
روسيا والغرب… زرٌّ نووي وآخر تكنولوجي
مع التضييق الغربي على روسيا، نشاهد كيف أنّ هناك أدوات في غاية الخطورة لم نحسبها من قبلُ أسلحة؛ تُستدعى كما يُستدعى جيش الاحتياط وقت المعركة الحربية. حتى "الفيفا"، التي تُنادي دائماً بـ"تنظيف" الرياضة من السياسة، أنشبت مخالبها بلا رحمة في لحم الدبّ.
تفكَّك الاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينيات، وأصبح الكوكب تحت سيطرة ثالوث ليبيرالي؛ أميركا، وغرب أوروبا واليابان، فيما ذهبَت روسيا الجديدة إلى سنوات من المراجعة وإعادة الترتيب. ربّما استفادت من الصراع الضاري بين الثلاثي القوي، ولكنها لم تنتبه إلى أنّ مفهوم القوة قد تغيّر خلال سنوات غيابها عن المواقع الأمامية في النظام العالمي.
في حربها ضدّ أوكرانيا، لا يقف أمام الآلة العسكرية الروسية إلّا عزيمة الأوكرانيّين وبعض التكتيكيات التي تستطيع تعطيل التقدُّم. لكن يعسر أن تستطيع وقفه بشكل كامل. أملُ الأوكرانيّين الحقيقيُّ هو حلفاؤهم، في الغرب؛ فهؤلاء يملكون الأسلحة الفاعلة لإخضاع موسكو وكفّ أذاها عنهم.
وهنا يظهر تحوُّل مفهوم القوّة من عصر إلى عصر. لا تزال روسيا تعيش في زمن الدبّابة والترسانة النووية والقصف الصاروخي، أمّا خصومها فهم يملكون، إضافةً إلى كلّ ذلك، آلة الدعاية ومسالك الأموال بين البنوك ودفّة البنية التكنولوجية للعالم. فإذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يُهدِّد بالزر النووي، فإنّ أميركا استعملت بلا تردُّد الزرّ المالي، من خلال إيقاف ربط روسيا بنظام “سويفت” الذي يربط التحويلات المالية بين دول العالم.
وفي أوروبا، وبما يشبه كبسة زر أيضاً، أوقفت فرنسا وألمانيا بثّ القنوات التي تروّج لوجهة النظر الروسية. وهكذا يجد بوتين نفسه، بعد أيام من اجتياح أوكرانيا، بلا صوت، إلّا ما تسمح به الدول الغربية التي لن تُظهر إلّا الوجه البشع منه، مُعيدةً بناء صورة الروسي الشرّير؛ تلك التي وُظّفت بشكل واضح في السينما الأميركية طيلة الحرب الباردة.
لكن الأخطر من كلّ ذلك هو سلاح العزل التكنولوجي. زرٌّ آخر يمكن أن يضع روسيا في وضعية غير مريحة. وهذا الزرُّ لا تملكه دولة بعينها، بل شركات عابرة للقارّات أقوى من الدول وأكثر شراسة منها عندما يتعلّق الأمر بمصالحها. إنّه سلاحٌ سحري يمكنه أن يُحوّل دبّاً إلى قطّة.
زرُّ تتحكّم به شركات عابرة للقارّات أكثر قوّةً وشراسةً من الدُّوَل حين يتعلّق الأمر بمصالحها
روسيا، التي تظهر اليوم معتديةً، لم تدخل هذه الحرب إلّا استباقاً لعملية الابتلاع التي يُعدّها لها الغرب منذ سقوط جدار برلين. لا ننسى أن خروج الجمهوريات المستقلّة، وأوكرانيا إحداها، من الاتحاد السوفييتي، كان خطوةً نحو هذا الابتلاع، ثُمّ استدرج الاتحاد الأوروبي عدّة بلدان كانت تدور في الفلك الروسي، وهي الخطوة التي استشعر منها الروس المكرَ الغربي. وعندها سلّم بوريس يلتسن، وهو يشعر بشيخوخته، مقاليد الحلم للرجل القوي بوتين.
بعد ترتيب حالة الاستقرار داخل الفيدرالية الروسية إثر تسوية دموية للملف الشيشاني، بدأ بوتين يُعدّ لرجوع روسيا إلى موقع أساسي ضمن النظام العالمي. لكنّه وجد أنّ سنوات الاهتزاز قد وضعت في خاصرته الكثير من السكاكين؛ ومنها أوكرانيا التي بدأت تُعلن نواياها، بفعل التحريك الغربي داخل أراضيها عبر المنظّمات الدولية، في دخول الاتحاد الأوروبي وكذلك حلف الناتو. ولصدّ هذه الرغبات التي تقع عكس طموحات روسيا الجديدة، نجح بوتين في إدارة ملف القرم دون استعمال الخيار المسلّح، ولكن المسألة الأوكرانية ظلّت تتعفّن باستمرار، ليفرض الحلُّ العسكري نفسه في 2022.
الخطأ الروسي واضح من منظور الخطاب السياسي السائد، فهو على غير هوى النظام العالمي. لكنّ موسكو، من منظور مواقعها الاستراتيجية على خارطة العالم، دُفعت إلى تأمين حضورها، ولم تتورّع في استخدام ذراعها العسكرية في سبيل ذلك. حين نتابع الأزمة الأوكرانية، نفهم أنّ قوّة روسيا لا تزال مختزلةً في دلالاتها التقليدية؛ قوّة الحذاء العسكري، وهو عنصر آخر يُشوّهها ويعزلها. أمّا الغرب، وهو ليس أقلّ غطرسة، فيتّكئ على “حذاء” تكنولوجي، إذا جاز التعبير، يستطيع أن يضرب به كلّ من لا يسير في فكله.
وعلى غير ما نعتقد، نحن العرب خصوصاً، من أنّها مؤامرة موجَّهة ضدّنا؛ أي ضدّ البلدان الصغيرة وشعوبها التي تطمح أن تحيا بكرامة، فإنّ المنظومة الدولية التي أرستها العولمة تشتغل بشكل آلي ضدّ كلّ من لا يخضع لتوجُّهاتها. وبعد الدبّ الروسي، لا شكّ أنّ التنّين الصيني ينتظر معركته.
جميعنا مصفَّدون بما اخترعه النظام العالمي من وسائل أتتنا في البداية كمسهّلات لحياتنا
أيُّ شعب يستطيع، اليوم، أن يقاوم إذا ما مُنع من التواصل في الداخل والخارج؟ هذا المنع لا يحتاج إلّا قراراً من بضع شركات كُبرى. يمكن وضع أيّ بلد في ظلام معلوماتي دامس إذا قرّرت شركة مثل “غوغل” أن تحتجب عنها. لنعترف أنّنا، جميعاً، مصفَّدون بالوسائل التي اخترعها النظام العالمي… أتتنا في البداية كمسهّلات لحياتنا اليومية ومكرّسة للرفاهية، ثم باتت أصفاداً يصعب تصوُّر العالم مِن دونها. إنّها شكل آخر من أشكال أسباب الحياة، تأتي بعد الغذاء والهواء والمأوى.
أيُّ شعب يمكنه، أيضاً، أن يتحمّل الإهانة والحقد التي يواجهها الروس اليوم في مطارات وموانئ العالم (يعيش العرب ذلك كأمر طبيعي)؟ وأيُّ شعب يمكنه تحمُّل إقصائه من كل انفتاح على العالم؛ فنّياً كان أو رياضيّاً أو علميّاً أو غير ذلك؟
نشاهد مع خطوات التضييق الغربي على روسيا كيف أنّ هناك أدوات في غاية الخطورة لم نحسبها من قبلُ أسلحة: منظّمات حقوقية وثقافية تلعب دور الحليف الاستراتيجي لأميركا وفرنسا وألمانيا، تُستدعى كما يُستدعى جيش الاحتياط وقت المعركة الحربية. حتى “الفيفا” – التي تُنادي دائماً بـ”تنظيف” الرياضة من السياسة – أنشبت مخالبها بلا رحمة في لحم الدب.
ذلك هو النظام العالمي، وروسيا تُقدِّم محاولات تراجيدية كي تقفز على أسواره، قبل أن تنطبق كلُّ فخاخه عليها. لقد عوملت روسيا دائماً كعدوّ، وما يحدث اليوم ليس إلّا عدوانية بوجه عارٍ. حين نسمعه يتحدّث عن كون الغرب هو البادئ بالاعتداء، فإن في كلام بوتين الكثير من الصحّة. إنها كلمة حق، لكنها – وهنا المأساة – كلمة حق تخرج من فم طاغية.

ناشطٌ مدني وكاتب مقال ورسّام كاريكاتير تونسي من مواليد 1975. يعمل في القطاع المالي والاستشاري، ويهتمُّ بأدوات تجديد الثقافة السياسية وتنظيم التطوُّع الشبابي لخدمة قضايا الشأن العام والبيئة.