عبد الحافظ بن عُثمان: السجن كورشةٍ للكتابة
(عبد الحافظ بن عُثمان في باريس، جوان 2000. تصوير: صوفي شيفيه)

عبد الحافظ بن عُثمان: السجن كورشةٍ للكتابة

"بين كتابة حلقة مسلسل تلفزيوني وسرقة بنك، اتّخذتُ الخيار الذي بدا لي أقلَّ وضاعةً"... جملةٌ تعكس نظرةَ الكاتب الجزائري الراحل (1960 - 2015) إلى السطو على البنوك كفعل مقاوَمة ضدّ نظام الاستغلال وقوانينه المُجحِفة بحقّ أغلبية مسحوقة في المجتمع الفرنسي.

بينما كانت أوروبا تُعيد بناء ما دمّرته الحرب العالميّة الثانية بسواعد الأفارقة والمغاربة، وفي الوقت الذي تأجّج فيه صراع الشعوب المستعمَرة مع القوى التي تحتلّ أوطانها، وُلد الكاتب والمسرحي والسيناريست عبد الحافظ بن عُثمان لعائلة جزائرية مُقيمة في فرنسا في الثالث من سبتمر/ أيلول 1960، أي قبل أقلّ من عامَيْن مِن انتصار ثورة التحرير الجزائرية.

كانت الجزائر تستعيد أبناءها الذين استرجعوا حقّهم في الحصول على جنسيّة بلدهم بعد أن حرمهم الاستعمار مِن ذلك حين أخذ وعيُ “فافا” – كما كان يناديه إخوتُه وأصدقاء طفولته في “الحي اللّاتيني” بباريس – يتفتّح على الواقع الرديء للجالية المغاربية في فرنسا.

كبر متمرّداً وقد تكوّن لديه وعيٌ شقيٌّ بظروف الاستغلال التي يعيشها المهاجرون، ليجد نفسه في السجن وهُو في السادسة عشر من عمره بعد انقطاعه عن الدراسة. سُجن وقتها لأنّه “سرق”، وسيُسجَن لاحقاً للسبب نفسه، ليقضي سبعة عشر عاماً وراء قضبان سجون فرنسية مختلفة.

عاش بن عثمان متمسّكاً بموقف أساسي؛ هو رفض تقديم طلبٍ للحصول على الجنسية من السلطات الفرنسية. ولئن ارتبط هذا الرفضُ في البداية بملفّه القضائي، باعتباره من أصحاب السوابق القضائية، فقد تَحوَّل لاحقاً إلى موقف سياسي؛ إذ كان يرى أنّه مِن غير المنطقي أنّ يُقدّم شخصٌ ما طلباً ليحصل على حقّ من حقوقه الطبيعية.

مع ذلك، اعتبر بن عثمان أنّه لو تقدّم للحصول على الجنسية الفرنسية سنة 1976 كان الأمرُ سيكون في نظر عائلته “شبيهاً بأن يُقدّم مواطن فرنسيّ طلباً للحصول على الجنسيّة الألمانية سنة 1946”. وعلى هذا النحو، عاش دون أن يحصل على جنسيّته، أو يملك وثيقةَ هويّةٍ واحدةً، أو يتنازل عن حقّه في رفض ترحيله أو إخضاعه إلى عقوبة مزدوجة.

رفض طلب الجنسية الفرنسية مُعتبراً أنَّ مِن غير المنطقي التقدُّم بطلب للحصول على حقّ طبيعي

في السجن، لم يكن بن عثمان سجيناً عاديّاً. وسواء بشخصيّته الكاريزماتية التي “فيها شيءٌ ما لا يمكن تحديده ولا يترك أمامك خياراً آخر غير محبّتها” على حدّ تعبير المخرج الفرنسيّ آرثر آراري، أو بقدرته على تحويل السجن إلى فضاء للتفكير والمقاومة، كان بن عثمان محبوباً وجديراً بمتابعة المثقّفين والكتّاب الفرنسيّين الذين ساندوه ودعموا قضيّته.

ومِن بين الجُمَل التي بقيت راسخة في أذهانهم حول قضيّته قوله: “بين كتابة حلقة مسلسل تلفزيوني وسرقة بنك، اتّخذتُ الخيار الذي بدا لي أقلَّ وضاعة”، وهي جملةٌ تعكس وعيَه الشقيَّ بالواقع وبالقوانين التي تحمي النظام، الأمر الذي يجعله ينظر إلى السرقة والسطو على البنوك فعلَ مقاومة يتمرّد مِن خلاله على نظام الاستغلال وقوانينه المُجحِفة الّتي تُطَبَّق على أغلبية مسحوقة وسيتمّ تناسيها عندما يتعلّق الأمر بالأقليّة الحاكمة من الأوليغارشيا الفرنسية.

بهذا الوعي، وهذه المبدئية في رفض الظّلم والتمرّد عليه، عاش بن عثمان تجربته السجنية منخرطاً في نقد أوضاع السجون الفرنسية، وملتحقاً بالحركات الفرنسية المناهضة للسجون، والتي تطوَّر نشاطُها الفكري والميداني في سبعينيّات القرن الماضي، ثمَّ تواصَل في العقود اللّاحقة، متّخذاً أشكالاً نضالية مختلفة. وبعد التنسيق مع مجموعة من رفاقه في السجن، أسّس سنة 2001 جريدة L’envolée (التحليق عالياً) التي كانت السلطاتُ الفرنسية تحجبها عن الوصول إلى السجناء، على الرغم مِن أنّها كانت صحيفةً قانونيةً تُباع حتّى خارج أسوار السجون.

كتاب "المسعورون" لعبد الحافظ بن عثمان

(غلاف مجموعته القصصية “المسعورون”)

في هذا السياق المعقّد، تشكَّلت علاقة بن عثمان بالكتابة. الكتابة التي لم تكُن بالنسبة إليه مجرَّد وسيلة يُوصِل بها صوتَه إلى خارج السجن، وإنّما تمرين يوميٌّ يعيد من خلاله التعرّف على ذاته وعلى واقعه وعلى أساليب التفكير النقدي في هذا الواقع، خصوصاً وأنّهُ أحبّ المسرحَ وألّف فيه أعمالاً كثيرة جرى عرضُها في مُدُن فرنسية مختلفة بينما يقبع هو في السّجن، مثلها في ذلك مثل أعماله الشعرية والروائية التي من أبرزها سيرتُه الذاتية “جامعُ قمامة فوق مقصلة” التي صدرت سنة 2003، وكتابُه “المشيُ ليلاً بلا قمر” (2008)، و”المسعورون” (1992)، و”أعمدة التعذيب” (2006)، و”السباحة في كبد السماء” (2012).

وإلى جانب سيرته الحافلة بالتجارب القاسية والوعي المبكّر بالخذلان والظلم والاضطهاد ومعركته المتواصلة مع النظام السياسي الفرنسي والقوانين التشريعية التي يقوم عليها، نعثر في أعمال عبد الحافظ بن عثمان على نسق سردي سريع يجعل من جُمَله شبيهةً بلكمات يُوجّهها إلى القارئ، دون أن يتركَ لهُ فرصة التعاطف معه، لأنّه لا يرغب في تعاطفه، بل في تمرّده على واقعه الخاص.

انخرط في الحركات الفرنسية المناهِضة للسجون، والتي تطوَّر نشاطُها الفكري في السبعينيّات

كتب بن عثمان أشياءه الخاصة. كتب طفولته الشقيّة وأيّامه الأولى في الحي اللّاتيني. كتب تحوُّلات المجتمع الفرنسي، وخصوصاً مُجتمع الجزائريّين في فرنسا. كتب الزنزانة والسجن وأنظمة المراقبة والمعاقبة التي تُحوّل الإنسان إلى موضوعٍ وشيء، سواء في أثناء الفترة التي يقضّيها داخل السجن أو حتّى بعد خروجه منه.

وبينما يكتبُ، كان يؤكّد دوماً على رفضه لفكرة لعب دور الضحيّة؛ حتّى أنّه في كلّ مرّة تطلب منه الصحافة تقديم شهادة عن تجربته السجنية، يكون تعليقه مرتبطاً بعبارة “شهادة” في حدّ ذاتها، إذ يَعتبر أنّ “الشهادات” يُقدّمها الضحايا لا الأحرار، في حين أنّهُ يعتبر نفسه حرّاً اختار التمرُّد على المجتمع، ولذلك يَعتبر كلّ ما يكتبه عن السجن “رأيا” Opinion لا “شهادة” Témoignage.

عاش الحافظ بن عثمان حرّاً متمرّداً، وآمن بالكتابة والإبداع ورحل في 20 فيفري/ شباط 2015 مجهولاً في العالمَ العربي الذي لا يكتشف أبناءه إلّا بعد رحيلهم.

حصل على “جائزة مدينة باريس الأدبية” سنة 2003، وجائزة أفضل سيناريست بالفرنسية سنة 2010، إلى جانب جوائز كثيرة أُخرى. ومِن بين الأشياء الكثيرة التي ظلّت في ذاكرة أصدقائه، والتي تعكس تعلُّقه الكبير بالكتابة، أنّهُ حُكِمَ عليه في إحدى القضايا بالسجن خمسة عشر عاماً جرى تخفيفها بسرعة إلى أربعة أعوام، وعندما سُئل القاضي عن دواعي ذلك، قال: “لم تعُد الدولة الفرنسية مضطرّةً لأن تدفع ثمن ورشات كتابة السيّد بن عثمان”!

شاعر ومُترجِم تونسي مِن مواليد 1994. صدر له في الشعر: “أرض التوليب والجلّنار”، و”حجرٌ يؤوّلُ ظلّه”، وفي النقد: “السيري وقلق الهوية الأجناسية في التأمّل الشعري”، وفي الترجمة من الفرنسية: “آموك، سُعار الحب” لستيفان زفايغ، و”الفراديس المصطنعة” لشارل بودلير.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة