في يومها العالَمي… حرِّروا الصحافة
(صحافيّون في وقفة بالجزائر العاصمة للمطالبة بإطلاق سراح زميلهم رابح كارش، 25 أبريل 2021 – وكالة الأنباء الفرنسية)

في يومها العالَمي… حرِّروا الصحافة

يحاول الخطاب الرسمي التسويق لصورةٍ وردية عن واقع حرية الصحافة في الجزائر، لكّنه يكشف في المقابل عن رغبة حثيثةٍ في تشديد الرقابة على الإعلام، مِن خلال وضع نصوصٍ تشريعية جديدة تستهدف الصحافيّين والمدوِّنين.

استبَق وزير الاتصال الجزائريُّ عمار بلحيمر اليومَ العالمي لحرية الصحافة، الذي يوافق الثالث مِن مايو/ أيار مِن كلِّ سنة، بنشر رسالةٍ تناقلَتها مختلف وسائل الإعلام المحلّية، العمومية والخاصة، يرسُم فيه صورةً ورديةً عن وضع حرية الصحافة في الجزائر. وفي الوقتِ نفسه كان رابح كارش، مراسل جريدة “ليبرتي” في مدينة تمنراست (1900 كلم جنوب الجزائر العاصمة) يقبع في السجن؛ حيث وُضع رهن الحبس المؤقَّت في التاسع عشر مِن أبريل/ نيسان الماضي.

بالنسبة إلى الوزير، الذي يتولّى أيضاً مهمّة ناطق رسمي باسم الحكومة، فإن أهمَّ ما يُميّز واقع الصحافة في الجزائر اليوم هو أنَّ “رئيس الجمهورية جعل من حرية الصحافة مبدأ ثابتاً كرّسه دستور الأوّل مِن نوفمبر 2020 بكل الضمانات التي توفِّر للصحافي مساحةَ الحرية اللازمة لممارسة مهامه باحترافية وأخلاق، وهو ما لخّصَته المادة 54 من الدستور بالنصِّ على أنّه لا يُمكن أن تخضع جنحة الصحافة لعقوبة سالبة للحرية“. والحقيقةُ أنَّ هذه المادّة لم تمنع سَجن صحافيّين. ويُظهِر هذا الوضعُ تناقُضاً بين الواقع والصورة التي تُقدِّمُها الحكومة.

وتُطالِب، اليوم، المنظَّماتُ الدولية غير الحكومية، مثل “مراسلون بلا حدود” و”جمعية حماية الصحافيين” التي مقرُّها نيويورك بإطلاق سراح كارش وإسقاط التهم الموجَّهة إليه، مثلما طالَبت بخصوص الصحافيِّ خالد درارني الذي أُطلق سراحُه في فبراير/ شباط الماضي، بعد أن قضى أحد عشر شهراً في السِّجن، في انتظار إعادة محاكمته.

ولا يراود الصحافيّين الجزائريّين، وزملاءَهم في العالم، أدنى شكّ في أن كارش ودرارني وصحافيين آخرين سُجنوا بسبب ممارستهم لمهنتهم.

ينصُّ الدستور على عدم إخضاع الصحافة لعقوبة سالبة للحرية، لكن ذلك لم يمنع سَجن صحافيّين

أمّا الحكومة الجزائرية، فلديها “وُجهة نظر” أُخرى، فقد سبق لوزير الاتصال أنْ أسقط صفةَ الصحافيِّ عن درارني، في حين يُتابَع كارش بتهمة “نشر أخبار كاذبة من شأنها المساس بالأمن والنظام العموميَّين”؛ وهي تهمةٌ تتراوَح عقوبتُها بين سنة وثلاث سنوات سَجناً بحسب قانون العقوبات الذي جرى تعديلُه السنة الماضية لتجريم “نشر الأخبار الكاذبة” التي “تمسُّ بالنظام العام”.

وتُتيح هذه القراءةُ للقانون إخراج قضية كارش من إطار جُنَح الصحافة، على الرغم مِن أنَّ سبب تحريك الدعوى ضدّه مقالٌ نشرته جريدة “ليبرتي”، التي يعمل لحسابها، وتناول مظاهرةً شارَك فيها سكّان من المنطقة احتجاجاً على التقسيم الإداري الجديد.

ويكشف عدمُ متابعة الجريدة في هذه القضية حرصَ السُّلطة على تكييف متابعة الصحافيّين قانونياً بما يُبعِد عنها شُبهة تقييد حرية الإعلام، ويسمح بمعاقبة الصحافيّين بالحبس، على عكس ما تنصُّ عليه المادة 50 من الدستور، والتي يستشهد بها وزير الاتصال.

حقائق لا تحجبها الأرقام

مقابل هذا التكييف القانوني، تُفضِّل الحكومة تقديم الأرقام كأدلّة على وجود تعدُّدية إعلامية. وبذلك تدفع عن نفسها تهمة التضييق على حرية الصحافة؛ فقد حفلت رسالة وزير الاتصال بالأرقام؛ حيث قال فيها: “بقدر ما نفتخر بوجود قرابة 8500 صحفي و180 جريدة يومية تستفيد من دعم الدولة لورق الطباعة ومن الإشهار العمومي، بقدر ما نتطلَّع دوماً إلى ترقية دور الصحافة التعدُّدية الحرّة والمسؤولة“. وتضاف إلى هذه الأعداد الكبيرة عشراتُ المواقع الالكترونية التي يتوقَّع الوزير أن يصل عدُدها إلى مئة موقع “محصَّن” و”مؤمَّن” خلال بضعة أشهر.

يحاول الخطاب الرسمي حول وضع الصحافة في البلاد التغاضي عن الأدوات التي تستعملها الحكومة للسيطرة على وسائل الإعلام. غير أنَّ التصريحات الرسمية تكشف رغبةً في تشديد الرقابة مِن خلال وضع تشريعات جديدة؛ فقد اعتبر صحافيّون ومدافعون عن حقوق الإنسان، أنَّ تعديل قانون العقوبات لتجريم نشر الأخبار الكاذبة – الذي جرى في فترة الإغلاق جرّاء وباء كورونا – يستهدف الصحافيّين والمدوِّنين، وهو ما أثبتته الملاحقات القضائية اللاحقة. كما أنَّ المرسوم التنفيذي المنظِّم لنشاط الإعلام عبر الإنترنت تضمَّن قيوداً يعتبر الصحافيون أنها تهدف إلى منع بروز إعلام إلكتروني مستقلّ وحُرّ.

تعملُ السُّلطة على إحكام السيطرة على الإعلام الإلكتروني بعد أنْ فعلت ذلك مع غيره

تُزاوِج السلطات الجزائرية، في سعيها إلى السيطرة على الصحافة، بين احتكار الإعلانات، من خلال الشركة العمومية للإشهار التي تُسَيطر على 69 في المئة مِن السوق، والتشريعات التي توصَف بأنها سالبة للحرية؛ مثل المرسوم المنظِّم للإعلام الإلكتروني، والذي يشترط التوطين ضمن نطاق الإنترنت المحلي (DZ)، ويُمهِل كلَّ المواقع الناشطة حالياً اثني عشر شهراً (تنتهي في ديسمبر/ كانون الأوّل المقبِل) للتكيُّف مع الشروط الجديدة لممارسة هذا النشاط.

وبالنسبة إلى الناشرين فإنَّ الهدف من هذا الشرط هو إحكام السيطرة على الإعلام الإلكتروني والعملُ على ظهور إعلام خاضع في هذا الميدان الذي بقي مِن دون إطار قانوني يحكمه.

وتشير عمليات الحجب المتكرِّرةُ، التي تتعرَّض لها مواقع إخبارية تنتقد الحكومة، إلى الصداع الذي بات يُسبِّبه الإعلام الإلكتروني للسلطات الجزائرية، ما يدفعها إلى إرغام المواقع على التوطين في نطاق الإنترنت المحلّي لتسهيل مراقبتها، وإغلاقها إذا تطلَّب الأمر ذلك.

هوسٌ أمني

تشير صياغة المرسوم المنظِّم لنشاط الإعلام عبر الإنترنت، وتعديلُ قانون العقوبات ليشمل تجريم نشر الأخبار الكاذبة، إلى توجُّس السلطة من الصحافة، وطغيان المقاربة الأمنية على العلاقة معها، ولا يوحي الخطابُ الرسميُّ بتغيُّر قريب في هذه النظرة، رغم أنَّ السياسات المعتمّدة لم تمنح السلطة صوتاً مسموعاً في الداخل، ولا مصداقيةً في الخارج.

لم تنجح محاولاتُ التكييف القانوني للقضايا التي سُجن صحافيّون بسببها في الفصل بين تلك المتابَعات القضائية ومهنة الصحافة. وكانت الحملة الدولية مِن أجل إطلاق سراح خالد درارني قد ألحقت ضرراً بالغاً بصورة النظام السياسي الجزائري الذي أصبح يُقدَّم كنظام شمولي يقمع الحريات، ويجري تقديم قضية رابح كارش اليوم بالطريقة نفسِها. وفي الداخل، تتقاسم قطاعاتٌ واسعة مِن المجتمع هذا الحكم على السُّلطة.

بسبب سجن صحافيين، بات يُنظَر إلى النظام السياسي الجزائري كنظام شمولي يقمع الحريات

بدل السعي إلى معالجة مسألة الأخبار الكاذبة بتوسيع هوامش الحرية المتاحة لوسائل الإعلام، وتقديم خدمة عمومية حقيقية، اختارت الحكومة الجزائرية المعالجة الأمنية بتعديل القوانين واستعمال القضاء للحدِّ من حرية الإعلام، كما خلص إليه تقريرُ منظَّمة “مراسلون بلا حدود” لعام 2020، والذي وضع الجزائرَ في المرتبة 146 ضمن 180 دولة مصنَّفة في مجال حرية الصحافة.

الأسوأ مِن ذلك أنَّ وسائل الإعلام فقدت مصداقيتها وأفسحت المجال لمنصّات التواصُل الاجتماعي لتصبح بديلاً يعتمد عليه كثيرٌ مِن الجزائريين لمتابعة ما يجري في البلاد، مع كل المخاطر التي قد تنجم عن ذلك.

مع عصا القانون تُخرِج السُّلطة جزرة أموال الإشهار لاستمالة وسائل الإعلام بكل أنواعها، وأيضاً لتكريس هشاشتها. وهكذا يجري تحميل الدولة مزيداً مِن الأعباء المالية، رغم الأزمة الاقتصادية، لأنَّ ظهور نموذج اقتصادي جديدٍ لوسائل الإعلام يُكرِّسُ استقلاليتها المالية مِن شأنه أنْ يُفقد السلطة ما تعتقد أنّه مِن أهم أدوات السيطرة على المجتمع، رغم أنَّ هذه الأدوات فقدت تأثيرها منذ وقت غير قصير، وما تُقدِّمه من محتوى صار حجّة يَستعملها المطالبون بالتغيير السياسي وإطلاق الحريات.

كاتبٌ وصحافي جزائري مُهتمّ بالشأن السياسي.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة