
“ساحة الجمهورية”… مهاجرون جزائريّون لم يُغادروا وطنهم
باتت الساحة التاريخية في باريس رمزاً لحَراك الجالية الجزائرية في فرنسا. يكفي قضاء بعض الساعات مِن يومَ الأحد فيها لنلمس التزام الجزائريّين المهاجِرين بقضايا بلادهم وحجم الآمال التي يعقدونها بغدٍ أفضل.
فبراير/ شباط 2019. ما إن خرجتُ مِن محطّة المِترو التي تقود سلالمُها الحجرية إلى قلب “ساحة الجمهورية” في باريس، حتى تراءى لي تمثُالها الشهير، الذي يرمز إلى الجمهورية الثالثة، وقد حَجبَت أجزاءَ منه حشودٌ مِن المتظاهرين يتوشّحون أعلاماً جزائرية ويُردّدون بحماسٍ هتافات الحَراك الشعبي، بينما تَوزَّع آخرون في الساحة التي باتت رمزاً لحَراك الجالية الجزائرية في العاصمة الفرنسية.
بدا المشهدُ مُقتطَعاً مِن المظاهرات التي ظلّت مستمرّةً في مدُن الجزائر كلَّ جمعة وثلاثاء طيلةَ ستّة وخمسين أسبوعاً… الشعاراتُ نفسُها تتردَّد بين الضفّتَين، والحماسة والآمال بجزائر أفضل هي نفسُها أيضاً.
جمعةٌ هناك.. أحدٌ هنا
منذ انطلاق الحَراك الشعبي في الثاني والعشرين مِن فبراير/ شباط 2019، تحوّلَ الأحدُ، وهو يومُ عطلةٍ في فرنسا، إلى موعدٍ جزائريّ في باريس ومدُنٍ أُخرى؛ ليسَ فقط للتظاهُر ضدّ السلطة الحاكمة في وطنهم الأُمّ، بل أيضاً لتبادُل نقاشاتٍ تشترك فيها كلُّ التيارات والأيديولوجيات على اختلافها.
هنا في “ساحة الجمهورية”، يتداوَلُ المتظاهِرون على المنابر الموزَّعةِ بين أرجائها للحديث عن مستجدّات الوضع في الجزائر والتطوُّرات المتسارعة في مشهدها السياسي، وتقديم تصوُّراتهم عن مستقبَل بلدٍ تتنحّى الوجوهُ القديمة المتشبّثة بالسلطة عن حُكمه ويتّجه إلى تأسيس نظامٍ ديمقراطي تُصبح استقلالية القضاء وحرية التعبير فيه واقعاً لا شعاراً. وطيلةَ سنتَين، لم تخلُ أيُّ مظاهرةٍ مِن صوَر معتقَلي الرأي.
وعادةً ما يتحوّل التجمُّع إلى مسيرةٍ ضخمة تنطلق مِن “الجمهورية” إلى ساحتَي “الأُمّة” و”الباستيل” المجاورتَين؛ حيث تقطع أمواجٌ بشرية، يتقدَّمُها فنّانون وسياسيّون وناشطون بارزون، مسافةَ ساعةٍ مِن المشي عبر “شارع فولتير” في تنظيم مُحكَم وتناسُق لافِت.
اسمي كريم
في “ساحة الجمهورية”، لفتَني شابٌ – بدا في بداية العقد الثالث مِن العمر – وهو ينزل مِن أعلى النُّصب الذي صمّمه الأخوان موريس في ثمانينيات القرن التاسع عشر. هيئته وحماسته تُوحيان بأنّه أحدُ المهاجِرين غير القانونيّين، والذين كثيراً ما يُضفون على الحَراك الباريسي نكهةً خاصّةً بأهازيجهم وشعاراتهم السياسية الساخرة وأغانيهم المهرَّبة من ملاعب كرة القدَم الجزائرية.
دفعني الفضول للتحدُّث إليه. أخبرَني باسمه. وبعد بعض تردُّد راح كريم يروي لي قصّةَ عبوره البحر على متن زورق مطّاطي إلى اليونان، واجتيازه مسافاتٍ طويلةً مِن براري أوروبا الباردة حافياً، وفقدانه صديقَيَن له مِن أبناء حيّه خلال تلك الرحلة. أخبَرَني، أيضاً، أنَّ ملجأه الوحيد هو جسرٌ في “حي بارباس” بباريس.
– هل ترغب في العودة إلى وطنٍ اختبرتَ تلك التجربةَ القاسية مِن أجل مغادرته؟
أجابني بلهجةٍ واثقة: “وعلاش راني هنا اليوم؟”، في إشارةٍ إلى أنَّ أمله في مستقبَل أفضل لبلاده هو ما دفعه ليكون مع المتظاهِرين.

(تصوير: محمد الزاوي)
كان ذلك في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019. وحينها، كانت قوارب المهاجرين السريّين المنطلِقة مِن سواحل الجزائر قد توقّفت تماماً، بفِعل ما بثّه الحَراك مِن آمالٍ عريضة في نفوس الجزائريّين، قبل أن تُستأنَف في ما بعد.
ظلَّ كريم يأتي كلَّ أحدٍ إلى الساحة للتظاهُر الذي يُمثِّل، بالنسبة إليه، إحياءً لذكرى قتلى البحر المتوسّط: “وحدَهُم مَن في السلطة يتحمّلون مسؤولية موتِهم التراجيدي، ويتحمَّلون وزر كلِّ دمعةٍ تذرفها أمّهاتهم المفجوعات”.
شاي في “الجمهورية”
في المكان نفسه، التقيتُ مريم التي دعَتني إلى كأس شايٍ في خيمةٍ نصبتها وسْط الساحة لعرض ملصقات ومناشير تتضمَّن مطالب المتظاهرين وتشرَح تصوُّر ناشطي المجتمَع المدني للجالية حول حلّ الأزمة في البلد الأُم.
لهذه المهندِسة ذاتِ الملامح الأوروبية قصّتُها الخاصّة أيضاً؛ فهي لم تزُر الجزائر قطّ… جُنّد والدُ جدِّها إجبارياً للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، ثم بقيَ في فرنسا؛ حيث تركَ عائلةً اندمجت في نسيج المجتمَع الفرنسي.
تقول مريم، التي تبلغ قرابة أربعين عاماً اليوم، إنَّ كلَّ ما تتمنّاه هو “العودة” مع زوجها وأولادها للعيش في أرض الأجداد؛ لأنّها تطمح إلى نقل خبراتها في المعلوماتية والذكاء الاصطناعي للشباب هناك.
لا تحتاج الجزائر لاعبي كرة القدم مِن فرنسا فقط، بل إلى مبدعِيها في جميع المجالات
قادنا النقاشُ إلى الحديث عن القوانين التي تحاصِر المستثمِرين وتقف حاجزاً أمام رغبة الجزائريّين مِن أصول مهاجرة في الاستثمار في وطنهم الأُم. وبنبرةٍ من الأسى، قالت: “الجزائر ليست بحاجةٍ فقط إلى لاعبي كرة القدم مِن فرنسا… هي تحتاج، أيضاً، إلى الأطباء والمهندسين والمبدعِين في جميع المجالات. وما إن تفسح لنا الطريق حتى نذهب إليها جماعاتٍ وفرادى”.
سمعتُ الكلام نفسه مِن شباب آخرين من أصول جزائرية، بعضُهم مِن أبناء الجيل الثالث والرابع مِن المهاجرين، وجميعُهم يتمسّكون بجذورهم ويُريدون وطناً يجمع كلّ أبنائه ويفتح أبوابه لكلِّ الجنسيات والعرقيات والثقافات.
غير بعيدٍ، كان عبد الرزاق جودي، وهو ناشطٌ سياسي، يُحاوِر مجموعةً مِن المتظاهرين، بينما كانت شاشاتُ الهواتف مشهَرةً في وجهه. وأنا أستمع إليه، تذكَّرتُ “معاركه” على فيسبوك وردودَه على الانتقادات اليومية التي تُطاوِله لكونه “يُعارِض سلطة بلاده انطلاقاً مِن بلد المستعمِر السابق”.
لم يكُن يتوانى عن التذكير بمساهمةِ المهاجرين الجزائريّين في مسيرة تحرُّر الجزائر مِن الاستعمار. وفي تلك المحاوَرة، توجّه إلى “خصومه” عبر كاميرات الهواتف المصوَّبة نحوه، قائلاً بنبرة تحدٍّ: “أنا هنا على خطى هؤلاء الذين تجمّعوا في باريس قبل خمسة وتسعين عاماً، وأسّسوا حزب نجم شمال أفريقيا؛ أوِّل حزب تبنّى أطروحة الاستقلال”، في إشارةٍ إلى حاج علي عبد القادر، وحموش آكلي، و”أب الحركة الوطنية الجزائرية” مصالي الحاج وغيرهم.
جزائريات…
على عكس مظاهَرات الجزائر، لم تجذب المرأةُ المهاجرة الكثيرَ من الأضواء في حَراك الجالية الجزائرية بفرنسا؛ حيث يُعدُّ حضور النساء في الفضاء العام ومشاركتهنَّ في التظاهُرات أمراً معتاداً. غيرَ أنَّ الحركات النسوية سجَّلت حضوراً بارزاً في “ساحة الجمهورية”، مِن خلال نقاشاتها التي تُرافعِ حول حقوق المرأة وقانون الأسرة في الجزائر، وتُطالِب بالمساواة ومنح النساء فُرَصاً لتقلُّد مناصب سيادية، بدلاً مِن حصرهن في مسؤوليات شكلية إرضاءً للمجتمع الدولي.
صنهاجة أكروف؛ واحدةٌ مِن الشخصيات الفعّالة في حَراك الجزائريّين بفرنسا. هي سيّدة في عقدها السادس تترأّسُ جمعية “حركة العمل مِن أجل التغيير في الجزائر” التي تُسهِم في الإشراف على تنظيم حَراك الجالية.
شاركت أكروف، التي يُساعِد شعرُها الأحمر في حفر صورتها في ذاكرة كلِّ من يلتقيها، في تنظيم لقاءات وندوات حول الثورة السلمية في الجزائر. ولم تكُن تستلم الميكروفون مِن دون أن تُذكِّر بما تعتبره إجحافاً بحقّ المرأة في نصوص قانون الأسرة الذي تَرى أنه “يجعل مِن النساء مواطِنات قاصرات”.
ولا تستقطبُ تلك النقاشات النساء فحسب؛ بل كثيراً ما ينضمُّ إليها رِجالٌ لا يتردَّدون في تبنّي الخطاب نفسه.

(تصوير: محمد الزاوي)
في “ساحة الجمهورية” أيضاً، التقيتُ الطبيبة عقيلة آرزي التي ظلّت وفيةً للتجمُّع الأسبوعي منذ بدء الحراك؛ إذ لم يمنعها عملُها خلال الظروف الاستثنائية التي فرضها وباء كورونا مِن المشاركة في ما يعتبره المهاجرون “ثورةً ثانية”. وخلال الأحاديث التي جمعَتني بها في أكثر مِن مناسبة، اكتشفتُ فيها امرأةً ذاتَ ثقافة واسعة ووعيٍ سياسي والتزام بقضايا البلد الأُم.
شاركَت آرزي في تأسيس “تحالُف الديمقراطيّين في بلاد المهجر”، والذي كان ممثَّلاً في ندوة “قوى البديل الديمقراطي” في الخامس عشر مِن يونيو/ حزيران 2019 بالجزائر العاصمة. الهدف مِن ذلك بالنسبة إليها هو “التأكيد على أهمية إسهام الجالية في مُستقبِل الجزائر”.
إحدى القضايا التي تشغل آرزي هي تحقيق مبدأ المساواة بين الجنسَين. تقول في هذا السياق، “حتّى تأخُذ المرأة مكانتَها، نحنُ بحاجة إلى القطع ما النظام السياسي، ومع التفكير السائد أيضاً”.
فنونٌ والتزام سياسي
لعلَّ زيارةَ “ساحة الجمهورية” يومَ الأحد ستكون ناقصةً مِن دون المرور على مربَّع التشكيليّين المهاجرين؛ حيث يعتكف الفنّانون على إنجاز جدارياتٍ تستمدُّ عناوينها من مستجدّاتِ الوضع في الجزائر، وكثيراً ما يُسهِم المتظاهرون أيضاً في رسمها.
بينَ الحين والآخر، يُشارك في التجمُّع موسيقيّون وفنّانون وكتّاب؛ مثل المغنّي عبد الرؤوف درّاجي الذي اعتُبرت أغنيته “ليبرتي” بمثابة نشيدٍ للحراك، والفنّانة سعاد ماسي التي أدّت، غير ما مرّة، عدداً مِن أغنياتها الملتزمة وسط الساحة.

(سعاد ماسي في “ساحة الجمهورية”، مارس 2019 – تصوير: إلزا كوردييه)
أخبرَتني، في أحد لقاءاتي بها، أنّها تُصرّ على المشاركة مع المتظاهرين بطريقتها الخاصّة، وأنَّها لن تتردَّد في مسانَدة معتقَلي الرأي، كما عبّرت عن استيائها مِن واقع الحريات في الجزائر، قائلةً إنَّه مِن غير المقبول أنْ يصل تقييد حرية الرأي إلى سَجن أشخاص لمجرَّد أنهم كتبوا منشوراتٍ تُطالِب بإحقاق العدالة.
سبق لصاحبة “واقفة” أنْ عبّرَت عن معارضتِها لترشُّح الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة لعُهدة رئاسية خامسة بأغنية “في بالي”. وعن ذلك تقول: “التزامُ الفنّان بالقضايا السياسة هو خيار شخصيٌّ في النهاية، وإنْ كان مِن الجيّد أن يُوظِّف شهرته في الدفاع عن قيَم الحرية”، مضيفةً: “لم يكُن التزامي السياسيُّ وليدَ الحَراك الشعبي؛ فقد ألّفتُ وأدّيتُ، قبل ذلك، عدّة أغنياتٍ عبّرتُ فيها عن آرائي السياسية، لأنّني أطمح إلى حدوث تغيير في بلدي، والتوجُّه نحو إرساء الديمقراطية والحريات”.
تختتم سعاد ماسي حديثها بالقول إنّها واثقةٌ مِن “انتصار الحقّ في آخر المطاف”، وبدعوة مَن هُم في السلطة إلى احترام مطالِب الجزائريّين.

كاتبة وصحافية جزائرية تُقيم في باريس منذ 2012. عملت سابقاً في التلفزيون الجزائري وتعمل حالياً في إذاعة فرنسية. صدرت لها مجموعتان قصصيّتان؛ هما: “أزرق جارح” (2009)، و”البرّاني” (2016)، ومسرحية بعنوان “مدن الكرتون” (2013).