كلوت

بيتٌ قديم أرى جانباً مِن سطحه المُطلّ على الشارع. على السطح، شدّت انتباهي شابّة واضحة التقاسيم، جلبابها البسيط يكشف أعلى الصدر، ويُعرّي ذراعَين بلون صباحنا المنعش. ببطنها تلامِس سور السطح، وتُطلُّ على الشارع مشغولةً بجمع الملابس المنشورة على حبال رفيعة.

كلوت
(حلمي التوني، مِن سلسلة "الفاكهة المحرَّمة" - جزء من لوحة)

صباح باكر.

جازفتُ وخرجتُ إلى الشرفة بقميص خفيف مُمسِكاً كوب شاي بالحليب. لسعة البرد مغريةٌ مع توقُّع شمس يوم صحو. ارتكنتُ على سور شرفتي، وهي أعلى شرفة فيما حولي. لا أحد امتلك الشجاعة ليفعل مثلي ويخرج إلى شرفته، أو حتّى ليُطلّ من نافذته. أسحب رشفات متوالية من الشاي الساخن المبهج.

البيت الذي في مواجهتي أوطأ بطابقٍ من بيتي. والذي على يساره كذلك، ثم الذي بعده أوطأ بطابقَين. بيتٌ قديم أرى جانباً مِن سطحه المُطلّ على الشارع. على هذا السطح، شدّت انتباهي فتاة شابّة واضحة التقاسيم، جلبابها البسيط يكشف أعلى الصدر، ويُعرّي ذراعَين بلون صباحنا المنعش. ببطنها تلامِس سور السطح، وتُطلُّ على الشارع مشغولةً بجمع الملابس المنشورة على الحبال الرفيعة.

أتعجّب… أفي هذا الوقت المبكر تقوم بجمع غسيلها؟! لمَ لا تنتظر ولو نصف ساعة حين تتقوّى الشمس وتدفّئ هذا الجو البارد؟ جريئة بهذا الصدر وأعلاه مكشوف، صدرٌ يَشعُّ ويُطل على هذا الجوّ غير عابئ بلسعة البرد. متحدّيةً بالذراعين العاريَين المتحرّكَين اللذين لا يهمدان من الحركة، تجمع قطع الملابس وتلتفُّ عائدةً إلى الخلف في ثلاث خطوات سريعة، وتُلقي بالملابس الجافّة في وعاء أحمر واسع، وبالمشابك الخشبية في وعاء أبيض صغير، ثمّ الخطوات الثلاث لتعود إلى حافّة سور السطح وتستند عليه ببطنها، لتجمع بقية الملابس، في خطواتها السريعة إلى هنا وهناك، جديلتا شعرها الأسود تتراقصان في مرح.

أُتابع الفتاة النشطة الساخنة في خطواتها الثلاث وأنا أرشف الشاي بلذّة. جسدها فتيٌّ ولا تهمُّه لسعة برد الصباح الباكر. تُرى… هل هي متزوّجة؟ إن لم يكُن، أليسَ ظُلماً أن تبقى شابّة فتيّة نشطة جميلة ساخنة مِن دون زواج؟ لم يُحرَم هذا الجسد مِن عنفوان تلاقٍ حميميّ مع ذَكَر يوازيها فتوّة؟

أفرُع الحبال خلت من الملابس الخارجية، لم يتبقّ سوى الملابس الداخلية التي تُنشَر في الخلف، حتى تكون بعيدةً عن الأنظار، خصوصاً الملابس النسائية، مثل حاملات النهود وحاويات المناطق الحميمة. مِن المعتاد أن تُجمَع الملابسُ الداخلية أوّلاً، ثم الملابس الخارجية، حتى لا تنكشف. الفتاة تفعل العكس!

عادةً تُجمَع الملابسُ الداخلية أوّلاً، ثمّ الخارجية، حتى لا تنكشف. الفتاة تفعل العكس!

الجميلة الطازجة لملمت كُلَّ ما تبقّى عدا قطعةً واحدة. عادت للوعاءَين حاملةً الكمّ الكبير. رشفتُ رشفةً طامعة من الشاي الساخن بالحليب، وعينايَ اللتان رصدتا القطعة المتبقّية تُتابِعان الحلوة بشغف. وكأنّ لهفتي وشغفي بها لامساها، أو صوت شهيق الرشفة المتلهّفة وصلت أذنيها المواربتين خلف خصلات الشعر المتماوج. رفَعت رأسها ناحيتي ولمحتني أنظر ناحيتها. لم تكن نظرتي إليها عابرةً… كنتُ أحدّق فيها بإمعان.

استوعَبَت الفتاة نوعية نظرتي، وعلِمتْ أنّني كنت أتابعها وأتابع غسيلها الجاف، فتوقّفَت جامدةً عند الوعاءين برهةُ، فقط برهة. ألقَت بما في يديها. عادت ناحية سور السطح، ولم يكن معلَّقاً في الحبال سوى القطعة الأخيرة المرصودة.. كلوت أحمر فاقع.

ارتبكَت وهي تأخذ الخطوات الثلاث الأخيرة ناحية السور، الجديلتان تضطربان في عصبية. تشعر بنظراتي تتابعها وهي متأكّدة أنني لاحظت الكيلوت الصارخ. برهة أخرى عند السور جمّدتها، ثم اندفعت يداها في سرعة وتناولت الكلوت بعزم، ثم نظرت إليَّ نظرة تحدٍّ.

وهي متجّهةٌ إلى الوعاءين، أطاحت برأسها إلى الخلف وذقنُها للأمام عالياً، وجديلتاها تتراقصان أكثر ممّا كانتا تفعلان. عند الوعاءين وقفَت مستقيمةً فبانت مساحة الصدر الخالية مِن أيّ قماش يغطّيها. رفعَت يسراها عالياً بالكلوت الأحمر المشتعل، راية شاهقة يراها من يراها فلا يهمّها، ثم وضعته في كبرياء لينضمّ إلى ما سبقه في الوعاء الأحمر. انحنت قليلاً وذراعاها بكاملهما تتألّقان كما أعلى الصدر. حملت الوعاءين وعادت تقف مستقيمة. نظرت ناحيتي وضربت بكفّها في تحدٍّ. خطوات وقبل أن تختفي أخرجت لي لسانها.

كاتب مصري نوبي، من مواليد الإسكندرية عام 1944. من إصداراته: “النوبة تتنفّس تحت الماء”، و”ليالي المسك العتيقة”، و”أحضان القنافذ”، و”الصحوة النوبية”، و”الشاي المر”، و”ثلاث برتقالات مملوكية”، و”كديسة”.

لتصلك أحدث قصصنا على بريدك الإلكتروني
التعليقات
شاركنا رأيك!
لا توجد تعليقات!

قصص رائجة

معذرة, لا يوجد محتوي لعرضه!
قصص قريبة