“لقاء مارس”: العمل الفنّي الجماعي في مواجهة القمع
جاءت النسخة السادسة عشرة من "لقاء مارس" في ظلّ حرب الإبادة الجماعية التي تتعرّض لها غزّة. جانبٌ من نقاشات ومعارض وعروض التظاهرة أضاءت على الفنّ وتشابكه مع النضال الفلسطيني الممتدّ لعقود دفاعاً عن الإنسان والأرض.
جاءت النسخة السادسة عشرة من “لقاء مارس”، من تنظيم “مؤسّسة الشارقة للفنون”، مطلع الشهر الجاري، في “مدرسة خالد بن محمد” بالشارقة، بعنوان “تواشجات”، وشهدت مداخلات ونقاشات وعروضَ أداء تراوحت ما بين الفنون البصرية والأدب والسينما، وصولاً إلى التاريخ والسياسة والنشاط الحقوقي والعلوم الإنسانية.
امتدّ برنامج الفعالية ليشمل ورشاً إبداعية وحوارات جانبية بين مختلف المشاركين، انطلاقاً ممّا تعنيه كلمة “تواشجات” من “تداخل وتشابك” بين الممارسين الفنّيّين وتصوّراتهم عن الواقع المحلّي وتطلّعاتهم المستقبلية؛ وهو ما شكّل ثيمة هذه النسخة التي سلّطت الضوء على الجماعات الفنّية ومفاهيم الروح الجماعية والتعاون وصناعة الخطاب والتضامن المجتمعي في مواجهة القمع، وكذا إعادة التفكير في نماذج الإنتاج الفنّي وارتباطها بالقضايا المُلحّة، في خضمّ ما يعيشه العالم من أزمات وصراعات غير مسبوقة.
نسمع فلسطين..
سبقت اليوم الأوّل من “لقاء مارس”، زيارة إلى معرض “في عيون حاضرنا، نسمع فلسطين”، المُقام بعيادة “الذيد” القديمة و”قصر الفنون”، والذي يفتح المجال للتعرّف إلى الإنتاج الإبداعي لمجموعة من الفنانين كرّسوا ممارستهم الفنّية لخدمة القضية الفلسطينية، ورصد الأوضاع السياسية الراهنة، والدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني.
يُقام هذا المعرض الخاص (23 ديسمبر/ كانون الأوّل 2023 – 14 أبريل/ نيسان 2024) في ظلّ حرب الإبادة المتواصلة التي تتعرّض لها غزّة، ليكون شاهداً على النضال الفلسطيني الممتدّ لعقود دفاعاً عن الأرض والسيادة، كما يأتي في سياق دعم “مؤسّسة الشارقة للفنون” المستمرّ لفلسطين وشعبها.
يتضمّن المعرض 60 عملاً فنياً تتنوع ما بين لوحات وأعمال تركيبية وأشرطة فيديو، من بينها أعمال باسل عباس وروان أبو رحمة ومنى حاطوم وماريو ريتسي وعبد الحي مسلّم زرارة، وكلّها توثّق على مدار أزيد من 75 عاماً لآلام الشعب الفلسطيني من تهجيرٍ قسري وحروب همجية وخسائر فادحة، وآماله التي تحتفي بالموروث والهوية والتعبير الإنساني الحرّ.
أن تكون في هذا العالم
تمحورت مداخلة الكاتب البريطاني من أصل باكستاني طارق علي (1943، لاهور) حول تأثير كلّ من السياسة والثقافة إحداهُما في الأخرى. وإن أقرّ أنّهما مترابطتان منذ القِدَم وتحملان طابعاً عالمياً وتقاليد راسخة في كلّ الثقافات بما فيها الثقافة العربية، فإنّه اعتبر أنّ الناس ينسَون السياق الذي أُنتِجت فيه الأعمال الفنّية والكتابات الإبداعية.
“وماذا يحدث الآن؟ إنها المأساة التي تعيشها غزّة والإبادة الجماعية التي نشاهدها على شاشات التلفزيون كلّ يوم منذ ما يقارب نصف سنة. في مقابل ذلك مظاهرات لملايين الأحرار حول العالم لمناهضة العدوان الإسرائيلي وسياسات الحصار والتجويع”. لذلك وجبَ علينا، كلٌّ بطريقته، يقول صاحب رواية “خماسية الإسلام”، أن “نروي القصّة، ونُوثّق ما يحدث، ليس منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، وإنّما منذ نكبة 1948، لأنّ التاريخ والذاكرة عدوّان لعالم المال المهيمِن، والإنتاج الفنّي المؤثّر لا شك أنه يُقلق الكثيرين لأنه يكسر السردية الرسمية الوحيدة، كما أنّ المقالات الاستقصائية والأبحاث الموضوعية لن تكون أبداً مجرّد مواد لتُحشر تحت مظلّة واحدة، إنما سيكون لها تأثيرها، وإن كان بطيئاً نوعاً ما”.
وختم الروائي والكاتب المسرحي والسيناريست طارق علي مداخلته بالقول: “الفنّ يجعل الناس يفكّرون بشكلٍ مختلف، إنّه صوتٌ معارضٌ شعبيّ نسمعه في كلّ الشوارع اليوم… لأنّ مأساة غزّة ومقاومة شعبها أيقظتا الكثير من القضايا الجوهرية العالمية”.
حزمة مفاتيح
يقول الفنّان الفلسطيني المقيم في فرنسا تيسير البطنيجي (1966، غزّة) إنّه كان سابقاً يعزّي نفسه من حرمانه من دخول غزّة بأنّ أهله موجودون في بيتهم هناك، إلّا أنّ ربط الذكريات اليوم بالمكان الذي لم يعُد موجوداً والأهل الذين استُشهِد الكثير منهم، يبدو أمراً صعباً جدّاً، بل إنّ الكلمات لا تُعبّر حقيقةً عن مأساة ما يحدث.
“من باب الاحتياط” (2015) هو مشروع فنّي أقامه البطنيجي حول ثيمة “المفاتيح” كوسيلة حياتية لها رمزية كبيرة ترتبط بالفقد والهشاشة وعدم الثبات، وهذا ما يجعل أصداء ما يحدث الآن في غزّة تتردّد بشكلٍ جليّ في أعماله التي تشمل عدّة وسائط من الرسم والفوتوغراف والتركيب، إلى الفيديو والعروض الأدائية.
في عملية آنية يطلب الفنّان من الجمهور نسخَ حمّالات مفاتيحهم باستعمال آلة نسخ ورقية وُضعت تحت تصرّفهم، ليتمّ لاحقاً تعليق الصور، ثنائية الأبعاد، على الجدار، لتحتلّ مساحة كبيرة منه، لكنّها تظلّ مرتبطة بالهشاشة وعدم اليقين. هكذا يتعاطى هذا العمل مع اللحظة الراهنة التي تشهد ترحيل مليونَي فلسطيني في قطاع غزّة منذ بدء العدوان الإسرائيلي، وفقدانهم لبيوتهم ومفاتيحها بعد تدمير ما يفوق نصف بنيته التحتية.
فعلُ مقاومة
في جلسة حوارية أدارها التشكيلي إسماعيل الرفاعي (مستشار التحرير والمحتوى العربي في “مؤسّسة الشارقة للفنون”)، جرى التطرُّق إلى تجربة وتاريخ مجموعة “نحو التجريب والإبداع” الفلسطينية، المتكوّنة من نبيل العناني وسليمان منصور وتيسير بركات وفيرا تماري، وقد كان للفنّانين الأربعة الفضل في الارتقاء بالمشهدَين الثقافي والفنّي في فلسطين المحتلّة، على مدار عقود انتقلت فيها الحركة التشكيلية الفلسطينية من الأعمال الرمزية الوطنية السياسية إلى أعمال للفنّ المفاهيمي أكثر انفتاحاً وتفكيراً وعمقاً.
اتّجهت المجموعة نحو تجريدٍ من نوع مختلف، باستعمال عناصر الطبيعة، بعد مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وبالتالي البحث عن مواد خام تُستعمل في إنجاز الأعمال الفنّية. لم يكن للفنّانين مكانٌ غير بيوتهم وورشاتهم الخاصّة لإنجاز أعمالهم وعقد الاجتماعات، ومع ذلك تمكّنوا من إقامة معارض في عمّان ولندن ونيويورك وموسكو وغيرها من العواصم.
بعد نكبة عام 1948، وقبل الانتفاضة الأُولى، تمحور الفنّ التشكيلي الفلسطيني عموماً حول الهوية والذات، والرغبة في إثبات الوجود والتمسّك بالأرض، وحظيت عدّة معارض بإقبال جماهيري، لكن مصادرة اللوحات من طرف الاحتلال وسجن الفنانين جعلا الكثيرين يغادرون.
في هذا السياق، أسهمت مجموعة “نحو التجريب والإبداع”، من خلال توجّهاتها المعاصرة، في خلق تجارب فنّية فردية بارزة خاطبت العالم بأدواته الحديثة، من دون التخلّي عن خطّ الإنتاج الفنّي الرمزي المعبّر عن الوطن والثورة والمقاومة، مع دخول مواضيع جديدة كالجسد والمرأة والراهن، ما شكّل، على مرّ الأجيال، أعمالاً أيقونية تُرى اليوم في منجزات جيل الشباب كامتداد للإرث السابق.
أمام الدمار الممنهج الذي يحدث الآن في غزّة، وفي جل الأراضي المحتلّة، تؤكّد تجربة مجموعة “نحو التجريب والإبداع” أنّ تحدّيات إلغاء صوت الفنّان الفلسطيني ما زالت قائمة. ورشاتٌ ومراسم دُمّرت الآن في غزّة، ومصيرها لا يختلف عن مصير الفنّان والإنسان الفلسطيني. وفي هذه المرحلة المفصلية يجري العمل الآن على إقامة معرضٍ فنّي يجمع 300 عمل لاستعادة روح الجماعة والتفافها حول القضية.
النسيج والذاكرة
برزت في اليوم الأخير من “لقاء مارس” مجموعاتٌ فنّية من مناطق مختلفة، تحدّثت عن مشاريعها الفنّية المُعاصرة وتقاطعاتها الثقافية مع الذاكرة الجمعية، وتحديداً الطابع المادي والملموس للنسيج، من خلال تجريب الحياكة والتطريز وممارسات الخياطة، ودمج المواد الخام التي تُعتبر أساسية في النظام العالمي للرأسمالية وقوى التدمير والإقصاء الجديدة، بل وتقوم بسببها الحروب. ليُطرح السؤال التالي: ما هي العلاقة بين الذاكرة والمادية والنزاع؟ وما هو دور الفنّ والحراك في تصدير قضايا المرأة؟
عن “مجموعة نول” التي تعمل في فلسطين والأردن، تحدّثت الفنّانة ياسمين مجالي عن كيفية مساهمة الملابس والأزياء المبنية على التطريز في إلقاء الضوء على قضايا المساواة الاجتماعية ومناهضة العنف ضدّ المرأة، بالإضافة إلى إعادة العلاقة مع هذا النوع من الملابس بوضع الجمهور في قلب عملية الإنتاج.
توضّح مجالي أنّ تنوُّع أشكال التطريز من مدينة إلى أُخرى يرتبط بتاريخ كلّ مدينة وموقعها الجغرافي وثقافتها المحلّية، كما أنّ للثوب المطرَّز تاريخ من التعلّم وحكاية القصص، في ظلّ ما يواجه المشروع من صعوبات يفرضها الاحتلال الصهيوني والشروط المتزمّتة في نقل البضائع.
توقّفت المتدخّلة عند ذكرى النسّاج المحترف محمد جمال الذي استشهد في بداية الحرب على غزّة، وهو أحد القلائل الذين عملوا على نسج قِطعٍ تحملُ كلّ واحدة منها ذاكرة وحياة يومية وتوقّعات مستقبلية لا تختلف عن مشاعر الإنسان المتناقضة.
مشروع “الذاكرة المنسوجة”، والذي تمّ إنشاؤه من نسجِ الأسلاك النحاسية مع التركيبات الصوتية الفنانة التشيلية الكندية سوليداد فاطمة مونيوز منذ عام 2021، يعكس أحد جوانب التعاون الفنّي لفريق العمل مع المجتمعات المحلّية في تشيلي لإثارة حالاتِ وعي نقديّ حول انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكبت خلال سنوات الديكتاتورية العسكرية (1973 – 1990) وتداعياتها على المجتمع اليوم.
تسعى أعمال “الذاكرة المنسوجة” إلى إحياء ذكرى حياة المعدومين السياسيّين، والمعتقلين المفقودين، ومشاركة الذاكرة الحية للسجناء السياسيّين الذين نجوا من مراكز الاعتقال السرية، للتأكيد على أنّ المقاومة ليست أبداً شيئاً من الماضي.
أوضحت مجالي وفاطمة مونيوز أنّ المشروع اعتمد على الأرشيفات في مقابل العمل على إعادة صياغة هذا التاريخ في سياق النزعة الاستخراجية المُعاصرة للمواد الخام وتأثيرات السياسات النيوليبرالية في المنطقة، فالمعضلة كانت دائماً مزدوجة: “ديكتاتورية داخلية، واستغلال خارجي”، ما تسبّب في الجفاف وانتشار الأمراض والوباء وغياب الحرية والعدالة والمساواة.
ومن غواتيمالا، التي مزّقتها الحرب الأهلية والإبادة والاضطهاد، تشكّلت “مجموعة لاريفويلتا” من جيل جديد من النساء الغواتيماليات اللاتي اخترن مواجهة النظام الأبوي، بتعزيز الحوار وإعادة صياغة السرديات والذكريات من خلال الأعمال النسوية ومنها النسيج؛ حيث تمّ اتخاذ ما توفّر من إمكانيات كوسيلة للمقاومة والتحرّر، باعتبار أنّ المرأة ليست مجرّد شاهدة في مسارات التاريخ، بل بطلة أيضاً.
وتَبرز تجارب الذاكرة ومحاولات بناء بدائل جديدة كسيناريوهات للعدالة والمساواة، وتوفير مساحة آمنة للنساء للتعبير عن احتياجاتهن. تعمل “لاريفويلتا” على إبراز نضال الحركة النسوية بالاعتماد على الفنّ، بهدف كسر الأفكار السائدة في النظم المجتمعية الذكورية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفنّ والهشاشة
يُمثّل “لقاء مارس”، وفق القائمين عليه، دعوة مفتوحة ومتجدّدة للمشاركين للمساهمة في رسم تصوّر جديد لمستقبل أكثر إنصافاً، يقوم على مبادئ الاستدامة والعدالة والعيش الكريم، وذلك بالاعتماد على أشكال متعدّدة من الإنتاج الثقافي والمعرفي ضمن الممارسات التعاونية بين الجماعات الفنّية، طارحاً مجموعة من التساؤلات؛ مثل: كيف يمكن للعمل التعاوني أن يُعزّز من مفاهيم التمثيل الفنّي الفاعل، لا سيما إبان الاضطرابات العالمية؟ وما هو دور مشاركة الموارد الفنّية والثقافية في التعامل مع الهشاشة، وغياب الاستقرار، وتحفيز الحوار وتعزيز المساواة؟
شاعر وصحافي جزائري، من مواليد 1979. بالإضافة إلى الكتابة الصحافية والمتابعات الأدبية والفنّية عبر عدد من الجرائد والمجلّات الثقافية الجزائرية والعربية، يشتغل بين الإذاعة والنشر والتحرير منذ 2007. صدرت له خمس مجموعات شعرية.