عبد الرحمن منيف.. قِطَع مرآة لفهم هزائمنا
(عبد الرحمن منيف)

عبد الرحمن منيف.. قِطَع مرآة لفهم هزائمنا

أنجز الكاتب، الذي تمرُّ ذكرى رحيله اليوم، أحد المشاريع السردية الكبرى في الرواية العربية، ليس بخُماسيّته فحسب، بل بكامل أعماله التي تُشكِّلُ رواية ضخمة تُجيب عن سؤال: كيف تَشكّل الواقع العربي في القرن العشرين؟

لا يزال مشروعُ عبد الرحمن منيف الإبداعي، على مسافة ستّة عشرَ عاماً مِن رحيله، يشغل الناس، ذلك أنه كان يخاطبهم بوضوح ولا يزال.

إنه أحد المشاريع السرديّة الكبرى في تاريخ الرواية العربية. ليس الحديث هنا عن خُماسيّته “مدن الملح” وحدها، بل عن كامل مشروع الكاتب الراحل (1933 – 2004)؛ فهو بمثابة رواية واحدة ضخمة، ربما تندرج ضمنها أعماله غير الروائية أيضاً. كلُّ تلك المؤلَّفات تجيب عن سؤال كبير مِن زوايا متعدّدة: كيف تَشكّل الواقع العربي كما هو عليه في القرن العشرين؟

صبَّ في الرواية معارفه التي تلقّاها في الجامعات حيث درس القانون فالاقتصاد. ومن قراءاته الواسعة في التاريخ والسياسة والأدب وعلم الاجتماع أتى بعناصر أخرى لمشروعه السردي.

لكن منيف صبَّ في الرواية ما هو أكثر: ما استمع إليه وهو يتنقّل بين مدن عاش فيها: عمّان، وبغداد، وبيروت، والقاهرة، وبلغراد، وباريس، ودمشق… كان يلامس هذه الفضاءات عبر حكاياتها، يُخزّنها في صدره – كما يفعل مع دخان غليونه – ثم يُطْلقها في الورق بعد إعادة تركيبها بشخصيات أُخرى.

كيف أجاب منيف عن سؤاله الكبير طيلة مشواره الإبداعي؟ سنرى ذلك عبر عددٍ مِن محطّات مشروعه الأدبي الذي أقام من العوالم المتخيّلة تاريخاً موازياً لتاريخ الشرق العربي الحديث بمناوراته ومؤامراته وأوهامه وخيباته.

لقد صنع عبد الرحمن منيف مرآةً كبيرة لنا.

■ ■ ■

“الأشجار واغتيال مرزوق” (1973)

في روايته الأولى، يقترح منيف علينا أن نستمع إلى مونولوغ لعالِم آثار يُدعي منصور عبد السلام خلال رحلة بالقطار نحو مكان مجهول. يرسم الكاتب موقع المثقَّف العربي ضمن بيئته. إنه الخاسر الأبدي. كلُّ فُرَص تحقيق الذات تنقلب معه إلى كوابيس: يخسر ممتلكاته، يُطرَد من وظيفته، يُرفَض حين يخطب فتاةً يحبّها، يُعتقل حين يمارس دور المُعارِض السياسي، ويعيش رعب اغتيال رفاقه، ومنهم مرزوق.

كانت الرواية مثل تنفيسة مِن صدر جيل مهزوم يتأمّل خيباته ويتجرّعها. يقول لنا منيف – عبر هذا العمل – إنَّ هزيمة المثقَّف هي بالضرورة هزيمة الوطن بأسره؛ فبدل أن يُفكّر هذا الكائن في حلول جماعية، ينهمك طوال الوقت في ترميم نفسه.

“قصّة حُب مجوسية” (1974)

صحيحٌ ألّا وجود لشخصية عربية ضمن هذه الرواية، وهي بذلك العمل الوحيد ضِمن أعمال عبد الرحمن منيف الذي لم يكُن أبطاله عرباً ولا يتقاطع فضاؤه المكاني بالجغرافيا العربية. لكن، ورغم ذلك، تُجيب “قصّة حُب مجوسية”، هي الأخرى، عن السؤال الذي يخترق كلّ أعماله: كيف وصل الإنسان العربي إلى ما هو عليه اليوم؟

تدرس الرواية حالة الإحباط في الحب، وتُقدِّم رؤيةً تأمُّلية وشعرية لعلاقات البشر بعيداً عن كلّ حدث تاريخي. يبدو العالَم الذي صوّره منيف منهاراً حول شاب (فرنسي) لا يجد سبيلاً إلى محبوبته. أطروحة الرواية تتمثّل في أنَّ قطع الطريق أمام إشباع أساسي مثل الوصال هو قطع طريق أمام إنسانية الإنسان. أليس هذا من أسباب انكسار الإنسان العربي؟

“شرق المتوسّط” (1975)

لم يحظَ هذا العمل بشهرة حين نُشر أوّل مرّة؛ ذلك أنَّ جُرعته السياسية كانت تشير بشكلٍ واضح إلى أنّه عمل مغضوب عليه بشكل مسبق، كما اعتُبر أنَّ في هذا النوع من الكتابة فجاجةٌ ومباشراتية لا تليق بفنّ الرواية.

لاحقاً، بعد عشر سنوات تقريباً على صدورها، ستتحوّل هذه الرواية إلى النموذج الأبرز لأدب السجون، وستُصبح أحد أكثر أعمال منيف شهرةً، لا تسبقها في ذلك سوى “مدن الملح”. والأرجح أنَّ “شرق المتوسّط” مقروءةٌ أكثر بسبب حجمها الصغير.
في “شرق المتوسّط”، تبدو الإجابة عن سؤال منيف واضحة، حادّة، جاهرة الصوت: إنه الطغيان.

لا يذكر الكاتبُ بلداً بعينه؛ فالنظام الذي دمَّر حياة بطل الرواية، رجب، يمكن أن يكون في سورية، كما في العراق، أو الأردن، أو السعودية، أو تونس أو المغرب. ليس المكان بفارق جوهري، لأنَّ النتيجة هي ذاتُها: مُواطِن مقموعٌ يصل إلى قناعة مفادُها أنّ كل نضالٍ ضدّ السلطة هو نضالٌ عبثي.

النهايات” (1977)

ربما كانت هذه الرواية هي البروفة الأولى لـ”مدن الملح”. الإطارُ المكاني هو قرية الطيبة في البادية ضمن علاقتها بالمدينة كسُلطة مركزية. كلُّ شيءٍ يعيش على إيقاع أمل ببناء سدّ تتجدّد الوعود بخصوصه بشكل دوري، لكنه لا يُنجّز. يضع منيف هذه التبعية تحت الضوء ليُفسّر مصير المجتمعات التي تترك مصيرها لقمةً سائغة لدى المتلاعبين.

يترُك المؤلِّف بعض الأمل في المشهد، من خلال اقتراح شخصية الصيّاد عسّاف الذي يبحث عن مَخرج لهذا الوضع المغلَق بعيداً عن الطُّرُق المكرَّسة. هو أقرب إلى الفوضوي، يُشبه صعلوك “الجاهلية”، ولكن هل يوجد خيار غير هذا النوع مِن المسارات المتطرّفة ضمن مقرّرات العالم الذي تسوده قواعد لعبة كالتي تظهر في “النهايات”؟

“حين تركنا الجسر” (1979)

مرّةً أُخرى يعتمد منيف على تقنية المونولوغ. البطل اسمه زكي النداوي، نتابعه في رحلة صيد مع كلبه وردان، والذي سيلعب دور المستمِع الذي يُفرغ فيه البطل شحنته الغضبية، ويُعرّي بذلك نفسَه أمام القارئ في حكاية متّوترة ومتشعّبة نكتشف سريعاً بأنَّ بناءها حول رحلة الصيد في الغابة ليس سوى ذريعة حكائية لإعادة تركيب عالَم من الهزائم المتتابعة. رحلة الصيد ليست أكثر من وسيلة تنفيس بعيدة عن المجتمع حيث لم يعرف زكي إلّا الفشل والخيبات.

الصيد هو الفرصة الوحيدة المتاحة لتحقيق الذات والانتقام من كلّ الهزائم باصطياد بطّة باتت تُجسِّد كل معاني الوجود، في غياب معنى حقيقي في الحياة الواقعية. من حولنا، ما أكثر الأشياء التي يُمكن أن نضعها مكان البطّة في “حين تركنا الجسر”.

“سباق المسافات الطويلة” (1979)

على الرغم من البعد السياسي الواضح في كل أعماله السابقة، يبدو عبد الرحمن منيف وكأنّه أجّل كتابة رواية سياسية بالمعنى الدقيق. إلى غاية كتابته “سباق المسافات الطويلة”، كانت مقاربته تقوم دائماً على الترميز في الأمكنة والشخصيات، كما تغيب خلفيات معرفته السياسية والاقتصادية، لكنه اتخذ في هذه الرواية منهجاً جديداً حين وضَع تحت ضوء الكتابة الأدبية الصراع على النفوذ في منطقة الخليج بين البريطانيّين والأميركيّين. وما الزمن العربي الراهن إلّا فرجةٌ على سباق المسافات الطويلة هذا.

لو عُدنا إلى السؤال المداري لأعمال منيف سنفهم في “سباق المسافات الطويلة” أنَّ الإجابة ليست مكوَّنةً فقط من عناصر داخلية، إنها أيضاً في ما يحمله الآخرون مِن مصالح وأطماع تجاه المنطقة. وبذلك فإنّ الرواية تبدو قد ذوّبت الكثير من المعرفة الجيوسياسية في نص أدبي.

إنّها، بشكل ما، العملُ الأقرب إلى عقل منيف ضمن رواياته حتى ذلك الوقت؛ منيف العارف بالاقتصاد والتاريخ والعلاقات الدولية، وليس فقط الباحث عن تفسيرات للخيبات في عمق الإنسان. ربما اكتشف في هذا العمل صوته الحقيقي.

“عالَم بلا خرائط” (1982)

في 1981، قرّر عبد الرحمن منيف أن يتفرّغ للكتابة الأدبية. مِن الواضح أنه انطلق، وقتَها، في مشروعه الأضخم “مُدُن الملح”، لكنَّ إصداره الأول بعد هذا القرار كان رواية “عالَم بلا خرائط”، وهي مغامرة مِن نوع آخَر؛ حيث أنّها أتت كعمل ثنائي مع جبرا إبراهيم جبرا. العجيب أننا أمام كاتبَين معروفَين، ولكنّنا لن ننجح في الفصل إن كانت أقربَ إلى أسلوب جبرا أم إلى أسلوب منيف. إنها نقطة الوسط بين أسلوبَين وبين مشروعَين.

تحضر الجريمة كمحرّك للأحداث، جريمة قتل نجوى العامري التي نعرف تفاصيلها من لسان المتهَّم الرئيسي، عشيقِها علاء الدين نجيب. هذه الجريمة هي الحدث الذي أتاح للراوي، وهو أستاذ جامعي، أن يكتشف هشاشة العالم الذي أحاط نفسه به. هذه الهشاشة تنسحب على كل شيء: قدرة المحقّقين، عمق العلاقات البشرية ضمن الأسرة الواحدة، أفق الطموحات الفكرية… باختصار، تتحدّث الرواية عن مأساة أن نعيش في عالَم بلا خرائط.

“مُدُن الملح” (1984 – 1989)

بهذا الترتيب، صدرت خماسية “مُدُن الملح”: “التيه” (1984)، “الأخدود” (1985)، “تقاسيم الليل والنهار” (1989)، “المنبت” (1989)، “بادية الظلمات” (1989). هنا أفرغ عبد الرحمن منيف كل خبرته الروائية وحصيلة معرفته، ومنها معرفته الدقيقة بقضايا النفط، تلك المادّة التي قلبت حال الصحراء فجأةً، فتناثر ناسُها بين المشاريع الضخمة كذرّات الغبار.
يُصوِّر منيف محاولات المقاومة في الجزء الأول مع صياغة متينة لشخصية متعب الهذّال، ثم ينتقل إلى كيفية بناء النظام السياسي الجديد على أنقاض أنظمة العلاقات التي أنتجتها مجتمعات الصحراء على مدى قرون، ولاحقاً يتّجه صوب الصراعات الداخلية على الحكم في محاكاة لتاريخ الدولة السعودية (يُسمّيها الدولة الهديبية).

مع لغتها الملحمية، قدّمت “مُدُن الملح” صوتاً تصعيدياً ينبع من الأدب ويواجِه بندّية خيارات العقل السياسي العربي. كانت عملاً شاملاً في كشف خطر التحوُّلات التي تهز إنساناً اقتُلع من جذوره. إنها إدانة موسَّعة للفقر الحضاري الذي تعيشه الأمّة العربية في نهايات القرن العشرين.

“الآن هنا.. أو شرق المتوسّط مرّةً أُخرى” (1991)

حصّل منيف مكانة أدبية أساسية في المشهد الأدبي بعد إنهاء خماسيته. فترة من الصمت (الروائي) فرضت نفسها بعد ذلك، كما هو الحال حين فرغ نجيب محفوظ من ثلاثيته.

ربما أغراه الاحتفاء المتأخِّر بأعماله الأولى بالعودة إلى “شرق المتوسّط” فكانت “الآن هنا.. شرق المتوسّط مرّةً أُخرى”؛ حيث ينسلّ عالَم من روايته القديمة، ولكنه ينظر إليه من زمن آخر، مِن الحاضر، مِن بداية التسعينيات تحديداً. وفي النهاية يصل منيف إلى نتيجة حزينة مفادها أن الصرخة التي أطلقها منذ 16 سنة ضد الطغيان والديكتاتورية ذهبت أدراج الرياح.

بعد هذه الرواية، سيتجسّد الصمت الروائي بشكل واضح حتى نهاية القرن. سيخاطب منيف قرّاءه – وهو في قمة الاعتراف الأدبي – عبر كُتب غير روائية: “عروة الزمن الباهي”، “لوعة الغياب”، “الكاتب والمنفى”، “سيرة مدينة”، “الديمقراطية أوّلاً.. الديمقراطية دائماً… “.

“أرض السواد” (1999)

بعد أن يكتب ملحمةً مثل “مُدُن الملح”، لا شكّ أن الروائي سيتساءل عمّا يُمكنه إضافته بعد ذلك. أتت إجابة منيف عن هذا السؤال في آخر أعوام القرن العشرين بروايته “أرض السواد” التي قدَّم فيها حفرية للمجتمع العراقي بالعودة إلى القرن التاسع عشر، مع وصول داود باشا إلى الحكم، وكيف أقام عرشه ضمن معادلات زمنه.

لكن التاريخيَّ لم يكن سوى ذريعة لدى منيف كي يضع كل العراق تحت مجهر التدقيق الروائي، مقدّماً تنويعة كبرى من الشخصيات مِن كواليس الحُكم إلى المقاهي الشعبية، مروراً بترتيبات التمرّد القبلي بعيداً عن المركز أو مناورات القنصل البريطاني الذي يتهيّأ للانقضاض الاستعماري على العراق.

كلُّ ذلك تحت إيقاع ثابت: العنف والعنف المضاد، حتى من قِبل الطبيعة التي تظهر في الرواية عبر فيضان نهر دجلة على بغداد بلا رحمة. هذه الفسيفساء الكبيرة كانت محاولة عبد الرحمن منيف الأخيرة لتفسير أسباب مأساة العراق في الماضي والحاضر. فأيّ فرصة للإنسان العربي كي يحقّق ذاته في أوطان بهذا الشكل؟

كاتب صحافي وباحث من مواليد تونس عام 1983، مقيم في فرنسا. يعمل محرّراً في القسم الثقافي لصحيفة “العربي الجديد”. يُعدّ حالياً أطروحةً في “جامعة لورين” حول تقاطعات الصحافة بالكتابة الإبداعية من خلال منهجيات السيميولوجيا ونظرية الأجناس.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
  • منير الجندي
    11 إبريل 2022 | 20:55

    عرض موجز ولكنه تناول عمق أدبيات المنيف وتجربته الفريدة، كإنسان، كمناضل و روائي.

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة