنقد إلى أبعد نقطة، نجد أن تُهماً كثيرة جاهزة لإسكاتنا. بات النقد الجذري رومانسية ثورية. بات مطلبُنا بحرية التعبير وحرية التنظيم ضدّ مصلحة الشعب حين وصل بعضُنا إلى الحكم.

كانت دولة ألمانيا الشرقية قد اتّخذَت من تاريخ اغتيالي، واغتيال كارل ليبنشت، يوماً وطنياً… احتفال رسمي ضخم هو أقرب إلى جنازة متأخّرة؛ مزوَّقة ومنضبطة، تسير فيها الأمور مثل عقارب الساعة.

لم أحبّ هذا النوع من التكريمات والاستعادات. إنه نفاق سياسي بامتياز. أحياناً تكون مثل هذه الأشياء أشبه باغتيال جديد. كلّ مرّة لا يأتي اغتيالي كرصاصة مصدرُها مسدَّس في خدمة منظومة الرأسمالية – وهي لا تتردّد في القتل أيضاً – لكن يأتي مَمّن يدّعون أنهم معي في نفس الصف، وفي نفس المعركة. كلّما نظرتُ في بئر الجريمة وجدتُ في أعماقه رعب القتَلة من الفكرة المختلفة.

كان المسؤولون في برلين الشرقية يرتّبون كل شيء. حتى مَن يحضر ومن لا يَحضر في الاحتفالات. مَن يتحدّث ومَن يصمت. من يمشي في الصف الأوّل ومَن ينبغي أن يكون في ذيل الطابور. وقبل ذلك، يأخذون مِن النصوص ما يقع على هواهم فحسب، فيُفبركون منها شعاراتهم، ويتركون كلّ ما يُحرجهم. كانوا يُحبّون نقدي للرأسمالية، ولكنّهم يُغمضون أعينهم عن انتقادي لبديلٍ لا يُفسِح المجال للحريات.

كتبتُ – وأنا في سن السادسة عشرة – في رسالة موجّهة إلى صديقة: “المثالي بالنسبة إليَّ هو نظام اجتماعي يمكنني أن أحب فيه جميع الناس”. هكذا أرى الأمور. وددتُ لو أدمجتُ الحرّيات والحب والعدالة معاً في كلّ فلسفة اجتماعية.

كان ماركس ثورياً وعاشقاً، ولكنه ضرب بحجابٍ بين حياته الشخصية ومؤلَّفاته، ثم أتى أتباعه وألّهوه ونزّهوه عن كل الصفات البشرية. ومنذ ذلك الحين، لم يعد ممكناً لهم أن يروا منه شيئاً. جعلوه كائناً سماوياً، وهو الذي كان يُصرّ على إنزال كلّ شيء إلى الأرض. سيكرهونني أكثر وهم يقرؤون مراجعاتي لكتاباته. سيتّهمونني بالتحريف وأنا أُعيدُ حساباته الرياضية فأجد بعض الأخطاء. وهناك آخرون سيكرهونني أكثر حينما يجدون أنّني كنتُ على صواب.

مِثل هؤلاء ينطلقون كالعميان إلى تجسيد المثاليات، وفي الأثناء يُهدِرون كلَّ شيء له معنى. حين تعرّفتُ إلى ليو يوغيشس، سرعان ما تحوَّل إلى أستاذي. أستاذ الفكر والثورية. ارتبَطنا كعاشقيَن جمعتهما مدنٌ أوروبية كثيرة، وهموم التغيير والسياسة. لكنَّ ليو كان يفكّر في الثورة مجرّدةً مِن كل شيء. يمتنع عن الحب بما أنَّ رسالته في العالم هي تثوير الواقع. قتل جفافُه كلَّ أملٍ في حياة سعيدة للثوريّين… الثوريّين الذين عليهم أن يفتحوا الطريق للثورة.

لم يجعلني ذلك الإحباط أتراجع عن قناعتي. الحب – مثل المرح والسعادة والفوضى – من ضرورات الثورة. لا بُدّ من رعاية الأشياء الصغيرة الجميلة ونحن نذهب إلى تحقيق أحلامنا، وإلّا كانت في نهاية الطريق لوحات بشعة تنتظرنا مثل “بورتريه دوريان غراي”. لقد كنتُ حريصةً، حتى في السجن، على أن أرعى شيئاً… لحاف فِراش المتيبّس، رسومات بسيطة على الأوراق، أصيص ورد، بعض الأفكار في رأسي، ذاكرتي….

وُلدتُ في نفس السنة التي ارتعبَت فيها أوروبا من كومونة باريس. تبيّن أن الأمر ليس صدفة في الروزنامة. لنا مصير متشابه. كانت الكومونة درساً تاريخياً إضافياً للعنف الذي لا يتورّع عنه الطغاة وأدواتهم منذ أن تبلغ الطموحات الشعبية منطقة التجرّؤ على هزّ امتيازاتهم.

فتحت دموية الكومونة عينَي ماركس جيّداً. حدَسَ بعضَ قوانين التاريخ الاجتماعي الكبرى وسيمضي بها إلى نقاط بعيدة في التنظير. لم أقل الأبعد. ذلك ما يقوله الذين استبدلوا أديان آبائهم بالماركسية، وما فعلوا إلّا تجميد الدماء في عروقها وانتصبوا حرّاس متخشّبين على بوابة قلعتها.

أن أنخرط في أفكار ماركس، لم يكن يعني بالنسبة إليّ أن أُسلّم له بالعصمة من الخطأ، وإلا لفعلتُ ذلك مع القياصرة الذين يحكموننا وأرحتُ رأسي منذ البداية.

لقد فتحتُ عينيَّ في بيئة يهودية في بولندا كانت تتغذّى من رحيق الثقافات الأوروبية القريبة. أنا صورة من بولندا الممزَّقة. يتقاسم أرضَها كبارُ الأباطرة الألمان والروس والنمساويّين. كنا بولنديَين بحكم الانتماء الأُسَري، روساً بحكم أنّ مدينتنا، زاموشتش، تقع تحت حكم آل رومانوف، وأنا ألمانية بالثقافة.

كانت أصداء فكر ماركس الجديد تصل إلى بيت أُسرتنا، لكنه لم يدخل بيتنا فرداً، سبقه تراث التنوير الألماني. أتتني أُمّي بأدب القرن الثامن عشر، وغطّستني خصوصاً في نصوص فريدريك شيلر. لستُ أقرب إلى نظريات ماركس مِن شعرية شيلر.

تستطيع بكتاب “رأس المال” أن تملك جهازاً مفاهيمياً يفتح عينَيك على متناقضات العالم، فتفهم كيف تعمل هذه الآلة الكبيرة. لكنَّ اللغة الشعرية ستجعلك تفكّر في ما لم يُقَل بعدُ. في ما بقي في الظلّ بعيداً عن شمس ماركس.

أن تُفكّر مثلاً بتعمُّق في الشعوب التي تحلّ من خلالها الدولُ الرأسمالية أزماتها. سافر ماركس إلى الجزائر، لكنه لم يأخذ سوى ملاحظات متعلّقةٍ بفرنسا في الجزائر. لم ير الجزائريّين. ذهب بجسده لا بفكره. بقي الاستعمارُ قضيّةً هامشية، مجرَّد ميكانيزم يُفسِّر توسُّع رأس المال. إنه قضية “أطراف” في النهاية عندي كلّ المنظّرين الأوروبيّن.

أنا رأيت الاستعمار كعملية تمزيق للحم الحي. في كتاب “تراكم رأس المال” كان يمكنني ضرب الأمثلة والذهابُ بسرعةٍ إلى التنظير، لكنّني حرصتُ أن أُسلّط الضوء بشكل تفصيلي على عملية مرور المشرط وهو يُقطّع أجساد شعوب بعيدة مثل مصر والصين. بعد أن تتعرّض تلك المجتمعات إلى “صدمة” الرأسمالية، تجد نفسها تعيش بإعاقة تتراكم بقدر ما يتراكم رأس المال لدى الغزاة.

تمنحك الفلسفة حس النقد الجذري، ويعطيك الاقتصاد السياسي مفردات لتحليل الظواهر، ويقودك التاريخ لتتبُّع كيف آلت الأمور على النحو الذي وصلَت إليه. ولكن كلّ هذه المعارف لن تجعلك تشعر بالناس حين تتعرّض حياتهم للفرم. لا بد أن تسكنك مخيّلة شاعر حتى تتمّكن من العبور إلى هذه المنسيات الفكرية.

من هذه الزاوية، يمكنكم أن تروا أيضاً معركتي ضدّ الحرب. أتساءل كيف لم يفهم الكثير من الرفاق تلك العلاقة الوطيدة بين استمرار الرأسمالية وتلاحُق الحروب. بعض الرفاق حين شعروا بأنَّ لديهم مصالح من وراء الحرب باتوا يُبرّرونها. قلة من رفقوني في هذه المعركة. في الغالب كانت رفقتي من النساء، هنّ من يشعرن بلا جدوى الحروب. لعلّ الأمر كما تقول زفيتلانا أليكسفيتش “ليس للحرب وجه امرأة”.

قبل الحرب الكبرى كنتُ من بين أعضاء “الحزب الاشتراكي الألماني”. تفاجأتُ – مع قلّة من الرفاق – حين صوّتَت القيادات لدعم دخول ألمانيا الحرب. كيف لم يفهموا أنّ هذه الخطوة ليست في مصلحة العمّال؟ ليست في مصلحة سوى طغمة الحكم؟ بالتأكيد أنّهم يعرفون، لكنّهم لا يتحرّكون إلّا وفق حسابات الربح والخسارة الشخصية.

وقتَها، أدركتُ نهاية “الحزب الاشتراكي الألماني”؛ ذلك الذي بدا أمل البروليتاريا في العالم، وكان قبولُ عضويّتي فيه تتويجاً واعترافاً طالما حلمتُ بهما. في 1914، كان واضحاً أن الحزب قد شاخ وأصبح عبئاً على التاريخ. ينبغي أن نعرف متى تدخل طموحاتنا إلى الشيخوخة فتُصبح مصدراً للجبن والإذعان. كان من الضروري التفكير في بديل، فانبثقت “رابطة سبارتاكس”.

أولئك الذين انفضحت ميولاتُهم حين وقفوا في صفّ الحرب – وضدّ مصلحة الشعب – قرّروا أن يعاقِبوا كلَّ صوت يناهضهم. كان عليَّ أن أدخل مرحلةً جديدة مِن الاعتقالات المتتالية.

أثناء محاكمتي في فرانكفورت، قرّرتُ أن أقلب الأدوار. جعلتُ مِن كلمة دفاعي مرافعةً ضدّ الحرب، محاكمةً للمحكمة. وصلت أفكاري للناس على الرغم من الأحكام المجحفة ضدّي. أمضيت معظم فصول الحرب الكبرى وأنا في الزنزانة، وحين أُفرج عنّي مع الثورة، شعرتُ بطاقة جبّارة تدفعني.

بدأتُ مغامرة جديدة حين أطلقنا صحيفة “الراية الحمراء”. ما أجمل أن يصل صوتك ويعيد تحديد الاتجاهات حين يُزيِّف بعضُهم كلَّ شيء ويُشتِّت الناس. لا تزال الحرب قائمةً ضد دعاة الحرب. صار من الضروري مقاومة النزعة القومية الطاغية التي تتلاعب بمشاعر الناس.

في زمن سابق، كنتُ ضد استقلال بولندا، لأنها خطوة تؤخّر استقلال الإنسان. وكنتُ ضدّ تلك الأفعى الصهيونية الصغيرة التي أطلّت برأسها في ذلك الوقت وصارت في أيامكم ثعباناً ضخماً يغذيّه الأباطرة الجدد.

معارك كثيرة مفتوحة أمام “الراية الحمراء”، كنتُ في حالة من التدفُّق في الكتابة، وكانت الأحداث تتسارع بشكل رهيب. ربما، بسبب ذلك النسق الجنوني، بين الكتابة والاجتماعات والتحرّكات الميدانية، لم أنتبه إلى الكثير من العقارب التي تقترب منّي، وقد أطلقَها من يريدون احتكار تقرير مصير ألمانيا.

يُذكّرني ذلك بمعارك قديمة خضتُها ضد أولئك الذين يريدون احتكار النظر إلى المستقبل. كم تتمنّى قلوبُهم أن يجدوا حجّة كي يقولوا لك إنّك غير صالح للتفكير. هؤلاء الذين يعيشون بِوهم أنهم أنبياء، فيُحوّلهم هذا الوهم إلى قائمين على عمليات الإخصاء الفكري.

كم أحرجتُ هؤلاء حين كنتُ أدخل في سجالات نظرية معهم. وأحرجتُهم أكثر حين جمعتُ كلّ المقوّمات كي أجدّد النظرية الماركسية. ليس التنظير ترفاً. التنظير هو التنوير في أدقّ معانيه. التنظير الذي لا يؤنّث لا يعوّل عليه. هناك علاقة حيوية ينبغي رعايتها بين الواقع وبين عالَم الأفكار. ولكي يضمن بعضُهم تسيير الواقع يقطعون صلة الرحم بين الفكر والممارسة.

لكنّني انتبهتُ أيضاً إلى أنَّ التنظير يمكن أن يكون هو الآخر شكلاً من أشكال العمى. وهناك من يعتمده للتضليل، مِن دون أن ينفي ذلك في شيء ضرورتَه. هل علينا أن نتوقّف عن التفكير لأنّ البعض يستعمل الأفكار للتضليل، أو لأنّ البعض الآخر سيغضب إن سبقناه إلى الحقيقة؟

يبدو أنَّ هؤلاء كانوا يَمدّونني برغبة أكبر للكتابة. تصوَّروا أنّني قرّرتُ الذهاب أبعد مِن ماركس، ودراسة الجذور التنظيرية للرأسمالية لدى كيناي وسميث. قلتُ في نفسي: لن يتغيَّر العالم إلّا بإعادة ترتيب البدايات؛ النظرية والتاريخية منها.

ألقيتُ سلسلة محاضرات بعنوان “مدخل إلى الاقتصاد السياسي” أعدتُ فيها بناء التاريخ. قلتُ إعادة بناء التاريخ؟ أعتقد أن كلَّ مفكّرٍ – جديرٍ بهذا اللقب- عليه أن يفعل ذلك، وإلّا بقي يستهلك العالَم كما وصله.

يُقال إنّه لم ينجُ مِن هذه الدروس سوى بعض المقاطع، ربما كان سيكون كتاباً جيّداً. من حسن الحظ أن كتابي “تراكُم راس المال” قد نجا. هناك رغبة حقيقية في طمس كلّ شيء يتعلّق بي.

نسيتُ أن أُخبركم بإحدى الوسائل التي كانت تُستعمَل لقمعي. في الخلايا الشيوعية، كانوا يُسرعون إليَّ كي يعهدوا بمهمّات تتعلّق بالتعبئة النسائية. يقولون: “لا أحد يقدر أكثر منك على هذا. إنها أكبر خدمة تقدّمينها للحزب”. قلتُ: لا. أنا دكتورة في الاقتصاد السياسي. إضافتي ستكون في التنظير.

لولا زيورخ ما كنتُ أملك هذه الحجة. كانت الجامعات الألمانية لا تقدّم شهادات التخرّج للنساء. زيورخ كانت المدينة الأقرب لتحقيق حلمي. أحتاج جامعةً تسمح لامرأة أن تبلغ درجة الدكتوراه. حصلتُ في البداية على تسجيلٍ في علوم الأحياء، لكنَّ تيارات الهواء الفكرية قادتني إلى دراسة الاقتصاد السياسي. وفعَلتُها؛ صرتُ دكتورة في الاقتصاد السياسي بأطروحة حول تطوُّر الاقتصاد البولندي.

مِن دون معركة، فنّدتُ الكثير من المقولات. إذا كانت المرأة قادرةً على تفكيك معطيات الواقع والسيطرة عليه فكرياً، كيف تُحرَم من الشهادة الختامية. وقبل ذلك كيف تُحرَم من التصويت في الانتخابات؟

تلك معارك جانبية خضتُها حين توجّهتُ إلى ألمانيا. كان من الضروري أن أكون في برلين وتحديداً ضمن “الحزب الاشتراكي الألماني”، وقد نجح في تعبئة الأنصار حوله لسنوات وبات قوّةً فاعلة في كامل أوروبا. كما أن القانون الألماني منحه شرعية التحرّك.

لكي أكون في ألمانيا، اضطررتُ إلى “زواج أبيض”. رتّب لي الرفاق ارتباطاً مع مواطن ألماني كي أحصل على الجنسية. لم أره منذ عقد الزواج في البلدية. ذبتُ منذ ذلك الوقت في مجتمع النضال البرليني وكأنّني في حلم.

على فكرة، لو ذهبتُم إلى برلين اليوم، لن تجدوا الأماكن التي عشتُ فيها. لم تُطمَس بشكل مقصود. ولكن الطوفان ذهب لاحقاً بكل شيء. آثار الجلّادين والضحايا. كلُّها قد رَحَتها آلة الحرب بعد أقلّ من نصف قرن. لن تجدوا أماكن التظاهُر، لن تجدوا الجسور، لن تجدوا السجون، لن تجدوا حتى نفس الهواء الذي كان الناس يتنفّسونه. ستجدون نسخةً مِن كلّ شيء، ولن تجدوا برلين كما عرفتها.

هل من المهم حقّاً أن تبقى الآثار الدالّة على وجودنا… أن تكون لنا شواهد رخامية على قبورنا؟ لا أنصحكم حتى بالإبقاء على النصوص باعتبارها شواهد رخامية.

الصور الأيقونية يصنعها الآخرون. أحبّ الصورة التي نصنعها لأنفسنا، هي عارفة بما فينا مِن عدم اكتمال. يشوبها التعب والانهيارات الصغيرة والظرفية. ذلك هو الإنساني في النهاية. ذلك الاصطدام بالنقص.. ربما يختزلني البعض في مقولة لينين: “روزا هي ممثّلة الماركسية الأكثر نقاءً”. وربما تستمعون إلى الأسطرة النسوية التي تشتغل على اسمي منذ ثلاثة عقود. لكنّني أفضّل أن أكون روزا الإنسانة، بطموحاتها وإخفاقاتها.

حتى أحلامي لا تأخذوها كما هي. حتى أحلام العدالة الاجتماعية والحريات والحب والسعادة. لكم أن تغذّوها بأحلام جديدة. عليكم أن تفعلوا ذلك. تغيَّر العالَم كثيراً، فلن تجدوا الفضاءات التي زرعتُ فيها أحلامي كما هي.

لم تعُد الماركسية كما كانت. لم تعُد حلماً. لم تعُد يوتوبيا. وبالتالي لن تُحرِّك الناس كما كانت تفعل. التقطوا ما يمكن أن يكون يوتوبيا مِن كلّ ما حولكم. هناك في ما كتبتُ إشاراتٌ إلى عالَم جديد، ليس من المهم أن تكون منتظمة في نظرية، اتركوا الأفكار تشتغل في المخيّلة أيضاً… دعُوها تتلامس مع الأحاسيس والحياة اليومية. هكذا تسمحون للثورات أن تكون بحجمٍ إنساني.

الإنسان كما أراه هو نقطة وسط بين الضحية والجلاد. لا ينبغي له أن يكون أحدهما. لذلك وقفتُ ضدّ الرفاق الذين كانوا يستعدّون لأن يكونوا جلّادين، وأرفض اليوم أن أكون ضحية.

ماركس كان يعتقد أن الرأسمالية تسير إلى حتفها بدفع من تناقضاتها. لكنَّ الرأسمالية تستطيع أن تؤجّل السقوط في الهاوية. ها أن المسافة التاريخية بيني وبينكم تُثبت ذلك. كنتُ أفكّر كثيراً في الأمر، ولكم أن تفكّروا معي. تجعل الرأسمالية العالَم يشعر دائماً أنه في حالة سقوط مِن دون أن يبلغ الهاوية. ألا تشعرون بذلك – بشكل أكثر وضوحاً – اليوم؟ فكِّروا أيضاً كيف ينبغي أن تديروا الأمور في عالَم بصدد السقوط باستمرار. عليكم أوّلاً أن تُفكّروا بشكل مختلف.

رفيقتكم روزا

كاتب صحافي وباحث من تونس، مقيم في فرنسا حالياً. يعمل منذ 2015 محرّراً في صحيفة “العربي الجديد”.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة