صلاح البرقاوي… تحوّلات المجتمع التونسي في ثلاثة عقود
من خلال قصّة بطلها، هادي بازينة، تفتح رواية "يخاف الأفراس"، الصادرة نهاية العام الماضي، على قصّة جيل وطبقة من المجتمع التونسي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، والتحوّلات التي شهدتها تونس خلالها.

بعد رواية “كازما” (2019) التي تعرّض فيها إلى موضوع الإرهاب وعوامله ومخلَّفاته، تأتي الرواية الجديدة للكاتب التونسي صلاح البرقاوي، “يخاف الأفراس”، الصادرة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي عن “دار أركاديا”، لتتناول جدلية رغبات الجسد من جهة، وتوق النفس إلى الحبّ والحنان من جهة أُخرى.
تتهيكل الرواية حول استذكار مراحل مختلفة من حياة هادي بازينة المتنقّل بين فضاءين خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين؛ بين “دشرة” في أحد أرياف الشمال الغربي التونسي، وبين المدينة (تونس العاصمة).
أمّا الدشرة، فقد جعل منها الكاتب مسرحاً لنقد عادات اجتماعية لا تكاد تتغيّر في سلوكها، متمسّكة بعادات وتقاليد محافظة، لا تؤمن كثيراً بالمستقبل وبشرط التغيير؛ حيث يعيش فيها الأطفال والرجال والنساء التهميش والبؤس، كما أنّها لا تولي اهتماماً لعموم ساكنيها، وتمنحه فقط للشخصيات الوازنة سياسياً ودينياً؛ فهي “دشرة تُجلّ ثلاثة: العمدة وإمام الجامع، وقبل هذا وذاك بمراتب، بورقيبة” (ص 15).
وبالنسبة إلى المدينة، فإنّ حقيقتها صدمت الصورة التي رسمها البطل عنها وحلم بها. فقد اعتقد أنّه سيجد فيها كلّ ما يرغب من متع وملذّات، ولكنّه “أدرك مع الوقت أنّه لا فرق بين ريف ومدينة، إلّا بكثرة البناء وكثافة السكّان” (ص 49)، وعرف أنّ ما تمتاز به المدينة حقّاً هو توفيرها لخدمات استثنائية غير مرتبطة بخدمات الجنس المعروضة في المواخير.
ولكن ما يبقى في ذهن القارئ ليست الفكرة التقليدية عن ثنائية الريف والمدينة، ولا صراع الطبقات وظروف المعيشة القاسية والتهميش التي يعيشها سكان الريف، ولا عنف المدينة وذوبان الفرد فيها رغم توفيرها لفضاءات عديدة من مقاه ومطاعم ومسارح ودور سينما وأسواق ومواخير… وإنّما حالة الاختناق التي يعيشها الإنسان في المجالَين: فنجد أنّ الشمال المذكور في الرواية هو منطقة شاسعة مسكونة بالعزلة والفراغ الزمني؛ حيث تطبع القسوة الحادّة حياة أهلها؛ سجناء الأوهام والخيالات وهيمنة القيم الدينية والتقاليد الاجتماعية المحافظة. في حين أنّ العاصمة، بزحمتها وبكثافة سكّانها ومقاهيها ومطاعمها، لم تنج من اختناق العلاقات الاجتماعية فيها، والقائمةِ في العديد من وجوهها على الانتهازية والاستغلال والملذّات.
لتصوير هذا وذاك، فإنّ لغة البرقاوي السردية لا تخادِع ولا تورّط القارئ في متاهات التأويل وفي مزالق المجازات والاستعارات، بل تلقي أمامه الواقع عارياً، ولذلك جاء السرد في لغة فصيحة صافية، وظهرت الحوارات بدارجة مباشرة حميمية وجارحة أحياناً، واقعية وصادقة.
العلاج بالكتابة
يكشف الراوي دوافعه لكتابة سيرته، وأثر غواية الكتابة عنده، إذ لم تكن في الأصل سوى وسيلة اقترحها الطبيب النفسي عليه بعد أن لجأ إليه هادي بازينة ليساعده في حلّ مشكلة عجزه الجنسي مع زوجته زهرة، وما إن عرف أو توهّم أنه استعاد نشاطه الجنسي مع ليليا، حتى قرّر الكف عن الكتابة بعد انتفاء الحاجة إليها حسب زعمه، إلّا أنّ وهجها كان أكبر من رغبته، فاستسلم لها واستأنف الكتابة.
يطلب منه الطبيب النفسي مكاشفة نفسه، وذلك بكتابة أحاسيسه وذكرياته وتجاربه، وكأنّ الكتابة تحرير وعلاج، عبرها تكشف الذات محنتها وتقول ما لم تستطع أن تشاركه مع المقرَّبين من أهل وأصحاب، أو أن تبوح به لحبيب أو قريب. وهكذا تشرع الكتابة في نسج فتنتها السردية والفنّية. يبدأ الأمر بمجرَّد كتابة شذرات علّها تساعد في شفاء هادي بازينة من عجزه الجنسي، وتُحفّزه عبر التذكّر واستحضار الماضي على كتابة قصّته، فإذا بنا، في النهاية، أمام رواية تُوسّع من دائرة الخوف، وتكاد تُحمّل المجتمع التونسي بأكمله حالة الاختناق التي يعيشها البطل، ويمرّ بها العديد من أفراد البلد رجالاً ونساء.
إنّها حيلة فنّية سردية استلهمها الراوي، إذ يخبرنا بين سطور الرواية أنّه أنِس بالكتابة مذ كان تلميذاً في المعاهد الثانوية، وأنّه أيضاً ألِف القراءة فأقبل على مطالعة الكتب قديمها وحديثها وبمختلف أجناسها، وكأنه بذلك يطلب من القارئ ألّا يستغرب من قدرته لا فقط على كتابة مجرّد ملاحظات أو شذرات ليقدّمها للطبيب، وإنما على كتابة ما هو أعمق: قصّة كاملة؛ هي قصّة حياته، أو هي في النهاية قصّة جيله وقصّة طبقة من المجتمع التونسي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، والتحوّلات المهمّة التي شهدتها تونس خلالها، لتكون بذلك شهادة على تحوّلات المجتمع التونسي النفسية والفكرية.
ما يزيد من عقدة بناء الراوي هو تعدّده وانقسامه إلى ثلاث شخصيات جعلته يقف في حيرة من أمره لتحديد هويته، “لكن وقفت بين ثلاثتي حائراً وكلمات الطبيب ترجّني…. غير دارٍ لمن منهم أكِل المهمّة” (ص، 208)، وهذه نقطة أُخرى طريفة تُحسب لهذه الرواية.
الجسد ورغباته
اعتبر عالم النفس سيغموند فرويد أنّ الجنس هو السبب الأساسي للاضطرابات النفسية التي تصيب الإنسان، وأنّ الفرد يبحث، منذ صغره، عن اللذّة بأشكال مختلفة، وأقرّ بأنّ إرضاء رغبات الجسد من طعام وجنس هو المطلب الأساسي الذي يحرّك وجود الكائن، وما لجوء الراوي هنا إلى الطبيب النفسي إلّا بسبب شعوره بالعجز الجنسي ودخوله حالة من التشتّت الوجداني والذهني، ومن ثمّ الشعور بفقدان أهمّ رغبات الكائن في الوجود، وبالتالي بدأ في تشريح ذاته سردياً، فأعطانا في عملاً إضافياً في حقل السرديات المهتمّة بالمشاكل النفسية.
كما أنّ بعض الدراسات تشير إلى أنّ الحرمان العاطفي الذي يعيشه الأطفال والمراهقون بصفة خاصة، وما قد يتعرّضون إليه من نقص في الرعاية الوجدانية من الوالدين والمقربين، وقلّة التعبير لهم عن مشاعر الحب والحنان والحماية، قد تولّد فيهم الانشغال بالتفكير في الجنس والشهوات كبديل أو ما قد يبدو لهم كذلك. فالراوي يكشف أنه لم يسمع عندما كان طفلاً كلاماً ودّياً يعبّر عن المحبّة بين أمه وأبيه قد يساعده على الاقتداء بهما، وبما أنّ الطفل لا يجرّد الأشياء وإنما يقلّد، فإن غياب معاينته لمعاملة يومية أسرية تكشف عن الحب بين أمّه وأبيه على سبيل المثال خلق في عواطفه نوعاً من الارتباك والاضطرابات.
لا حبّ يمكن الحديث عنه في الريف، وإنما خيالات جنسية وارتباط كبير بمتع الجسد التي اكتشفها مع ابنة عمّه، وحدّدت مصيره؛ إذ صار محموماً ومهووساً بالجنس: “والحقيقة أنّه منذ أن اكتشف جسد الصبي الذي كنتُ لحم الأنثى، صار اللحمُ كلّ مطلبي” (ص، 61). وعندما انتقل إلى العاصمة والتحق بالجامعة، بدأ يتردّد على الماخور خلال سنوات دراسته، ولمّا أصبح موظّفاً أخذ في معاشرة عشيقاته في شقّته بالعاصمة.
تهتمّ الروايةُ، إذاً، بخطاب الرغبة والشهوات وبمسائل الجنس، بل إنّها تمنح بعداً ثقافياً لخطاب الجسد والمتعة؛ إذ أنّ معجمها يركز، إنْ رمزياً أو بلغة مباشرة، على خطاب الرغبة الجنسية. وما يزيد من أهمية هذه المسألة اليوم هو أنّها أصبحت تملك حاضنة عالمية، بعد أن طغى خطاب الجنس على حياتنا اليومية عبر وسائل الإعلام التي أجبرَت المعتقدات والقيم الأخلاقية على التراجع نسبياً، إلى جانب انخفاض هيمنة خطاب الذكر على حصرية تناول هذه المسائل.
الحب في حياة الراوي
صحيح أنّ الرواية ركّزت على مظاهر العنف وقسوة الظروف الاجتماعية، وتطرّقت كثيراً لمسألة الرغبة والشهوات الجنسية وتعلُّق بطلها بالجسد الأنثوي خاصّة (سالمة، عائشة، ليليا، نساء المواخير)، إلا أنّها تدور أساسا حول مسألة الحب. تُوهِم أنها رواية عن الجنس والجسد، إنما هي في الواقع سردية عن مواجع القلب وأشجان الروح ونداء الحب.
وتوازياً مع وصفه لحبّه لزهرة وهيامه بها، فإنّ البطل رسم لنا أيضا صورة عن العلاقات الاجتماعية القائمة على المحبّة والصحبة الصادقة والألفة الخالية من المصالح (علاقة الصداقة العميقة والحميمة بين الراوي وحبيب المولاهي، وعفيف الفجاري، وبدرجة أقل مع سيكا النادل وزفّة المحامي).
تكشف الرواية، إذاً، بلغة مباشرة وواضحة وواقعية تردّد الراوي بين ماضيه وحاضره، بين انشداده لرغباته الجنسية في جموحها، وبين انشغال قلبه بحبّ امرأة فريدة هي زهرة الدشرواي، الطالبة الجامعية التي لم تفارق خياله منذ أن التقى بها، بعد أن خلّصها ذات مساء من بطش مجرمي المدينة، فصارت أيامه كلّها بحثاً عنها وتعقُّباً لها، وذهنه لا يفكر إلّا فيها وفي كيفية الوصول إليها، “بل إن طيفها كان يغشاني حيثما أكون، فينكأ جرحي بسكّين الغياب، كأنها آخر نساء العالم” (ص، 59).
والراوي نفسه يعترف أنّ ما يشدّه إليها ليس الرغبة الجنسية وحدها، والتي طغت على علاقاته بغيرها من النساء، وإنما حبٌّ خفيّ يسري بين ضلوعه أدخل تشويشاً غريباً على وجدانه وقناعاته: “أمّا زهرة، فعلى الرغم من أنّها لم تنم في فراشي مطلقاً، ولم تعتب شقّتي يوماً، فقد كان قلبي يختلج لمرآها بمشاعر غريبة، تشيع منها في خاطري متعة غامضة، تتجدّد كلّما استذكرتها” (ص 157).
ويقول في إطار آخر يدعم هذا الموقف: “والحقيقة أنه منذ أن اكتشف جسدُ الصبي الذي كنت لحم الأنثى، صار اللحمُ كلَّ مطلبي. لكنّ ظهور زهرة في حياتي، أدخل اضطراباً على أفكاري” (ص 61).
يبحث الراوي، بكلّ الطرق، للوصول إلى زهرة ومكاشفته حبّه لها، لكن يخذله غريمه “القائد” الذي كانت زهرة تميل إليه، فتتحرّك فيه مشاعر الغيرة، ويعتقد أنّها ليست من نصيبه، ولكنها مع ذلك لم تفارق طيفه. وبعد أن مرّت السنين ووضعتها الأقدار في طريقه مرّةً أُخرى وقد عُيّنت رئيسته في العمل، حدث التقارب المنشود وتحقّق الحلم فتزوّجا. وكانت محنة الراوي في بيان عجزه الجنسي معها تُبيّن في الجهة المعاكسة حبّ زهرة له، فلم تتخلّ عنه وإنما وقفت إلى جانبه وتغاضت حتى عن خيانته، بسبب إيمانها بالحب، فعارضت من أجله أمّها وكلّ من حاول تطليقها منه.
ركوب الفرس
توصلنا حكايات هادي بازينة إلى ما يُفترض أنه بداية العمل الأدبي؛ عتبة العنوان لفهم أنّ “يخاف الأفراس” فيما تتحدّث عن الخوف فهي تشير إلى سبل التحرّر منه، والتحرّرُ منه يكون بالثقة في الحب والمرأة.
يشير الباحث البرتغالي كارلوس هنريك بيريرا، وهو من أبرز المختصّين في تاريخ الفروسية ودلالاتها في الثقافة البرتغالية، إلى أن للفرس جملة من الرموز الثقافية البارزة والعابرة للثقافات الكونية، فبالإضافة إلى اعتبار الحصان من رموز الوجاهة الاجتماعية وحضوره اللافت في المرويات الدينية والأدبية والشعرية، فإن الباحث يلحّ بصفة خاصة على جانبه الأسطوري والدلالات الرمزية لجسده الذي يرتبط بالجمال والأناقة، ويقرّ بأنّ الفرس “صورة مستوحاة من الجسد وأهوائه التي يجب ترويضها من أجل الوصول إلى مقام الإله”.
للحصان كثير من التمثّلات الأسطورية والدينية؛ حيث كثيراً ما يظهر القدّيسون والملائكة على خيول بيضاء، وفي هذا تأويل للصراع بين الرغبة الجسدية والنزعة المثالية لدى الكائن البشري من أجل العبور إلى العالم الآخر، وكأنّ التحرّر من رغبات الجسد هو التحرّر من الدنيوي والانتماء إلى عالم آخر هو في “يخاف الأفراس” عالم الحبّ بين الرجل والمرأة.
واللافت في خاتمة الرواية هو أنّ زوجته زهرة هي من تغاضت عن كل نزواته السابقة وأرادت أن تستمرّ معه على نهج الحبّ وحده معبرة له عن تمسّكها به وعلى مساعدته على ركوب الفرس. يقول: “ضممتها إلى صدري، ووشوشت في أذنها: ونركب معاك الفرس…” (ص 341). ركوب الفرس هو التخلّص من الخوف وطلب الحنان والعطف والحب.

مترجم تونسي عن البرتغالية وباحث في الأدب المقارن من مواليد 1975، يدرّس في “جامعة نوفا لشبونة”. من ترجماته: “نصب الدير التذكاري” لجوزيه ساراماغو، و”ماراثون الخلود” لأندريه أوليفيراس، و”هيا نشتر شاعراً” لأفونسو كروش. أنجز قاموساً برتغالياً- عربياً مع ديليو بروسبيرو.