عصفورة عصفورة
(سيف وانلي، زيت على قماش، 33 × 49 سم)

عصفورة عصفورة

مندهشاً، يُتابع حفيدي من الشرفة اليمامةَ وهي تمرُّ بجوار السيّارات الرابضة، ثم تصعد إلى الرصيف وهي مستمرّة في البحث عن الطعام. منظرُها أعجبه. ينفتح بابُ بيتٍ أمامي ويخرج منه رجُلٌ يتّجه إلى عمله. تطير اليمامة وحفيدي بتابعها مشيراً إليها: عصفورة عصفورة!

كلَّ صباح، أقف في شرفة شقّتي قليلاً. أشكر الله لسماحه لي بيوم إضافي جديد. أتَت ابنتي في زيارة لي تمكث فيها عدّة أيام. معها طفلُها ذو الأعوام الثلاثة. أَصرّ الحفيد أن يصاحبني في الشرفة. نحن في الدور الثاني علوي. أتيتُ له بمقعد ليقف فوقه. أُحيط وسطه بيديَّ خشيةً عليه. به تطلُّعٌ وشغفٌ لمتابعة الشارع من تحتنا. اليمامتان اللتان أتابعهما كلّ صباح، أتيتا من علوّ لتهبطا على أرضية الشارع. إحداهما أمامنا تقريباً، والثانية على بعد خطوات. حفيدي رأى القريبةَ منّي وهي تهبط، فصاح مُشيراً إليها:

– عصفورة عصفورة!

بقي يتابع معي اليمامة القريبة وهي تضرب بمنقارها في الأسفلت تبحث عن شيء من بقايا الطعام؛ فهي جائعة وتكدح لتنال إفطارها. منطقتُنا كانت بيوتُها واسعةً ذات حدائق كثيرة الأشجار، هذا بخلاف الأشجار التي في الشوارع نفسها، ثم جرى هدمُ تلك البيوت الرحبة، ومحوُ الحدائق بأشجارها. وعلى جثث البيوت الرحبة والحدائق، جرى بناء عمارات شاهقة مثل العمارة التي سكنتُها. بدأت العصافير واليمامات وبقية الطيور تختفي يوماً بعد يوم، فلا طعام من دون حدائق، ولا أمان بكثرة الناس.

حفيدي يتابع مندهشاً، اليمامة تمرُّ بجوار السيّارات الرابضة، ثم تصعد إلى الرصيف وهي مستمرّة في البحث عن الطعام. منظرُها أعجبه، لكنه لم يفهم أنّ هذه اليمامة في جوع يُتعبها وخوف يرعبها من اقتراب أيّ إنسي أو غير إنسي. كلّما حاولت أنْ تلتقط شيئاً “تتبلّغ” به، ترفع رأسها لتراقب ما حولها.

بابُ بيتٍ أمامي ينفتح ويخرج منه رجُلٌ يتجه لعمله. تطير اليمامة وحفيدي بتابعها مشيراً إليها:

– عصفورة عصفورة!

تعود اليمامة بعدما يبتعد الرجُل، وتستمرّ في محاولاتها. وعندما تشتدّ الحركة الإنسانية في الشارع، تطير اليمامة التي أمامنا، هي ووليفتُها التي لا تبعد عنها كثيراً.

يحدث الأمر نفسُه في الصبح التالي. ينظر حفيدي، قبل وصول اليمامة، إلى أعلى، يُقلّب بصره هنا وهناك باحثاً عنها. أتت فأشار ناحيتها وصاح فرحاً بها:

– عصفورة عصفورة!

في الصباح الثالث، تنقر اليمامة في الأرض وترفع رأسها تراقب حولها خشيةً من أيّ خطر. مرّت دقائق، ولا أحد منّا – أنا والحفيد واليمامة – لاحظ القطّ الرابض تحت سيّارة. اندفع القطُّ سريعاً وأمسك اليمامة من رقبتها، وأسرع بها مُختفياً في أول ناصية.

يُتابع حفيدي المشهد مذهولاً، ولا يستطيع الكلام. يُمسكني من ياقة قميصي ويُركّز عينَيه في عينَي. عيناه متّسعان في ذهول ثم في تساؤُل. تنسلّ منهما دمعتان، ثُمّ… ينخرط في البكاء.

 

الإسكندرية، 27 يوليو/ تمّوز 2021

كاتب مصري نوبي، من مواليد الإسكندرية عام 1944. من إصداراته: “النوبة تتنفّس تحت الماء”، و”ليالي المسك العتيقة”، و”أحضان القنافذ”، و”الصحوة النوبية”، و”الشاي المر”، و”ثلاث برتقالات مملوكية”، و”كديسة”.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة