لا أحد يزور الأمير في قصره
كان عليَّ تذكير الحارس بأنَّ المبنى مرتبطٌ بشخصيةٍ تاريخية بارزة، ويضمُّ متحفاً لمقتنياتها، وبأنَّ المتاحف أُنشئت لتُزار. في النهاية، اكتفى بإرشادي إلى المتحف، وهو الغرفة التي رحل فيها الأميرُ بعد حياة صاخبة قضى قرابة ثمانية وعشرين عاماً مِنها في دمشق.

يستغرق الطريق قرابة ساعة، سيراً على الأقدام، مِن بيت الأمير عبد القادر الجزائري (1808 – 1883) في حيّ العمارة إلى قصره الصيفي في دُمَّر غربَي العاصمة السورية، مروراً بقلب دمشق الحديثة بعمرانها وضجيجها، والتي لم تكُن في أيامه سوى بساتين خضراء يخترقها نهر بَرَدى.
مِن أعلى التلّة المطلّة على طريق بيروت- دمشق، يلُوح القصر ببنائه المتفرِّد وسط البنايات السكنية الحديثة التي أخذَت، في السنوات الأخيرة، تحلُّ محلَّ أشجار السرو والصنوبر والكستناء التي جاورته طويلاً. باتَ المكانُ يفتقد إلى الهدوء الذي ميَّزه لأكثر مِن مئة وخمسين عاماً. ولِمن يعرف المنطقة جيّداً، سيتبيَّن أنَّ الطريق المعبَّدَة إلى القصر قد اقتُطعت، هي الأُخرى، مِن حديقته.
ثمّةَ سيّارة سوداء، مِن ذلك النوع الخاصّ بكبار المسؤولين، مركونةٌ في حرم القصر. بدت لي السيّارةُ غير منسجمةٍ مع المشهد البصري الذي يصنعُه المبنى التاريخي، وقد تخيّلتُ، لوهلةٍ، أنّها إحدى عربات الأمير التي تجرُّها الخيل، وقد وفد مع عائلته ليقضي فيه فترة الصيف، على جري عادته منذُ شيّده عام 1856.

(قصر الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق، 2020 – تصوير: رحبة)
لم يكُن في محيطِ القصر غيرُ موظَّف حكوميّ مكلَّف بحراسته. وبنبرةٍ تحذيرية لم تخلُ من التهذيب، طلب منّي الابتعاد والتوقُّف عن التقاط الصُّوَر؛ فالمبنى هو المقرُّ الرسميُّ لـ”هيئة التخطيط الإقليمي” التي استحدثتها الحكومة السورية عام 2010 بغرض “تنظيم عملية التخطيط والتطوير الإقليمي المكاني في أراضي الجمهورية”. كان عليَّ تذكيرُه بأنَّ المبنى مرتبطٌ بشخصيةٍ تاريخية بارزة، ولا يزال يضمُّ متحفاً يحتوي مقتنياتها، وبأنَّ المتاحف إنّما أُنشئت لتُزار. في النهاية، اكتفى بإرشادي إلى موقع المتحف الموجود في الطابق الأرضي من القصر، أقصى شماله الشرقي، مِن دون أن يسمح لي بدخوله.
أُنشئ المتحفُ في الغرفة التي رحل فيها الأميرُ بعد حياة صاخبة استمرّت خمسة وسبعين عاماً قضى قرابة ثمانية وعشرين مِنها في دمشق التي سيُغادرها بعد ثلاثةٍ وثمانين عاماً مِن رحيله؛ إذ دُفِن، بناءً على وصيّته، إلى جوار الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في الحي الدمشقي الذي بات يُعرَف باسمه، “حي الشيخ محي الدين”، ثمَّ نُقِل جثمانُه إلى الجزائر في الرابع مِن يوليو/ تمّوز 1966، ليُدفَن فيها تزامُناً مع الذكرى الرابعة لاستقلالها.
وصل الأميرُ، مع عائلته وأعوانه، إلى دمشق عن طريق بيروت عام 1855، قادماً مِن تركيا التي غادر إليها مِن فرنسا قبل ثلاث سنوات مِن ذلك. وكان في استقباله والي دمشق محمود نديم ورئيسُ العسكرية عزّت باشا وجمهرةٌ من أعيان البلدة وسكّانها الذين استقبلوه بحفاوة في قرية دُمَّر. وقد قيل إنّه لم يُرحَّب بعربي دخل دمشق مثل ذلك الترحيب منذ صلاح الدين الأيوبي.
وفي دمشق، سكن عبد القادر الجزائري داراً استأجرتها له الدولةُ العثمانية، وسرعان ما تحولَّت إلى محجَّة للوفود التي كانت تزوره فيها، قبل أنْ يشتري دارَين إحداهُما في زقاق النقيب بحيّ العمارة، على مقربة مِن الجامع الأموي الذي سيُدرِّس فيه، وضريح السيّدة رقية، ثُمَّ اشترى دُوراً وعقّاراتٍ في مناطق أُخرى، مِن بينها أرضٌ في دُمَّر بنى فيها قصره الصيفي.
في كتابه “الأمير عبد القادر الجزائري: العالِم المجاهد”، الصادر عن “دار الفكر المعاصر” في بيروت و”دار الفكر” في دمشق عام 1994، يذكر الكاتب والباحث السوري نزار أباظة أنَّ الأمير “اشترى بدمشق سبع دُور أُخرى جعل إحداهُنَّ منزلاً لأضيافه، وعدّة دُور في محلّة العمارة البرّانية جعل بعضها حديقة مقابِلةً للدُّور، وكان بَرَدى يمرُّ بين الدُّور والحديقة. واشترى مزرعةً بدير حدل بالغوطة وعمَّر بها بيتاً، وأرضاً في أشرفية صحنايا، وأرضاً في قرية قرحتا بطرف الغوطة، ومزرعة بلاس، وطاحونة الإحدى عشرية، وخان الصعب بالعمارة، وأرضاً بوادي دُمَّر، وبنى فيها قصراً لمصيفه. ولما تمّ بناؤه صنع وكيرةً ودعا إليها العلماء والأعيان وقرأوا شيئاً بعدها من صحيح البخاري للتبرُّك، وهنّأه الشعراء بالقصر في قصائدهم“.
آوى فيه بعضاً من مسيحيّي دمشق الذين تعرّضوا إلى مجزرةٍ أودت بقرابة 25 ألفاً منهم
شُيّد القصر وفق نمطٍ يجمع بين العمارَتين العثمانية والألمانية، ضمن طابقَين يضمّان عشر غُرف ويبلغُ ارتفاع كلّ منهما قرابة خمسة أمتار ومساحتُه قرابةَ أربعمئة متر مربَّع، وبينهما درج داخلي مِن الرخام يتفرَّع منه في الأعلى ممرّان كان يكسوهما خشب الأبنوس، بينما بُنيت على السطح غرفةٌ وحيدة تُشبه برج المراقَبة يُفضي إليها درَج ضيّق. وغالباً ما تُستخدَم هذه المساحة، التي تُعرَف في الشام باسم “الطيارة”، للاعتزال والاعتكاف.
يتوسَّطُ القصرُ، الذي يحتوي مدخلَين: رئيسيٌّ جهة الغرب وفرعيٌّ جهة الشرق، حديقةً تبلغُ مساحتُها حالياً قرابة 1400 متر مربَّع، هي كلُّ ما تبقّى مِن مساحتها الأصلية التي كانت أكبر مِن ذلك بكثير.
يرتبط القصرُ بأحداث باب توما التي تُعرف باسم “طوشة النصارى”؛ حيثُ كان أحد الأماكن التي خصّصها الأميرُ لإيواء بعض المسيحيّين الذين تعرّضوا عام 1860 إلى مجزرةٍ نفّذتها، طيلة ثلاثة أيّام، جماعات درزية ومسلمة، وأودت بحياة قرابة 25 ألف مسيحي.
لم ألتقِ في دُمَّر، التي توسَّعَت كثيراً لتُصبح واحداً مِن أكبر أحياء مدينة دمشق، بأشخاص يعرفون الكثير عن القصر أو عن الأمير نفسه، فمُعظَم الذين تحدّثتُ إليهم اكتفوا بترديد بعض المعلومات العامّة التي درسوها في المقرَّرات التربوية، بينما أشار أحدُ كبار السنّ، مِن سكّان الحيّ القُدامى، إلى “الجامع الكبير”، قائلاً إنَّ الأمير بناه على نفقته الخاصّة، كأوّل جامع في القرية، مضيفاً بأنّه استقدَم له خطيباً مِن قرية حلبون في ريف دمشق. أمّا آخر، فقال إنَّ عائلات المنطقة كانت، طيلة الفترة التي سبقت ترميمه، توصي أبناءها بعدم الاقتراب مِن القصر أو العبث بما فيه، بالنظر إلى ما تُكنّه مِن احترامٍ للقصر وتبجيل لمَن كانوا يسكنون فيه.
ظلَّ القصرُ مهجوراً ومهمَلاً لحين من الزمن، قبل أن يستفيد مِن مشروع ترميم عام 2006 بتمويل مِن “المفوَّضية الأوروبية” ضمن برنامج “إحياء التراث الثقافي في حوض البحر المتوسّط”. وقد خُصِّص للمشروع – الذي استمرّ قرابة 14 شهراً، نصفُ مليون يورو اقتُطِع مِن منحةٍ لتحديث البلديات بلغت قيمتُها 18 مليون يورو. لكنَّ التكاليف النهائية بلغت 1،4 مليون يورو، بسبب الأشغال الإضافية التي ظهرت ضمن الموقع العامّ خارج القصر، ومن بينها تحويل الحديقة إلى “حديقة بيئية”، وشقُّ طريق رئيسية إليه.
حافظَ الترميم على الملامح الأساسية للقصر مِن الخارج. لكن الأمر ليس كذلك مِن الداخل
حافظَت عمليةُ الترميم على الملامح الأساسية للقصر مِن الخارج. لكن يبدو أنَّ الأمر يختلفُ مِن الداخل. ذلك ما فهمتُه مِن كلام الأميرة بديعة الحسني الجزائري، التي استقبلَتني بحفاوةٍ في منزلها بحيّ الروضة، على بُعد أمتار قليلةٍ مِن السفارة الجزائرية في دمشق.
في حديثها إلى “رحبة”، تُوضِّح الأميرة بديعة بأنَّ “ترميمات القصر احترمَت شكلَه التاريخي، وخصوصاً خارجياً. لكن، وبسبب ضعف التمويل، عجز المرمِّمون عن محاكاة فخامته الداخلية التي تتجلّى، على سبيل المثال، في خشب الأبنوس الفاخر الذي كان يُزيِّن أدراجه. كما غابت بعض التفاصيل الدقيقة فيه“.
تُضيف المتحدِّثة بأنّها اضطرّت إلى حضور جانبٍ كبير مِن عمليات الترميم، والإسهام فيها، بسبب نقص المعلومات الدقيقة وغياب المخطَّطات الهندسية: “كنتُ أُرشدهم إلى كثير من التفاصيل؛ مثل مرافق القصر المطموسة وغرفه واستخداماتها“.
وتُشير الأميرة بديعة إلى أنّها كانت، مع أُختها هند ووالدتهما، آخر من سكن القصر مِن أحفاد الأمير عبد القادر، قبل أن يُغادروه نهائياً عام 1948.
وبينما عبّرت عمّا أسمته ارتياحاً نسبياً لامتلاك جهات حكومية القصر بدلاً مِن تحوُّله إلى ملكية للأفراد “قد تطمس قيمته التاريخية”، أبدت حفيدة الأمير انزعاجها مِن إغلاق أبواب المتحف، الذي يضمُّ بعض مقتنياته، في وجوه الراغبين في زيارته.

(الأميرة بديعة الحسني في بيتها بدمشق، 2010 – تصوير: بلقاسم سعيد خالدي)
وهي تُقارب عامها التسعين، لا تزال الكاتبة والباحثة الجزائرية، التي ألّفت قرابة خمسة عشر كتاباً، في كامل اتّقادها الذهني. تقول، في ختام حديثها إلى “رحبة”، إنّها كرّست حياتها وكُتبها لتصويب ما تقول إنّها مغالطاتٍ شابت سيرة جدّها الذي تُشدِّد على أنّه “لم يُنفَ مِن الجزائر، بل غادرها بكامل حريته وكرامته، قبل أن يعترضه الفرنسيّون في عرض البحر ويقوموا بأسره“.

كاتبٌ وشاعر سوري مُقيم في دمشق، عمل في الصحافة الأدبية، وله العديد من المقالات المنشورة في عددٍ من المواقع والصُّحف العربية. صدرت له مجموعةٌ شعرية بعنوان “مواعيد”، وله تحت الطبع مجموعةٌ أُخرى بعنوان “أعطِني نهري وخُذ ضفّتَيك”.