شوقي الماجري.. دقيقة صمت أمام الشمعة الستّين
يُفترض أنْ تُطفئ شمعتك الستّين اليوم. لكن، هل كان ممكناً أن تبلغ هذه السن بقلب يحمل مشاريع إبداعية كبيرة في بيئة مطفأة القلب؟ لا أخفيك أنّني أعتقد أنّك قتيل الانكسارات الفنّية لا السكتة القلبية. كلّ ما لم تنجزه كان غصّة في قلبك، فكم كان قلبك سيحتمل يا شوقي؟
نهاراً طيّباً شوقي..
كان رحيلُك منذ عامَين مفاجئاً. صدمةٌ حزينة تبدّت في وجوه من عرفوكَ. مُمثّلون، ومُخرجون، وكُتّاب، ومشاهِدون. من دون مقدّمات، أخذتَكَ السكتة القلبية. قلتُ وقتها: ما أكثر ظلم أخبار الموت في أيامنا. ما أكثر غُبن هذا المشهد العربي. واكتفيتُ.
تلك السكتة، التي كانت صادمةً ومفاجئة آنذاك، باتت تتبدّى لي، بمرور الوقت، نتيجةً طبيعية لقلب مثل قلبك يعبر مثل هذه البيئة الثقافية مطفأة القلب. ماذا يفعل شخصٌ شاعري الروح وحسّاسٌ مثلك في هذه المنطقة من العالم؟ مثلك من حمّالي هموم هذه الأمّة؟ مثلك من أصحاب الهواجس الإبداعية الكبيرة؟ مثلك ممّن لم يملك روحاً سطحية يمكنها أن تهضم ما في العالم من توحُّش وتفاهة؟ تأكّدتُ من الأمر حين التحق بك حاتم علي بعد عام. وقبلكما كثيرون: عاطف الطيّب، صلاح عبد الصبور، أبو القاسم الشابي… هذه الثقافة مقبرة مفتوحة لأمثالكم. أعلم أن كثيرين ستبتلعهم هذه الصحراء. تذكّروا قولي هذا.
لذلك، لن تكون رسالتي إليك مرثية جديدة. إنها أهجية ضد القتل. ضدّ الإنكار والنكران. ضدّ خنق النقاط المضيئة في اللوحة المُظلمة. لا أخفيكَ أنّني أعتقد بأنك قتيل الانكسارات الفنّية وليس قتيل السكتة القلبية. كلّ ما لم تُنجزه بقي غصّة يحملها قلبك، فكم سيحتمل؟
يهمّني أن أعرف ما لم تُنجِز. تلك هي سيرتك الحقيقية. ليس ذلك الذي نجحت في تطويع الظروف لإنجازه. هل من طريقة كي نكتُب ما لم يُنجَز؟ أن نبعث الروح، ولو بالكتابة والمخيال، في ما لم يولد، في ما أُجهض؟ وحده ذلك يرسم بورتريه شوقي الماجري بدقّة.
كُنتَ تعرف منذ البداية أنّ أبواب تونس موصدة. غادرتَها مبكّراً كي تدرس السينما في مدينة وودج البولندية. غادرتها بعد محاولات سريعة للاندماج في مشهد فنّي كان بسقف منخفض، لا يتحرّك خارج أبوية الدولة ورؤية أصحاب الأرواح الخفيفة إلّا نادراً، وعلى بوّاباته يقف أوصياء يشبهون حرّاس بوّابات الحانات. في ماذا كنت تفكّر حين نشطت في المسرح المدرسي بادئ الأمر؟ ماذا كنت تريد أن تنجز حين فتنتك السينما، وحين جاءك نداء داخلي بأنّ ذاك هو طريقك؟
وحين عُدتَ من الشرق الأوروبي البارد، كنت قد تعلمّت كيف تُعطي الصورة حقّها من العناية. كيف تبثّ الشاعرية في كلّ تفصيل. عُدتَ وفي حقائبك أحلام كبيرة بلا شكّ. أحلام لم تثمر غير بضعة أفلام قصيرة. كنت تأمل، ببراءة طفل، أن تغلب العُدّة الإبداعية بؤس الوطن. كنت تعتقد أن البؤس، حتى البؤس، يمكن أن يصوغه المخرج في صورة رائعة ونقية صادقة. ثم، عرفت أنّ الأبواب ستظل موصدة حتى لو امتكلت مفاتيح الفن. ستظلّ الأبواب ثقيلة عن التحريك.
ربما قلتَ: سأجرّب فتح القلعة من الخارج، وغادرتَ مجدّداً، نحو الشرق العربي هذه المرّة. أذكر تلك الأيام البعيدة (1997) حين اقترح علينا التلفزيون التونسي، في عصر ما قبل التنافس مع الفضائيات العربية، مسلسل “تاج من شوك” (بطولة أيمن زيدان وفتحي الهداوي). بعضٌ من حبكة “الملك لير”، وملامح من شخصيّتَي هاملت ومكبث في حكاية بأسماء عربية، وبِلغة بصرية مبتكَرة، وبمقولات سياسية جريئة لكنّها متوارية بين الرموز والحكايا.
تلك السكتة، التي كانت صادمةً، باتت تبدو لي مصيراً طبيعيّاً لقلب مثل قلبك يعبر مثل هذه البيئة الثقافية
تدوالنا – نحن التونسيّون – بفخر اسم المخرج والممثّلين المشاركين من مواطنينا. وقيل ما قيل عن قدرة المبدع التونسي على التألّق منذ أن تتوفّر له الإمكانيات. كلام سيُعاد تشغيله ونحن نتابع إنجازاتك المتلاحقة. مبروك، لقد فتحتَ القلعة ويمكنك أن تدخلها متى شئت، ولكنك لن تفعل، فأي معنى للعودة إلى علبة كبريت بعد أن انفتح أمامك الكون.
ومن يحلم بإخراج مسلسل تاريخي بحجم “عمر الخيّام” (2002، تمثيل: جهاد سعد وصبا مبارك وخالد تاجا)، لا يمكنه أن يعود إلى تونس. ليس أيّاً كان من يحلم ببعث الحياة في شخصية الشاعر والعالم الفارسي، ومن ثمّ يذهب ليفسّر ما تهدّم من روح أمّة كانت تتابع بالتوازي تداعيات ما بعد ضربات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. كانت مأساة الخيّام أمثولة تُكثّف عملية السطو على الموهبة وتبذيرها في مصالح الآخرين، ومن ثمّ تعطيل تعميم فائدتها. كأنها حدس مبكّرٌ لما سيحدث معك.
في تلك الفترة، كنّا قد انغرسنا نهائياً في عصر الفضائيات. بات شهرُ رمضان العربيُّ الحديثُ بمثابة عرض دراميّ مكثَّف. لم تقايض على رؤيتك كثيراً، وضمن حرب المنافسة الشرسة بين مسلسلات الموسم الواحد، كنتَ تُقدّم الصورة والفكرة التي تودّ أن تصل إلى الناس، ووجدتَ المعادلة المناسبة بين شاعرية المَشاهد وما يطلبه المُشاهدون. ربما كانت الدراما التاريخية هي المنطقة التي احتضنَت هذه التسوية.
كان رهانك خطيراً حين اخترت العصر الذهبي للحضارة الإسلامية محوراً في “أبناء الرشيد” (2006، تمثيل: رشيد عسّاف وإياد نصّار ومنذر رياحنة… ). لعلّها أكثر مرحلة تناولَتها الدراما قبلك، المصرية خصوصاً، ولكنّك نجحت هنا أيضاً في اجتراح طريق جديد، وجدّدتَ دماء شخصية هارون الرشيد، وأعدتَ بناء صراعات ذلك العصر من زوايا طريفة.
وكذلك فعلتَ في مسلسل “أبو جعفر المنصور” (2008، تمثيل: عبّاس نوري ومنذر الرياحنة… ). وفي نفس العام، اقترحتَ تنويعة في الدراما التاريخية حين قدّمتَ – بمنطق بصري مختلف – مسلسل “اسمهان” (تمثيل: سلاف فواخرجي وعابد فهد… )، فبدوتَ كمن بات يتحدّى نفسه، ويُراكم الأعمال من الدرجة الأولى محافظاً في الأثناء على سويّة إبداعية وعلى قدرة على التجدُّد.
لم تكن هذه الإنجازات لتضعك في طمأنينة تسكُن لها. لقد اجتهدتَ للتحرّك في مناطق أُخرى، وظهرَتْ في نفس تلك الفترة مشاريع ضخمة لعلّها أقرب إلى “تاريخ الراهن”. علينا مرّة أُخرى أن نتقمّصك كي نلامس تبلوُر مشروع مثل “الاجتياج” (2007، بطولة: إياد نصار وصبا مبارك… ). كيف يمكن التفكير في إعادة بناء ملحمة جنين، ومن ورائها القضية الفلسطينية في يومياتها وواقعها على الأرض، ثم الذهاب بعد عامَين إلى إعادة تركيب مشهد العراق وهو يتعرّض إلى التدمير قُبيل وبُعَيد الغزو الأميركي في 2003 في مسلسل “هدوء نسبي” (2009، تمثيل: عابد فهد ونيللي كريم وجواد الشكرجي… ).
عرفتَ أنّ أبواب تونس موصدة، فغادرتَها مبكّراً بعد بضع محاولات للاندماج في مشهد فنّي بسقف منخفض
هناك أعمال أخرى في تلك السنوات ظلمتها الإضاءة، لكنها لا تقلّ روعة وروح مغامرة. أذكر “الطريق الوعر” (2005، تمثيل: غسّان مسعود وباسم ياخور وعبّاس نوري… )، بتركيب مدينة متخيَّلة أشبه بـ”غوثام” عربية، يتصارع فيها الإرهابيون ورجال الأمن والصحافيّون. اخترتَ العربية الفصحى لغةَ حوار في عمل اجتماعي- سياسي راهن يبدو مثل كتاب في علم الاجتماع يمكن أن يعود إليه كل من يودّ أن يبحث عن خلفيات قضية الإرهاب ومفاهيمها وتداعياتها في مشهد مكثّف.
لم تكُن أيضاً بعيداً عن الأدب، فاقترحتَ قراءتك لـ”ألف ليلة وليلة” عبر عناية خاصّة بشخصية شهرزاد في مسلسل “شهرزاد.. الحكاية الأخيرة” (2004، تمثيل سلاف فواخرجي وآخرين)، ونهلتَ من الأدب العالمي فاقترحت قبل ذلك بسنتين “الأرواح المهاجرة” عن رواية إيزابيل ألّيندي مع إعادة تفريغها في المناخات العربية، وهي مغامرة نادرة في ثقافتنا التلفزيونية.
كلّ هذا قد أُنجز قبل منعطف 2011. لعلّه حدسٌ آخر قد أخبرك بأنه ينبغي عليك أن تلاحق الزمن، وتُجرّب في كلّ الاتجاهات قبل أن تتغيّر أمور كثيرة في كل مكان. تبدو كمن خفّض في السرعة، أو اختار الصمت كي يصيخ السمع للعاصفة. غبت عن تقديم عمل جديد في 2010، وفي عام “الربيع العربي” ذهبتَ بعيداً في الصحراء وفي الخيال والشعر في مسلسل “توق” (2011، تمثيل: غسّان مسعود وسلافة معمار… ).
محاولةٌ أخيرة أغرتك بها الثورة التونسية وسَكْرتُها (2011 – 2012) للعودة إلى موطنك. أعلنتَ، بتسرُّع، أنك تحلم بمسلسل تاريخي تونسي عن علي بن غذاهم، ثوريّ تونس في القرن التاسع عشر. بل أكثر من ذلك، كنت تشير إلى أنّ ما يعنيك من هذا المشروع ليس العبرة التاريخية فحسب، بل كونه أحد أجدادك.
هناك عقوبات معروفة لمن يتحدّث عن مشاريعه بحماسة في تونس. كنتَ تعتقد أن قواعد اللعبة قد تغيّرت، وأنّ ما أنجزتَه بات يشفع لمشاريعك كي تجد الطريق سالكة، وأنّ الأُمّ فتحت ذراعيها لتحتضنك، ولكنها كانت مشتّتة الذهن. وها أنّك حين أنزلت الحلم إلى الأرض التونسية وجدتَه وقد أُصيب سريعاً بـ”التناس”؛ ذلك المرض الذي صاغ له المفكّر التونسي سليم دولة مفهوماً ضمن القالب الصوتي لتسميات الأمراض: كُزاز، صداع، كُساح… ومعناه: حالة مرضية تصيب بلداً فتموت المشاريع في مهدها ولا تبلغ مداها.
هكذا طُردتَ من بلد “التُناس” مجدّداً، وكُنتَ تأمل أن تجد فيه ملجأ حين تصدّعَت الأرض في البلد الملجأ؛ سوريا. لقد أُوصد باب الوطن وبابُ المنفى الاختياري معاً. بأيّ قلب كنتَ تُغلق قوس النجاحات وتستقبل سنوات من المجهول؟
لعلّك انتصرتَ على أحزانك، وعزّيتَ نفسك، حين انهمكت في مشروع تاريخي في مصر، فقدّمت في 2012 مسلسل “نابليون والمحروسة”، وبه وضعت قطعة فسيفساء أساسية من التاريخ العربي، ثمّ ذهبت إلى حلم جليل، حلمُك القديم: السينما.
ثمّة أفلام كثيرة كنت تودّ إنجازها ولم تفعل. لذلك قلتُ إنّك تشبه ما لم تنجز أكثر ممّا تشبه ما أنجزْت
لعلّك تسرّعتَ بعض الشيء. كانت لمسة الشاعرية التي أطرَبَت المُشاهدين في الدراما قد بدت ثقيلةً على الفيلم. لم تُراع النزعةُ التقنية عينَ المشاهد العربي، ولا خصوصيات التلقّي في قاعة السينما. كما استعملتَ القضية الفلسطينية كبنية عاطفية أكثر من التحامها بالأنسجة العميقة للعمل. وإذا كانت الثقافة السينمائية تمثّل أحد أركان نجاحك في الدراما التلفزيونية، فإنّ الاتجاه المعاكس كان يحتاج إلى خطط جديدة.
أعلم أنه فيلمك الأول، وهكذا تكون الأفلام الأُولى غالباً. وذلك تحديداً ما يحزنني أكثر في رحيلك. كنتَ تودّ أن تكون مخرجاً سينمائياً من البداية. بعد “مملكة النمل” (2012)، توجد بلا شكّ أفلام كثيرة كنت تودّ إنجازها لتُعدّل صورتك في أعين المشاهدين. لذلك قلتُ إنك تشبه ما لم تنجز أكثر ممّا تشبه ما أنجزتَ.
عُدتَ إلى الدراما التلفزيونية ببعض الخيبة. عُدتَ من خلال مصر وقد ابتلعَت الجزء الأكبر من البيئة السورية التي كنتَ تتحرّك داخلها. من الواضح أنّ حالة التدفُّق قد انكسرت، فأنجزتَ عملين متباعدَين: “حلاوة الروح” في 2014 و”سقوط حرّ” في 2016، ثم اخترتَ الصمت مجدَّداً قبل عودة من حالة الدوار هذه في عمل سوري بعنوان “دقيقة صمت” (2019، تمثيل: عابد فهد وستيفاني صليبا وخالد القيش وفادي أبي سمرا… ).
لعلّه أحد أخطر الأعمال الدرامية العربية على الإطلاق. كان تعريةً عميقة لعالَم المغالطات والفساد الذي يسكن الحياة العربية. أعتقد أنّني توقّعتُ، أثناء مشاهدتي، اغتيالَك وكلَّ فريق العمل. ذُهلت حين علمتُ لاحقاً أنه صُوّر داخل سوريا. كيف جرى اجتراح تلك المساحة من حرية التعبير؟ وكيف أمكن حتى التفكير في تلك المحاكمة الشاملة؟
بشكلٍ ما، كان ذلك المسلسل يُعلن نهاية ما. إنّه عمل مسكون بالنهايات. كانت حبكته تقوم أصلاً على صدفة عجيبة تجعل محكومَين بالإعدام، تمّ تنفيذ الحكم عليهما ظاهرياً، يواصلان الحياة. كان مشروعاً يذهب بعيداً جدّاً في محاولة قول كل شيء؛ عبر الحكاية، وعبر الموقف، وعبر الصورة. ماذا بعد؟ لعلّني هكذا تساءلتُ، ولم تجبني إلّا السكتة القلبية بعد بضعة أشهر.
الآن، لقد غادرتَ كلّ شيء. ليس تونس فحسب. ليس سوريا فقط. كُنتَ تُسقط في أعمالك مشهد حصان يحتضر، بدأتُ أفهم هذه اللقطة بعد فوات الأوان. بعد رحيلك. كان هناك شيء متوقَّع في كلّ ما حدث. وهناك شيء متوقّع في كل ما لم يحدث. لقد راوغتَ “التُناس” كثيراً ولكنه قتلك في الأخير.