سماهر القاضي… كاميرا تواجِه تاريخاً من الذكورية
يمثّل الفيلم الوثائقي، "كما أُريد" (2021)، مواجهةً مع الذات والمجتمع بمرآة عاكسة تضع المُشاهد أمام أسئلة حرجة حول العنف وحقوق المرأة وإمكانيات تحرُّرِها في مجتمعات مكبَّلة على أكثر من مستوى. هنا حوارٌ مع مخرجته الفلسطينية.

يتسرّب الفيلم الوثائقي الطويل “كما أريد” (88 دقيقة) للمخرجة الفلسطينية سماهر القاضي من حالة غضب، ويُظهر الروح القتالية للمرأة المصرية في ثورتها ضدَّ سلسلة الاعتداءات الجنسية التي حدثت سنة 2013 في الذكرى الثانية لثورة 25 يناير في ميدان التحرير. كما توثّق المَشاهدُ التسجيلية الحيّة امتداد تلك الممارسات الذكورية بشكل يومي في الشارع، حيث تحمل المخرجة الكاميرا، كما جنينها، في رحلة تعود بها إلى طفولتها في فلسطين.
المواجهة هي دمغة الفيلم، من الثورة إلى المظاهرات إلى الذاكرة إلى الطفولة. إنّها رحلة داخلية تسعى، هي الأخرى، إلى مواجهة الذات والمجتمع بمرآة عاكسة، تضعنا في دائرة أسئلة حرجة حول العنف وحقوق المرأة وإمكانية تحرُّرِها في مجتمعات مكبَّلة على أكثر من مستوى؛ فالبيئة القمعية التي لم يتغيَّر منها شيء إلى اليوم، هي نتاج مستويات معيشية متدّنية ووضع اجتماعي سيء تنتج عنه الكثير من المفاهيم المغلوطة والتشوُّهات المجتمعية جرّاء غياب الوعي.
في مشهد رمزي لافت، يَظهر طائر عالق بأحد جناحَيه في خيوط تتدلّى من مزراب إحدى البنايات وسط البلد بينما الجناح الآخر حرّ، تُخاطر امرأة بالتمدّد على حافة السطح محاوِلةً تحرير الجناح المكبّل بالاستعانة بعصا خشبية. وهنا يأتي السؤال: هل يمكن للطائر أن يطير بجناح واحد؟ بعد أن تنجح المرأة في محاولتها، يحلِّق الطائر عالياً في سماء القاهرة.
يُعرض فيلم “كما أريد” في فئة “الأفلام الوثائقية الطويلة” ضمن النسخة الخامسة من منصّة الشارقة للأفلام التي تُنظّمها “مؤسّسة الشارقة للفنون” في الفترة من 21 إلى 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
على هامش العرض، كان لـ رحبة هذا اللقاء مع المخرجة سماهر القاضي.
♦ ♦ ♦
كيف بدأت فكرة الفيلم؟
لم يكن أبداً في بالي إنجاز فيلم وثائقي تسجيلي بهذا الشكل وبهذه الطريقة الجريئة. حادثةٌ مُريعة كانت هي الشرارة الأولى: تعرُّض أعزّ صديقاتي للاغتصاب. درسَت معي في معهد السينما بالقاهرة، تزورني في البيت وأزورها، ابنها يلعب مع ابني، ونتقاسم الكثير من تفاصيل الحياة اليومية. في ذلك اليوم دُقّ الباب، فتحت وإذا بها أمامي في حالة يصعب وصفها، رمت رأسها على صدري وانفجرت بالبكاء. لم أكن أعرف وقتها ما حدث لها ولثلاث صديقات أُخريات في ميدان التحرير اغتُصبن بأبشع الطرق وسط الجموع الحاشدة التي خرجت في الذكرى الثانية لثورة 25 يناير إلى الشوارع؛ حيث تعرَّضن خلال هذه المظاهرات إلى مضايقات واعتداءات جنسية واسعة النطاق.
نعرف أنّ المرأة في المجتمعات العربية عموماً مضطهدة، وتابعة، ومحرومة من حقوقها، بل ومخنوقة. لكن أن يصل الأمر إلى هذه الدرجة من العنف، لم يعد بإمكاني أن أسكت. إذ لم يكن اغتصاباً وحسب، بل تجاوزه إلى التعنيف الجسدي، ومحاولة الذبح للتخلُّص من الضحية نهائياً. كلُّ هذا ولَّد بداخلي حالة من الإحباط التي امتزجت بغضب شديد، وبضرورة أن أعمل شيئاً، بما أملك، وكما أريد، باستعمال سلاحي الوحيد للدفاع عن نفسي: الكاميرا.
النزول إلى الشارع بشكل يومي بالكاميرا ألم يكن بنِيَّة إنجاز فيلم؟
نزولي إلى الشارع كان في البداية ردّة فعل عفوية. لم أكن أتخيّل أنّني سأسجّل كلَّ شيء يحدث في الشارع وليس فقط في ميدان التحرير، وهذا الأخير كانت فيه الأمور شبه منظّمة للتحرّش بالمتظاهرات واغتصابهن في دوائر ذكورية مغلقة بتواطؤ غريب. كما أنّ غالبية الذين كانوا يدّعون أنهم يحمون البنات وسط الحشود هم أنفسُهم من تحرّشوا بهن.
ما جعلني أفكّر في طريقة تعامُل المجتمع الذكوري مع جسد المرأة باعتباره “شيئاً”؛ شيئاً متاحاً للّمس والاحتكاك والتعرية والاغتصاب والضرب والسخرية. لكنّني، ورغم إحساسي المتنامي بالغضب، لم يخطر ببالي، حين مسكتُ الكاميرا ونزلتُ بها إلى الشارع، أنّني سأُنجز فيلماً. كنت أفتحُ باب بيتي وأخرجُ لأوثِّق كلّ ما يحدث معي. أفتح الكاميرا ولا أغلقها حتى أعود، وتَكرَّر الأمر على مدار ثلاث سنوات ونصف جمعتُ خلالها مئات الساعات المسجَّلة، والتي ترصدُ معاناة المرأة اليومية مع ظاهرة التحرُّش اللفظي والجسدي في الشارع.
لكنَّ أهمّ شيء ألهمني لإنجاز الفيلم، هو لمّا قرَّرَت النساء اللواتي تعرّضن للاعتداءات ألّا يصمتن. على إثر ذلك، نَظّمَت مجموعةٌ من الناشطات والفنّانات ونساء من مختلف الطبقات الاجتماعية مظاهرةً كبيرة امتدّت لحوالي خمس ساعات من “جامع السيّدة زينب” حتّى “ميدان التحرير”، رفعن فيها السكاكين وأدوات المطبخ وأصواتهن دفاعاً عن المرأة وحقّها في الحرية. كنَّ يحملن رموز الحركات النسوية في مصر منذ بداية القرن العشرين، ويطالبن بالحقّ في الوجود الإنساني والمساواة، دحضاً للمقولة السائدة “خلفة البنات همّ للممات”.
هذه المظاهرات، حين أعدتُ مشاهدتها، منحتني أحاسيس قوية جدّاً، كما أنّه حدث في تلك الأيام، ربما بتأثير من الثورة، أن تحدّثَت النساء لأوّل مرة في وسائل الإعلام عمّا تعرّضن له من اعتداءات. ومن هنا بدأت قصّة الفيلم.
ينتقل الفيلم من العام إلى الشخصي، من المظاهرات والنساء في الشارع إلى حياتك في فلسطين وإلى علاقتك بأمّك بالذات، كيف حدث هذا الانتقال ولماذا؟
الفيلم تحوَّل تحوُّلاً كبيراً بعد أن جاءت فكرة إدخال قصّتي وعلاقتي الشائكة بأمِّي في سياق الموضوع الرئيس، لأنّ أمّي ماتت في منتصف التصوير وأنا بعيدة عنها. للأسف، لم تُتَح لي الفرصة لأحكي لها عن الأشياء التي كانت في خاطري، كونها هي أيضاً ضحية مجتمع تقليدي وزواج مبكّر تكرَّر أيضاً مع أخواتي اللواتي كنّ يتوقّفن عن الدراسة في سنّ المراهَقة ويُصبحن أمّهات في سنّ صغيرة؛ طفولةٌ غير مكتملة، وأحلام مبتورة، وأفق مسدود. وكانت العائلة تجهزّني للعب الدور ذاته.
بالتأكيد، لم يكن الأمر سهلاً بالنسبة إليها، أن أسافر لوحدي إلى مصر للدراسة في معهد السينما، وأن أطمح لأكون مخرجة سينمائية وأحترف ما أحبّ. لم أحس بها وبكثير من النساء اللواتي يشبهنها، إلَّا حين رحلت وأنا حامل بابني الثاني. حينها، راودتني الكثير من الأسئلة الوجودية… أردت أن أحكي ما لم أستطع قوله لها مباشرةً من خلال الفيلم.
نحن هنا، وأؤكّد على هذا، لا نتحدَّث عن اضطهاد المرأة في العالم العربي فقط، بل في العالم كلّه؛ لأنّ البطريركية موجودة في كلّ المجتمعات، لذلك كانت ردّة فعل الجمهور قوية جدّاً خلال عرض الفيلم في أكثر من مهرجان، تماماً كما حدث في أماكن أُخرى من بلداننا. “كما أريد” كان بمثابة وصفة علاجية لصدمات كثيرة لي منذ الطفولة، امتزج فيها الخاصّ بالعام، ولم يكُن سهلاً عليَّ أن تغادر أمّي فجأةً دون أن أخبرها بأنّني فهمتُ لماذا كانت تعاملني بقسوة، وعرفتُ من أيّة بيئةٍ جاءت، وأنها هي الأُخرى ضحية تفكير تقليدي عام.
مقاربَةُ ما يحدث في الشارع امتزجت بما يحدث أيضاً في علاقتك بابنك زين، الذي كان حاضراً في مشاهد قوية أثناء تحوُّلات الشارع وتعرُّضك للتحرش والاضطهاد وأنت توجّهين الكاميرا إلى وجوه المتحرّشين. كيف تعاملت مع هذه الحالة؟
ربّما أنا امرأة – من بين قليلات – أرادت التعبير عن ذاتها بهذه الجرأة والحرية، لأنّ المنحى العام لحياة النساء في المجتمع صعبٌ بشكل لا يُصدَّق، وصراعي مع التحرُّش والمضايقات والألفاظ البذيئة في الشارع بسبب اللباس أو عدم ارتداء الحجاب لم يبق في الشارع، إنما انتقل معي إلى البيت. يتجسّد ذلك في حواري الدائم مع ابني الذي أردتُ منه أن يفهم أن أمّه ليست مجنونة تصرخ في وجه المارّة، إنما هي تدافع عن نفسها ضدّ من يعتدي عليها ولو لفظياً، وأنّه لا يحق لأحد آخر غريب أن يلمس جسدها، ليأتي سؤال زين البريء والمؤلم: “وأنا ماما هل أستطيع أن ألمسك؟”.
الصراع النفسي كان محوره سؤال: هل الأجيال التي سنُنجبها ونربّيها ستكون تماماً مثل الأجيال التي سبقتنا؟ سؤال تفرضه تأثيرات المجتمع والمدرسة والإعلام وغيرها، حتى – كما لاحظتَ في المشاهد الأُولى – كان ثمّة بناتٌ وأطفال يقولون لي: “بسبب لباسك هذا ستدخلين جهنّم”، و”الزوجة التي ترفع صوتَها مصيرُها الطلاق”، و”صوت المرأة عورة”… ثمّ يختمون كلامهم بالقول: “هكذا علّمنا أهلُنا وهكذا تَعلَّمنا في المدرسة”.
إلى أين نحن ذاهبون؟ هذا السؤال دفعني إلى فتح كلّ الصناديق المشمَّعة للذاكرة والطفولة والحاضر والماضي، من أمّي إلى شخصي إلى ابني وعلاقة كلّ ذلك بحَراك الشارع.
ألم يكن في مواجهة الرجال بالكاميرا نوع من المخاطرة؟
صحيحٌ أنّ النقاشات مع الرجال في الشارع يمكن وصفها بالمضحكة أحياناً، وفي أحيان أُخرى تعرّضتُ لتعنيف لفظي وهُدِّدتُ بالضرب. لكن ذلك لم يمنعني من رفع التحدّي ومواصلة ما نزلت من أجله. كانت الكاميرا، بشكل ما، مرآة لهم ولحقيقتهم… وكانت بالنسبة إليّ ثورتي الخاصة بالموازاة مع ثورة النساء وثورة البلد ككلّ.
كذلك، أردتُ أن أعطي الفرصة للرجال ليعبّروا عن آرائهم ويتفاعلوا مع ما حدث من انتهاكات مريعة، لأنه – مثلما يقول المثل – “يدٌ واحدة لا تصفّق”، وعلينا معاً أن نعي خطورة الظاهرة ومآلها وتأثيرها الذي سيمتدّ لأجيال، إن لم نضع حدّاً لها ونكشف المسكوت عنه. وأنا هنا أعتبر أنّني أحمل همّاً إنسانياً، بغضّ النظر عن أيّ تصنيف آخر.
كيف أنجزتِ الفيلم ومن موّله؟
استغرق التصوير ثلاث سنوات ونصف. وكنت خلالها أشتغل لوحدي مع مجموعة من الأصدقاء بشكلٍ تطوُّعي في ظلّ غياب الدعم المالي على المونتاج الأوّلي. ولما بدأت في البحث عن التمويل من أجل المونتاج وتجهيز الفيلم، كنتُ أواجه أسئلةً من قَبيل: “ما الذي سيقدمه عملك كإضافة أمام الأعمال التي تناولت الموضوع ذاته؟”.
كانت وزارة الثقافة الفلسطينية أوَّل من دعم الفيلم. ومع الوقت بدأت جهات أُخرى تهتم به وبدعمه حتى يُنجز، لأنّ دعم جهةٍ واحدة غير كافٍ، خاصّةً أنّني، حين سافرتُ إلى فلسطين، وجدتُ أشرطة فيديو لمناسبات عديدة في تاريخ العائلة فقمت بتصويرها، خاصة الأعراس منها. كان ذلك عاطفياً وأثّر عليَّ جدّاً وأنا أشتغل مع المونتير: فيديوهات لأمّي وأخواتي وأنا بينهنّ طفلة بعمر 13 سنة. هذه المادّة القديمة الجديدة أضاءت لي الكثير من النقاط في مسار إنجاز الفيلم، والذي لم أُرد له أن يكون وثائقياً كلاسيكياً. لكسر الإيقاع، خلقتُ مشاهد بالأبيض والأسود في غرفتي حيث كنتُ أخاطبُ وهمياً أمّي. غرفة الأبيض والأسود تلك هي بمثابة الجسر الذي يربط الذاكرة بالحاضر، العام بالخاص، وما نأمله غداً.
بعدها، جاء دعم آخر قوي من مؤسَّسة كندية، وحصلت على سنة كاملة من المونتاج ولو بطريقة متقطّعة. كما أنّني انتقلتُ من مصر، بعد أن قضيت فيها 19 سنة، وقدَّمت لإقامة فنية في فرنسا حتى أُكمل مونتاج الفيلم. وكانت صعوبات كثيرة في مواجهتنا. وفي الأخير دعمت جهات أُخرى عربية وأجنبية الفيلم بعد قبوله في “مهرجان برلين السينمائي” ضمن فعالية “لقاءات”.
كيف كان التفاعُل مع الفيلم؟
عُرض الشريط لأوّل مرَّة أونلاين في “البرلينالي” بسبب الجائحة، وبعدها عُرض مرّةً أُخرى في يونيو/ حزيران 2021 ببرلين. شارك العمل في أكثر من ثمانين مهرجاناً حول العالم وحاز 18 جائزةً إلى الآن.
كيف جرى إنجاز بوستر الفيلم؟
زوجي كريم الحكيم هو الذي أنجز البوستر، بعد محاولات عديدة، إلى أن حصل بالصدفة على هذه الصورة التي فيها حرف “النون” من كلمات كانت مكتوبة على بطني وأنا حامل. وطبعاً هي، كما أراها، تُعبِّر بشكل فنّي عن كلّ نساء العالم. وأنا سعيدةٌ جدّاً بدعمه كشريك حياة وكمنتج وفنّان سينمائي منذ البداية وحتى صدور الفيلم.

(بوستر الفيلم)
ماذا عن جديدك؟
أعمل الآن على فيلم روائي طويل. أنهيتُ كتابة السيناريو على أمل أن يُنجَز كما أريد؛ أي: زيّ ما أنا عايزة!
سيرة
سماهر القاضي مخرجة فلسطينية مقيمة حالياً في فرنسا، نشأت في مخيم الجلزون برام الله في الضفة الغربية المحتلة. عملت في البداية في وزارة الثقافة الفلسطينية ثم انتقلت إلى القاهرة للدراسة في المعهد العالي للسينما. يُركّز عملها على مكانة النساء والفنّانات المنشقّات في المنطقة العربية. أخرجَت ثلاثة أفلام وثائقية قصيرة بين فلسطين ومصر وفرنسا؛ هي: “محمد بكري” (2008)، و”جمالات” (2009)، و”راجعين” (2012). “كما أريد” (2021) هو فيلمها الوثائقي الطويل الأوّل.

شاعر وصحافي جزائري، من مواليد 1979. بالإضافة إلى الكتابة الصحافية والمتابعات الأدبية والفنّية عبر عدد من الجرائد والمجلّات الثقافية الجزائرية والعربية، يشتغل بين الإذاعة والنشر والتحرير منذ 2007. صدرت له خمس مجموعات شعرية.