سيّد درويش.. أهو دا اللي صار خلال قرن
وفاؤنا الذي تلمسه من استعادتك بعد مئة عام لا يعني أننا كنا بالمطلق أبناء وأحفاداً بارّين. انظر يا شيخ سيّد إلى ماء الموسيقى العربية وقد تكدّر. انظر كيف جرى التفريط في المنابع الصافية واستبدلت بقوارير بلاستيكية معلّبة.
صباح الأنوار شيخ سيّد،
طمأنتنا عليكَ هذه الأيام مناسبةُ مرور مئة عام على رحيلك، فلا تزال حاضراً في نفوس الناس، يكفي أن تذكّرهم ببعض أعمالك حتى يستنشقوا عطرك الطيّب، ويسترجعوا البذور التي تركتها في تربة مخيالنا الجمعي. فإن كان هناك أسطرة مستحقّة فهي تلك التي منحتها شعوبنا إلى سيّد درويش.
طمأنتنا المئة عام بأن روحك ما تزال تسري في العروق الحيّة للثقافة العربية، حتى وإن تعرّضتْ للتجفيف أو تسّرب إليها الكثير من الدم الفاسد.مازلتَ ترافق الزمن العربيّ، بهمومه وتطلّعاته، ندعوكَ فنجدك مُلبّياً وداعماً. مَرجِعاً ثابتاً للأحلام النزيهة والتعبيرات الصادقة.
كماً، لم يبق الكثير من أعمالك، فقد خانت التسجيلات الكثير من إرثك، لكن ما تبقّى لم يصبح أطلالاً، في حين أن معظم المادة الفنية التي عاصرتك قد تحلّلت وتحوّلت إلى عناصر متحفية. ما زالت أعمالك تتجدّد باستمرار، أو نحن نصرّ على تجديدها لأننا نستطيع أن نصرّفها في زمن غير زمنها، كعُملة من معدن لا يصدأ…
قلما اتفقنا على شيء في الثقافة العربية. أنت أحد استثناءات هذه القاعدة اللعينة. لقد بقي الكثير مما أسسّتَ، يتفرّع ويتشعّب ويعض منه يضمر ثم ما يلبث أن يعود بعافية جديدة.
قلما اتفقنا على شيء في الثقافة العربية. أنت أحد استثناءات هذه القاعدة اللعينة
موسيقياً، لا يحتاج الأمر الكثير من إعمال النظر؛ فمعظم التجارب الرائدة اعتبرتك أباً روحياً لها. تسكن موسيقى محمد عبد الوهاب وتلازم أنغام الشيخ إمام على ما فيهما من تباعد في الرؤية والنكهة والمزاج، ولك أواصر قربى مع “كوكب الشرق” وأخرى مع “جارة القمر”، ومع مغامرات فنية شتّى من المغرب إلى العراق.
لكن الموسيقى ليست إلا مشعلاً حمل النور الذي في قلبك إلى آفاق أبعد.ليس دور “أنا هويت وانتهيت” مجرّد نصّ عاطفي مطرّز بالألحان، وليست طقطوقة “إيه العبارة” محض تحفة موسيقية، وليس موشّح “منيتي عز اصطباري” استعادة معاصرة ناحجة للتراث. إن حيرة وجودية تسكن جميع هذه الألحان، تلك الحيرة التي هي ينبوع كل وعي لاحق، ذلك الوعي الذي يقودك إلى الاصطدام لاحقاً بقضايا الواقع، وسيقودك حتماً إلى أغنية “أهو دا اللي صار” بسؤالها العميق: “تلوم عليا ازاي يا سيدنا… وخير بلدنا ما هوش بايدنا”.
كل من ينتمي إلى هموم هذه المنطقة من العالم يُفترض أن يكون قد عقد علاقات متينة معك. لسان حالنا يقول: كلنا خرجنا من معطف سيّد درويش…
لكن وفاءنا، لا يعني أننا كنا بالمطلق أبناء وأحفاداً بارّين. انظر يا شيخ سيّد إلى ماء الموسيقى العربية وقد تكدّر. انظر كيف جرى التفريط في المنابع الصافية واستبدلت بقوارير بلاستيكية معلّبة. وكيف باتت الأغنية تسكت على الظلم أو تستعمل كمخدّر معنوي، مُبهرة بالإيقاعات والأضواء لكنها لا تقول شيئاً.
انظر إلينا تجد شرائح واسعة منا لا تستهلك إلا مادة سمعية ملوّثة
وانظر إلينا تجد شرائح واسعة منا لا تستهلك إلا مادة سمعية ملوّثة. وانظر إلى فنانينا ترى أغلبهم قد فقد حرارة الإبداع ومفاتيحه، ورغم ذلك يواصل نشر الخيبة وقلة الحيلة. وانظر قبل ذلك كيف ينشأ الفنانون في مجتمعات ذهبت أخلاقها، فكيف تولد بعد ذلك الكلمة الدالة والنغمة الفريدة.
هناك من نشأ على استصغار الذات الحضارية، وآخرون طبّعوا مع اللغة الركيكة والنشار المعمّم. أشكو إليك بعضاً من هؤلاء، وفيهم من يقتلك كل يوم، ومن يهدر ذِكرك، ومن لا يطلب إلا الغيبوبة والردّة، ومن يُذهب عقول الناس ويفتنهم في فطرتهم الذوقية…
يُحزنني أن أعلمك بحالة التفريط هذه. يُجزنني أن أشير لهذا التلوّث الذي يلف السماء.يحزنني أن أخبرك بحال الإسكندرية أو القاهرة اليوم. قال رواة سيرتك أن سيّد درويش عاش غريباً في زمنه، لكن غربة سيد درويش اليوم كانت ستكون أقسى وأشدّ من غربته في أيامه. هذا ما حدث خلال قرن، لقد صرتَ غريباً أكثر…
وسلامٌ على الغرباء أينما كانوا…